الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَحْقِيقُ سِنِّ عَائِشَة
(*)
يقول صاحب كتاب "الصديقة بنت الصديق"(1):
"كانت روايات من أقوال الأقدمين تذكر، أن النبي عليه السلام خطب السيدة عائشة وهي في السادسة، وبنى بها وهي في التاسعة، وكان هذا مجالًا لأعداء الإسلام وأعداء نبي الإسلام يبدؤون فيه ويعيدون، ويجدون المستمعين والمتشككين حتى بين المسلمين. فهنا مجال لإطالة الوقوف يعبره أمثال هذا الناقد الحاقد مهرولين، ويجهلون ما وراءه من الزور الأثيم والبهتان المبين. وهنا وقفنا بالعقل والنقل لنثبت أن محمدًا عليه السلام لم يبن بالسيدة عائشة إلا وهي في السن الصالحة للزواج بين بنات الجزيرة العربية، فأثبتناه على رغم الأقاويل والسنين"(2)(الرسالة 551 في 29 يناير سنة 1944).
وهذه الروايات التي تجهل ما وراءها "من الزور الأثيم والبهتان المبين" هي الروايات الصحيحة التي لا شك في صحة إسنادها والثقة، برواتها عن سن عائشة، حين زواج رسول الله بها، وأنه
(*) مجلة المقتطف، عدد ربيع الثاني 1363 هـ، أبريل 1944 م.
(1)
انظر: نقد بشر فارس لهذا الكتاب في المقتطف، فبراير 1944، باب "التعريف والتنقيب".
(2)
الصديقة بنت الصديق، لعباس محمود العقاد، دار المعارف بمصر.
عقد عليها وسنُّها ستُّ سنوات، وبنى بها وسنها تسع سنوات، وهي الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد بن حنبل وابن سعد، كلهم من حديث عائشة بالأسانيد الثابتة الصحاح، وبالألفاظ الواضحة التي لا تحتمل تأويل المتأولين ولا لعب العابثين، والتي رواها ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود، وابن سعد من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومصعب بن أبي وقاص وابن شهاب الزهري وحبيب مولى عروة ابن الزبير، كل هؤلاء الأئمة الثقات الأثبات الذين يروون ويصدقون ما يروون، هم عنده مثلنا "يجهلون ما وراءه من الزور الأثيم والبهتان المبين" ويدركه هو وحده بما أوتي من جرأة وتهجم، وبما فقد من بحث وتحقيق، فهو يثبت وينفي "على رغم الأقاويل والسنين" فهو يلعب بالروايات ويحرفها كيف شاء ثم يقول:"ولهذا نرجح أنها كانت بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يوم زفت إليه"(كتاب الصديقة ص 65). ثم ينسى ما اجترحت يداه فيقول (ص 78):
"فعائشة البكر التي لم يتزوج النبي بكرًا غيرها، قد مات عنها عليه السلام وهي دون العشرين".
"فها هنا انفلات من ذلك الجزم" كما قال الدكتور بشر فارس في نقده (ص 193).
وهو يبني تحقيقه هذا العجيب على مقدمات اخترع بعضها اختراعا، وحرف بعضها تحريفًا منكرًا، بالتحوير أو التأويل، ثم
يسوق ذلك كله مساق الحقائق التاريخية الثابتة، شأن الرواة الثقات، ثم لا يذكر شيئًا من الحقائق التي تخالف هواه، فهو يقول:
"وتختلف الأقوال في سن السيدة عائشة يوم زفت إلى النبي عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة، فيحسبها بعضهم تسعًا، ويرفعها بعضهم فوق ذلك بضع سنوات"(الصديقة ص 64).
أما زعمه أن بعضهم يرفعها فوق ذلك بضع سنوات، فإنه قول مبتكر لم يقله أحد من العلماء، ولم يرد في رواية من الروايات، وإنما يريد أن يتزيد به ويصل إلى بغيته.
