الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَدَى النقد
تعقيب على نقد ودرس للمنقود قبل الناقد (*)
أعتذر للأخ الأستاذ الشيد صقر عن تأخير التحية له بمناسبة نقده إياي. وكلنا طالب علم، وكلنا طالب حقيقة رائد معرفة، ونرجو أن يكون ذاك خالصًا لوجه الله وحده. وليس بعد الاعتراف اعتذار.
والأستاذ السيد أحمد صقر مني بمنزلة الأخ الأصغر، نشأ معي، وعرفته وعرفني، وتأدبنا بأدب واحد في العلم والبحث، وفي فقه المسائل، والحرص على التقصي ما استطعنا.
فإذا ما نقد كتابي فإنما يقوم ببعض ما يجب عليه نحو أخ أقدم منه سنًّا، ويراه هو أنه أكثر منه خبرة، أو أوسع اطلاعًا، وما أدرى: أصحيح ما يراه، أم هو حسن الظن فقط؟ فإن له مدى مديدًا في الاطلاع والتقصي، ونفذات صادقة في الدقائق والمعضلات، ويندر أن توجد في أنداده، بل في كثير من شيوخه وأستاذيه.
وقد نقد الكتاب الذى أخرجته بتحقيق "الشعر والشعراء لابن قتيبة" في مقالين بمجلة "الكتاب" الغراء فى عدد يونية سنة 1946، بعد ظهور الجزء الأول، ثم فى عدد ديسمبر سنة 1950، بعد ظهور الجزء الثاني.
(*) مجلة الكتاب، عدد جمادى الآخرة 1370 هـ، أبريل 1951 م.
وما أحب أن أدير مناظرة أو جدالا حول المآخذ التي أخذها عليّ. فما زعمت قط وما زعم لي أحد أني لا أخطئ، وكلنا نخطئ ونصيب. ثم هو قد يكون أنفذ بصرًا مني في "الشعر" وما إليه، بل هو كذلك فيما أعتقد. وليس وراء الجدال من فائدة إلا المراء، وقد نهينا عنه أشد النهي.
وقد عتب عليَّ الأستاذ السيد صقر، أن لم أف بوعدي له بنشر نقده للجزء الأول في آخر الثاني. وله العتبى فى ذلك. وقد أشار هو إلى بعض عذري: أن مشاغلي حالت دون الوفاء بما وعدت، وقد صدق؛ فإني وعدته وحرصتُ على الوفاء بوعدي، ثم أنسيته حين رجوت أخي الأستاذ عبد السلام هارون أن يتم الكتاب في أواخر الجزء الثاني، إذ اعتزمت السفر مع أهلي إلى الحج، فشغلني ذلك عن كل شيء، حتى أنساني ما وعدته به.
ووعدٌ بوعد: فكما وعدت الأستاذ صقر بنشر نقده الجزء الأول في آخر الجزء الثاني، وعدني هو - بعد رجائي - أن يقابل النسخة المطبوعة بتحقيقي على النسخ المخطوطة التي أشار إليها في مقاله الأول، وعلى ما قد عساه يوجد من مخطوطات أخر من الكتاب، ويثبت ما يجده من تصويب أو اختلاف، تمهيدًا لتحقيق الكتاب مرة أخرى، لنخرجه في الطبعة القادمة إن شاء الله متعاونين مشتركين. حتى نؤدي الأمانة حقها. ولعله حريص على الوفاء إن شاء الله (1).
(1) وهو إلى الآن لم يفعل. أحمد محمد شاكر.
ولقد زعم كثير من إخواننا، ووصل إليَّ ذلك: أني ضقت بنقد الأستاذ السيد صقر في المرتين. وما أظن الذي زعم ذلك أو توهمه يعرف شيئًا من خلقي. فما ضاق صدري بشيء من نقد قط، لَانَ أو قسا، والعلم أمانة.
