الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة ورئيس تحرير مجلة (الهدي النبوي)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
تزامَلْنا وتآخَيْنا منذُ أكثر من خمسٍ وأربعين سنةً، لله وفي سبيل الله. نَصْدُر عن رأي واحد، وعقيدةٍ سليمة صافية، في الاستمساك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا نحيد عنهما ما استطعْنا، وفي نُصرة العقيدة السَّلَفية، والذبّ عنها ما وَسِعَنَا ذلك. لم يَصْرفنا عما قُمْنا له وبه، واضطلعنا بالذبّ عنه، ما لَقينا وما نَلْقَى من أذًى أو عَنَت. ولعلنا - فيما قمنا به معًا - من أول العاملين على نشر العقيدة الصحيحة في بلادنا هذه، وما أريدُ بهذا فخرًا بعملي ولا بعملك، فما كنّا نعمل إلَّا لله.
وكان من أعظم المصادر العلمّية التي استضأنا بنُورها - بعدَ الكتاب الكريم والسنة المطهرة - كتبُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام الحافظ ابن القيم، ثم كتب شيخ الإسلام (مجدّد القرن الثاني عشر) محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله جميعًا.
وكان مما قرأنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وما كتَب الناسُ حولَه، من مؤيدّيه وأتباعه، ومن خَصْمه وأعدَائه - أَنْ وجدناه رجلًا مكذوبًا عليه، يَفْتَرِى عليه عدوُّه الفِرَى، ويرمونه بالأكاذيب، ويقوّلونَه
ما لم يَقُلْ، وينسبون إليه ما لم يفعل، بعامل العصبية الجامحة، والحقد الذي ملأَ قلوبهم، مما يطول شرحُه أو تفصيله، ولعلك أعلمُ به منّى، بل أنا أثقُ بذلك.
ولكنّى - فيما قرأتُ، وما أكثرَ ما قرأتُ - لم أجد واحدًا من الناسِ، متقدّميهم ومتأخرّيهم، رَمَى شيخ الإسلام بالكذب فيما يَحْكِى أو يَنْقُل، أو بالوَهم والتخيُّل فيما يَرَى ويَسْمع ويقول. وأعتقد أنك لم تَقَعْ على شيء من ذلك أبدًا، فلقد أخذت مني الدهشة مأخذها - إذَنْ - حين قرأت في مجلة (الهدي النبوي)، في عدد شهريْ رجب وشعبان من المجلد 19 سنة 1374، في ص 31، أثناء فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية، (في الردّ والإنكار على طوائف من الضُّلال) تعليقك على كلام الإمام شيخ الإسلام، حين يقول:
(وأما كونُه لم يتبيَّن له كيفيةُ الجِنّ ومقاماتُهم، فهذا ليس فيه إلا إخبارُه بعدم علمه، لم ينكرْ وجودَهم. إذْ وجودُهم ثابتٌ بطرق كثيرة غير دلالة الكتاب والسنة، فإن من الناس مَنْ رآهم، ومنهم مَنْ رآى من رآهم، وثبت ذلك عندهم بالخبر اليقين، وفي الناس من كلَّمهم وكلَّموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرَّف فيهم، وهذا يكون للصالحين ولغير الصالحين، ولو ذكرتُ ما جَرَى لي ولأصحابي معهم لطال الخطابُ. وكذلك ما جرى لغيرنا).
أدهشني أكبرَ الدهشة، وأنكرتُ أشدَّ الإنكار - تعليقكم في هامش الفتوى، عند قوله (ويتصرّف فيهم)، بما نصه: "ليس ثَمَّ دليل
على صدق أولئك المُخْبِرين، ولعل أكثرَهم كان واهمًا ومُتَخَيِّلًا. وقد قال الله:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
فأول ما آخذُه على قولتك هذه، أنها رميٌ صريح لشيخ الإسلام بالكذب والافتراء! أو على الأقل بالغفلة والغباء! ! فإن تراه يزعم أنّ "من الناس من رآهم" و"من الناس من كلَّمهم وكلّموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم" ثم يقول: "ولو ذكرتُ ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب". وليس لهذا الكلام معنى في لغة العرب إلا أن شيخ الإسلام رحمه الله كان له مع الجِنّ شيء ممّا حكاه: إمَّا أنه رآهم، وإما أنه كلمهم وكلموه، وإما أنه "يأمرهم وينهاهم ويتصرّف فيهم". فإذا عقَّبْتَ أنت على هذا القول بأنه "ليس ثَمَّ دليلٌ على صدق أولئك المخبرين" لم يكن معناه إلا أنّ هذا الذي حكاه شيخُ الإسلام لم يَقَعْ منه شيءٌ؛ لأنه ليس هناك دليل - عندك - على صدق المخبرين "ولعل أكثرهم كان واهمًا ومتخيلًا"! ! وهؤلاء المخبرون: شيخ الإسلام، فيما زَعَمَ أنه جَرَى له، وغيرُه الذين لم يُسمِّهم "من أصحابه"، وليس لنا شأنٌ بمن لم يُسَمِّه هو من أصحابه، وإن كنّا موقنين من توثقه وتحريه فيما يحكي عنهم ولو إجمالًا، إنما الشأن فيما حكاه هو عن نفسه! !