وأما جزمه بأن الزفاف كان في السنة الثانية من الهجرة، فإنه اعتمد فيه - فيما أرى - على قول الحافظ النووي في تهذيب الأسماء (ج 2 ص 351):"وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة، بعد منصرفه من بدر في شوال سنة اثنتين بنت تسع سنين، وقيل: بنى بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وهو ضعيف، وقد أوضحت ضعفه في أول شرح صحيح البخاري". هكذا يقول النووي، ولكنه نسي، فإنه لم يوضح دليل ضعفه في أول شرحه للبخاري عند شرح الحديث الثاني من الصحيح، في نسختنا المخطوطة عن أصلها العتيق، وهذا الترجيح من النووي في تأريخ الزفاف خطأ صرف، والقول الذي ضعفه بغير دليل هو الصحيح الراجح، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج 7 ص 176 من طبعة بولاق): "وإذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى من الهجرة، قوي قول من قال أنه دخل بها
بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يخالف ما ثبت". والدليل على خطأ ما رجحه النووي حديث عائشة نفسها في طبقات ابن سعد (ج 8 ص 39 - 40):"تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة لثلاث سنين، وأنا ابنة ست سنين، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأعرس بي في شوال، على رأس ثمانية أشهر من المهاجر، وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين".
فالثابت من قول عائشة نفسها؛ أن رسول الله بنى بها في السنة الأولى من الهجرة، في شوال بعد مهاجره في ربيع الأول، بسبعة أشهر على رأس الثامن، وترجيح النووي أن ذلك كان بعد غزوة بدر في السنة الثانية ترجيح بغير دليل، والأدلة الثابتة تنفيه.
فحكاية الكاتب الجريء قولًا مرجوحًا لا دليل عليه، وإتيانه به في صيغة توهم أنه القول الواحد الذي لم يرو غيره، كأنه قضية مسلمة؛ إذ يقول:"وتختلف الأقوال في سن السيدة عائشة يوم زفت إلى النبي عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة". هذا الصنيع منه لن يكون من الأمانة العلمية في شيء.
ومن هذا النوع من الأمانة قوله (ص 64): "فقد جاء في بعض المواضع من طبقات ابن سعد أنها خطبت وهي في التاسعة أو السابعة". والذي في ابن سعد (ج 8 ص 42): "أخبرنا محمد بن حميد العبدي
حدثنا معمر عن الزهري وهشام بن عروة قالا: نكح النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي ابنة تسع سنوات أو سبع". وأنا أوقن، أن الكاتب الجريء أعرف باللغة العربية من أن يخفى عليه الفرق بين معنى نكح، وبين معنى خطب، وأنه لن يعبر لفظ إحداهما إلى لفظ الأخرى عن جهل بهما، وإنما يفعل ذاك عن عمد وهو يعرف ما يفعل.
ثم ما باله يدع الروايات الصحيحة المتواترة، ولا يستند إلا إلى الروايات الشاذة أو المنكرة، التي تخالف كل رواية صحيحة؟ أمامه الروايات الصحيحة في كتاب ابن سعد وغيره عن الزهري وعن هشام ابن عروة وعن غيرهما؛ أن رسول الله تزوج عائشة وهي بنت ست سنين، وفي بعضها "سبع سنين" ودخل بها وهي بنت تسع سنين. فما بال هذه الرواية التي لا شك أن راويها أخطأ فيها، أو اختصر فأخطأ من روى عنه فهم اختصاره، ولكن الكاتب الجريء يريد شيئًا معينًا، فلا عليه أن يتخير من الروايات أضعفها، ولا عليه أن يحرف ألفاظها إلى ما يشاء؛ لتصل به إلى ما يريد! ثم هو يريد أن يصور للقارئ أن الذي كان في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنوات هو خطبة فقط، يوهم أنه لم يكن هناك زواج، وإن لم يصرح بنفيه فيقول (ص 63):
"وجرت الخطبة بعد ذلك في مجراها الذي انتهي بالزواج بعد سنوات". ويقول (ص 64): "فتمت الخطبة في شوال سنة عشر من الدعوة قبل الهجرة بثلاث سنوات".
ويحرف رواية ابن سعد من كلمة "نكح" إلى كلمة "خطبت" ويقول (ص 65): "وإن خطبة النبي التي كانت في نحو السنة العاشرة للدعوة".
ويقول في (الرسالة) في الكلمة التي اقتبسناها أول مقالنا هذا: "كانت روايات من روايات الأقدمين تذكر أن النبي عليه السلام خطب السيدة عائشة وهي في السادسة"
…
إلخ.
وهو يعرف كما يعرف المسلمون جميعًا، عالمهم وجاهلهم، ذكيهم وغبيهم، أن الخطبة عند المسلمين غير الزواج، وأنهما غير الزفاف والدخول! ولكن هكذا يكون الكاتب الجريء.