بل إني لأرى أن الضيق بالنقد والتسامي عليه ليس أخلاق العلماء، وليس من أخلاق المؤمنين. إنما هو الغرور العلمي، والكبرياء الكاذبة، وحسبنا في ذلك قول الله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} . وما قال أمير المؤمنين الفاروق عمر ابن الخطاب، إذ ردّت عليه امرأة، وهو على المنبر يخطب خير مجتمع ظهر على وجه الأرض، قال كلمة صريحة بينة:"امرأة أصابت ورجل أخطأ". لم تأخذه العزة بالإثم، وتسامى على الكبرياء والغرور العلمي. وعمر هو عمر.
ثم ما هذه الفاشية المنكرة التي فشت بين المنتسبين للعلم؟ سأتحدث عن نفسي مضطرًا حتى لا أمَسَّ غيري:
أنا أرى أن من حقي أن أنقد من أشاء، وأن أقسو في النقد ما أشاء، فمن ذا الذي يزعم لي، أو يزعم لنفسه، أن ينقد الناس وأن يقسو عليهم في النقد، ثم يرى من حقه عليهم أن لا ينقدوه، وأن لا يتحدثوا عنه - إن أذن لهم في الحديث - إلا برفق ولين وملق ونفاق، مما يسمونه في هذا العصر العجيب "مجاملة"! !
لقد رجوت الأستاذ السيد صقر أن ينقد الجزء الأول من "الشعر
والشعراء" حين صدوره، وقرأت نقده قبل أن يطبع في مجلة "الكتاب" الغراء، ولم أجد في هذا غضاضة عليَّ قط، وإن كثيرًا من إخواني ليعرفون هذا الذي أقول، وقد عجبوا منه في حينه، ولم أره موضعًا للعَجَب. ثم رجوته أن ينقد الجزء الثاني حين صدروه أيضًا. ولم أر في نقده ما يمسني من قريب أو من بعيد.
وهذا رأيي الذى رُببت عليه واعتنقته طول حياتي: أن لي أن أنقد آراء الناس في حدود ما أستطيع من علم، وأن لهم أن ينقدوا آرائي في حدود ما يستطيعون من علم.
وسأذكر بعض المُثل، عسى أن يكون فيها عظة وعبرة:
يذكر الناس ما يدور كل عام مرارًا من جدال حول إثبات أوائل الشهور العربية: أبالرؤية أم بالحساب. وكتب الناس في هذا كثيرًا، وكتب مرارًا. وكان من رأي التمسك بالرؤية وحدها، وكان ذا رأي والدي الشيخ محمد شاكر رحمه الله، وكتب فيه وشدد. ثم بدا لي غير ذلك، في حياة أبي. فنشرت رسالة صغيرة في شهر ذي الحجة سنة 1357 (فبراير سنة 1939)، اسمها "أوائل الشهور العربية". وكان مما قلت فيها (ص 15) بالحرف الواحد: لقد كان للأستاذ الأكبر الشيخ المراغي - منذ أكثر من عشر سنين: حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية - رأي في رد شهادة الشهود، إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية، كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي، وأثار رأيه هذا جدالًا شديدًا، وكان والدي وكنت أنا
وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه. ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب، في كل الأحوال، إلا لمن استعصى عليه العلم به" فلم أجد غضاضة على والدي رحمه الله في علمه وفضله الذي يعرفه الجم الغفير من الناس - أن أعلن في كتاب منشور خلاف رأيه ورأيي، والردَّ عليه وعلى نفسي.