وأُعيذُك بالله من أن تقصد إلى رمي شيخ الإسلام - عن عَمْدٍ - بما يُفهم من قولك، إذا فُهم بدلالة لسان العرب. وأقصى ما أستطيعُ من حمل كلامك على أحسن محامِله، بحسن الظن بك - أنك رأيت
رأيًا رسخ في قلبك، وغَلَبَك رأيُك فلم تستطعْ له دفعًا، فجرى به قلمُك حين رأيتَ القول بأنّ "من الناس
…
ومن الناس
…
"، فكتبتَ تعليقك عندَه، قبل أن تقرأ ما جاء بعده، من أن شيخ الإسلام يثبتُ شيئًا كثيرًا من ذلك جَرَى له ولأصحابه مع الجنّ، بل لعلك حين هَدَأتْ نفسُك، واستراح قلبُك بما خَرَج منه، لم تقرأ آخر الكلام، أو قرأتَه غير عابئٍ به، ولا مُلْقٍ له بالًا، ولا مُتَعَمّقٍ فيما وراءه من معنًى ولستُ أدري أيقومُ هذا الاعتذارُ أم ينهار؟ إنما هذا هو الذي صنعتْ يدُك.
* * *
ثم أكثرُ من هذا وأشدُّ خطرًا: أنّ إنكارَك ما أنكرتَ، فيه إنكارٌ لكثير مما ثبت بالسنّة الصحيحة، التي عِشْنَا عُمُرَنا نَدْفَعُ عنها، ونردُّ على منكريها، ونعيبُ متأوّليهما بما يُخرج الكلام عن معناه الصحيح، ولعلك تذكر من هذا الشيء الكثير.
ولستُ الآن بصدد تحقيق الأحاديث الثابتة، في رؤية بعضِ الصحابة - رضوان الله عليهم - للجنّ، وتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فيما حَكَوا عمّا رَأوْا، فأنا أثق أنك قرأت من ذلك ما قرأت أو أكثر منه، وأنك عرفته حقَّ المعرفة، وإنما يكفي من ذلك الإشارة:
فحديث أبي هريرة في صحيح البخاري (4: 396 - 398 من فتح الباري) - فيه قصتُه مع الجنّي الذي كان يأخذُ مما كُلِّف أبو هريرة بحفظه من زكاة رمضان، وأخذه إياه، ثم إنه خلى عنه حين أبدى له
حاجة عياله، وقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة:"أما إنه قد كَذَبك، وسيعودُ"
…
فعل ذلك ثلاث مراتٍ، ثم قال له الجنّي:"دَعْني أُعَلِّمْكَ كلماتٍ ينفعك الله بها"، ثم علَّمه أن يقرأ آية الكرسي، وأنه لن يزالَ عليه من الله حافظٌ ولا يقربه شيطانٌ، حتى يُصْبِح. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة:"أمَا إنه صَدَقَك، وهو كَذُوبٌ. تَعْلَمُ من تخاطبُ مُذْ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: ذاك شيطان". وهذا حديث صحيح صريح، لا يحتمل تأويلًا، إلا تأويلَ أهل الأهواء، ممَّن لا يأخذون بالسنة الصحيحة، أو بعبارة صريحةٍ مطابقة لحالهم:"من الذين لا يؤمنون بالغَيْب". وأعيذُك بالله أن تَميل إليهم، أو تأخذ مأْخَذَهم.
وقد أثبت الحافظُ في ذلك الموضع كثيرًا من الأحاديث في هذا المعنى، ثم عَرَض للاحتجاج بالآية التي تأَوَّلْتَها على غير وجهها - فيما كتبتَ - فذَكَر أن قوله تعالى:{مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} . "مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها". وهو تفسير لا بأس به عندي، وأجودُ منه أن يكونَ قولُه تعالى:{مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} . خاصًّا بحالةٍ أو ناحية لا نراهم منها، بدلالة كلمة "من حيثُ"، وأنّ هذا لا ينفي رؤيتهم من نواحي أُخَر.
وأقوى من هذا دلالةً - فيما أرى -: أن الجنّ لم يكونوا، ولن يكونوا أرقى من الملائكة ولا أعظم خلقًا منهم، ورؤية الناس للملائكة ثابتةٌ ثبوت القطع الذي لا شك فيه، حين يتشكَّلون على
صورةٍ تستطاع رؤيتهم بها، ويكفي من هذا حديث جبريل، في سؤالاته عن الإسلام والإيمان والإحسان، الثابت في دواوين الإسلام، والذي لا يَشُكُّ في صحته ولا ثبوته أحدٌ يؤمن بالغيب.
وبعدُ: فهذه كلمة عابرة، لإزالةِ شبهةٍ عنك أولًا، وعن أهل العلم بالحديث ثانيًا، أمّا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه أرفع منزلةً عندي وعندك من أن يصل إليه تكذيبٌ أو شكٌ في صدقه فيما يَحْكي أو ينقل، وأنت أولُ من يوافق على ذلك، إن شاء الله.
فآمل منك - إحقاقًا للحق، ورفعًا للشبهة، أن تنشرَ كلمتي هذه كاملةً بنصها، ثم كلُّ الحقّ أن تعلّق عليها أو تَرُدّ بما تشاء. والله سبحانه يتولانا جميعًا بهدايته وتوفيقه.
مساء الثلاثاء 3 رمضان سنة 1374 - 26 أبريل سنة 1955.
أحمد محمد شاكر
* * *