وأعجب من هذا كله، وأشد جرأة على الحق، وأشد تهجمًا على سيرة رسول الله، وأسوأ أثرًا على الجريء فيما قال وكتب، وفيما يقول أو يكتب، أن يقول (ص 64):
"فقد جاء في بعض المواضع من طبقات ابن سعد أنها خطبت وهي في التاسعة أو السابعة، ولم يتم الزفاف كما هو معلوم إلا بعد فترة بلغت خمس سنوات في أشهر الأقوال"!
أما القول الذي يصفه بأنه "أشهر الأقوال" فإنه لم يقله أحد قط، ولم يروَ في كتاب من كتب السنة أو السيرة أو التاريخ، هذا إلى محاولة تصوير هذه الفترة بأنها فترة خطبة، لا فترة زواج قبل البناء، ثم هو يصرُّ على ما ادعى إصرارًا عجيبًا لم يأت عليه ببرهان، فيقول
ما نقلنا من قبل: "وجرت الخطبة بعد ذلك في مجراها الذي انتهي بالزواج بعد سنوات".
ويقول (ص 64 - 65):
"إذ لا يعقل أنها - يعنى خولة بنت حكيم - تشفق من حالة الوحدة التي دعتها إلى اقتراح الزواج على النبي، وهي تريد له أن يبقى في تلك الحالة أربع سنوات أو خمس سنوات أخرى"!
ومن أين يأتي بالخمس السنوات ويدعي أنها أشهر الأقوال؟ والأقوال كلها متضافرة على أنها ثلاث سنوات والشهور محدودة فيها بينة؟ يتمسك بالروايات الصحيحة التي فيها أن الزواج كان قبل الهجرة بثلاث سنين، ثم يجزم بالرواية الضعيفة، أن الزفاف كان في السنة الثانية من الهجرة، ثم لا يجد مناصًا من قواعد الحساب أن الثنتين إذا أضيفتا إلى الثلاث كان الجميع خمسًا من غير تردد، فقد سلم له قوله ووصل إلى ما أراد، ولكنه نسي أو تناسى، أن الروايات كلها تذكر أن بين الزواج والزفاف ثلاث سنين فقط، وأنها حددت بالشهور من شوال إلى شوال، وأنهم كثيرًا ما يذكرون عدد السنين ويجبرون فيها الكسور، فتقول عائشة ما روينا من قبل: أن رسول الله تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي تريد سنتين وكسرًا؛ إذ حددت التاريخ بالشهور: أن الزواج كان في شوال سنة عشر من النبوة، وأنه قدم المدينة في 12 ربيع الأول، وهي السنة الأولى من الهجرة، وأنه دخل بها في شوال من السنة نفسها على رأس ثمانية
أشهر، وأنه تزوجها وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع، فهذا حسابها صحيحًا من شوال قبل الهجرة بثلاث إلى شوال في سنة الهجرة، ثلاث سنين كوامل، لا تحتمل تزيدًا ولا تحويرًا، فأين هذا الحق من ذاك الصنيع؟
ثم يزداد الكاتب الجريء جرأة، فيذهب يحتال حيلة غريبة في التأويل، يفتعلها افتعالًا، يزعم أنه ينصر رأيه، ويقيم حجته فيقول:(ص 65):
"ويؤيد هذا الترجيح من غير هذا الجانب أن السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل خطبتها إلى النبي، وأن خطبة النبي كانت في نحو السنة العاشرة للدعوة .. فإما أن تكون قد خطبت لجبير بن مطعم؛ لأنها بلغت سن الخطبة وهي في قرابة التاسعة أو العاشرة، وبعيد جدًّا أن تنعقد الخطبة (1) على هذا التقدير مع افتراق الدين بين الأسرتين، وإما أن تكون قد وعدت لخطيبها وهي وليدة صغيرة كما يتفق أحيانًا بين الأسر المتآلفة، وحينئذ يكون أبو بكر مسلمًا عند ذلك، ويستبعد جدًّا أن يعد بها فتى على دين الجاهلية، قبل أن تتفق الأسرتان على الإسلام، فإذا كان أبو بكر رضي الله عنه وعد بها ذلك الوعد قبل إسلامه، فمعنى ذلك أنها ولدت قبيل الدعوة، وكانت تناهز العاشرة يوم جرى حديث زواجها وخطبها النبي، عليه السلام".
(1) المعروف في شرعة المسلمين أن الخطبة ليست عقدًا، ولكن الكاتب الجريء يريد شيئًا قد كشفنا عنه.
هكذا ينقل الكاتب الجريء ويتأول، واحفظوا عليه قبل كل شيء إصراره على أن الذي كان في السنة العاشرة للدعوة خطبة لا زواج، وإن لم ينف الزواج صراحة، ولكنه يوقعه في نفس القارئ ويقنعه به إقناعًا من لحن القول "يوم جرى حديث زواجها وخطبها النبي، عليه السلام".