بل أنا أخرج منذ بضع سنين، كتاب (المسند) للإمام أحمد بن حنبل، بتحقيقي وشرحي، وقد أخرجت منه إلى الآن 8 مجلدات (1)، رأيت بعد إتمام المجلد الثاني منها أنه فاتني شيء كثير، من الشرح والتخريج، ومن التحقيق والتعليل، وأنه ندت عني أخطاء علمية مهمة، وأن مثل ذلك سيكون في الأجزاء القادمة، مهما أحرص على أن لا يكون، وأن الأمانة أن أبين كل شيء ما استطعت، فاستحدثت في آخر الجزء الثالث، ثم في آخر كل جزء ظهر أو سيظهر إن شاء الله، بابًا في "الاستدراك والتعقيب"، رجوت في أوله إخواني من علماء الحديث في أقطار الأرض أن يرسلوا لي كل ما يجدون من ملاحظة أو استدراك أو تعقيب أو بحث، وجعلت لهذه الاستدراكات أرقامًا متتابعة، وقد بلغ عدد الأحاديث التي نشرت في المجلدات السبعة 5580 حديثًا، وبلغ عدد الاستدراكات عليها، التي نشرت في آخر المجلدات الثامن 1789 استدراكًا، كلها مما تعقبته على عملي ونقدته.
(1) صارت الآن 15 مجلدا، وأسأل الله التوفيق لإتمامه. أحمد محمد شاكر.
إن كثيرًا من الناس تغرهم المناصب والرتب، وتخدعهم الألقاب العلمية الضخمة، وما كان شيء من هذا ميزانًا صحيحًا للعلم، ولقد نقدت كثيرًا من أمثال هؤلاء، فتعاظموا واستكبروا، فمنهم من أنف أن يرد عليَّ، ومنهم من سلط بعض أذنابه يشتمني، فما عبأت بهذا ولا بهذا، لا استكبارًا ولا تعاظمًا، ولا لأني طالب علم ورائد حقيقة، ولكِنْ لأني لم أضع نفسي في موازينهم قط.
ومثال آخر من أروع الأمثلة في آداب المتقدمين من الأئمة:
هذا ابن حزم الإمام العظيم، وكل من سمع به يعرف قسوة قلمه، وبديع نقده، وطريف تشنيعه إذا ما بدا له أن يشنع على خصم، بحث بحثًا فقيهًّا في "المُحَلَّى" ليس من مجال القول هنا أن نفصله، فذكر فيه (6: 66 - 74) مسألة استدل فيها بعض العلماء بحديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي. ثم رد صحة الحديث بأن جرير بن حازم قرن في الإسناد بين عاصم بن ضمرة، وهو ثقة، وبين الحارث الأعور، وهو كذاب، وقال (ص 70): وكثير من الشيوخ يجوز عليهم مثل هذا، وهو أن الحارث أسنده، وعاصم لم يسنده، فجمعهما جرير، وأدخل حديث أحدهما في الآخر". وغلا ابن حزم غلوًّا شديدًا بعد ذلك، فقال: "هو حديث هالك، ولو أن جريرًا أسنده عن عاصم وحده، لأخذنا به".
وابن حزم كان يؤلف قبل عصر المطبعة، وكتابه في يده، فكان
مستطيعًا إذا شاء أن يعرض عما كتبه كله في هذه المسألة الطويلة، ويستأنف كتابتها على النحو الذى يريده بعد أن تغير اجتهاده وتغير رأيه. ولكنه أبى إلا أن يبقى ما كتب على ما كتب، ثم يرد على نفسه، على طريقته وبقوته، فيقول في آخر المسألة (ص 74):"ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير بن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه، وأن الاعتلال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أبا إسحاق أو جريرًا خلط إسناد الحارث بإرسال عاصم - هو الظن الباطل الذى لا يجوز. وما علينا من مشاركة الحارث لعاصم، ولا لإرسال من أرسله، ولا لشك زهير فيه شيء. وجرير ثقة، فالأخذ بما أسنده لازم".
وهذا الجزء من "المُحَلَّى" طبع منذ أكثر من عشرين سنة، سنة (1349 هجرية) بتحقيقي: وقد كتبت فيه تعليقًا على صنيع ابن حزم هذا، ما نصه:"لله در أبي محمد بن حزم: رأى خطأه فسارع إلى تداركه، وحكم بأنه الظن الباطل الذي لا يجوز. وهذا شأن المنصفين من أتباع السنة الكريمة وأنصار الحق، وهم الهداة القادة. وقليل ما هم".
وأظن في هذا مقنعًا لمن أراد أن يقنع أو يهتدي.
* * *