والقصة التي يشير إليها ويحاول أن يصبغها بصبغة رأيه، هي قصة مطولة في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بسودة بنت زمعة وبعائشة رضي الله عنهما. رواها أحمد بن حنبل في مسنده (ج 6 ص 210 - 211) ونقلها عنه الحافظ ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية ج 3 ص 131 - 133) وأشار إلى رواية مثلها عند البيهقي مؤيدة لإسنادها. وهذا الحديث فيه قصة وعد أبي بكر بابنته لمطعم بن عدي على ابنه جبير، وخطبة النبي إياها وزواجه بها، ثم زفافها إليه بعد قدومهم المدينة، وهذا موضع الشاهد منه: "قالت أم رومان - زوج أبى بكر - لخولة بنت حكيم - التي كان لها فضل السعي في هذا الزواج -: إن مطعم ابن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدًا قط فأخلفه. فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي، فقالت: يا بن أبي قحافة لعلك مصْبي صاحبنا، تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟ فقال أبو بكر للمطعم بن عدي: أَقَوْل هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك. فخرج من عنده وقد أذهب الله ما في نفسه من عدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله.
فدعته فزوجها إياه، وعائشة: يومئذ بنت ست سنين
…
قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح. قالت: فجاء رسول الله فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة، ولي جميمة ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله في بيتنا، ما نحرت عليَّ جزور، ولا ذُبحت عليَّ شاة .. وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
هذه هي القصة التي يحاورها الكاتب الجريء ويداورها، ويلعب بها ويعبث، يستنبط منها. وما رأينا فيما قرأنا أشد جرأة على الحق ولا إيغالًا في الباطل، ولا لعبًا بالألفاظ والمعاني، ولا تحريفًا للكلم عن مواضعه، مما صنع هذا الرجل.
حديث صريح اللفظ، بيِّنُ المعنى، يقسره هذا الكاتب الجريء على أن يدل على ضد لفظه الصريح ومعناه الواضح، فلا يأتي بالحديث على وجه، بل يصرّف على لفظ من عنده، يُخدَع به القارئون، فلا يدركون ما وراءَهُ. ثم يبني استنباطه على غير علم بعادات العرب، وعلى غير معرفة بأحكام الشرع، فهو يقول ما
حكينا من قوله، ويصر عليه إصرارًا منكرًا فيما قرأنا له الآن (في العدد 559) من الرسالة المؤرخ يوم الإثنين 20 مارس إذ يقول:
"وبحسبنا أن نعلم أن عائشة خطبت قبل خطبتها للنبي، وأن الذي خطبت له كان من المشركين، بحسبنا أن نعلم هذا لنعلم أنها خطبت قبل الدعوة الإسلامية، وأن أبا بكر لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينه، وهو البرهان الراجح على أنها حين خطبت لمحمد عليه السلام وبنى بها بعد الخطبة بسنوات، قد كانت في سن صالحة للزواج".
وليحفظ عليه القارئ أيضًا أنه فعل هنا ما فعل من قبل، فلم يأت بذكر لعقد الزواج بين رسول الله وبين عائشة، بل ساق القول من الخطبة إلى البناء، كما نبهنا عليه آنفًا؛ إذ هو لا يريد أن يعترف بعقد عقدة النكاح في السن المبكرة ثم نعود إلى ما نحن بسبيله.
بنى هذا الكاتب الجريء كل دعواه في هذا الحديث، وكل استنباطه منه على شيء واحد، يستبعده جدًّا في كتابه (ص 265) وينفيه نفيًا باتًّا في مقاله (الرسالة 559) وهو أن أبا بكر "لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينه". وهو يخطئ في هذا جدًّا، فإن لفظ الحديث الذي سقناه يدل على أن أبا بكر كان عند وعده للمطعم بن عدي إن استمسك به المطعم، وأنه ذهب إليه لعله يجد من وعده مخرجًا، ففجأته أم الصبي بخشيتها أن يؤثِّر على ابنها، إن هو تزوج عائشة، فيدخله في دينه الذي هو عليه، وهو
الإسلام، فلم يجد أبو بكر من اختلاف الدين أو تخوف أم الصبي مخرجًا من عدته، فسأل الرجل، وهو ولي ابنه الصبي في التزوج، ليرى أيقر زوجه على قولها، فلما وافقها الرجل، وجد أبو بكر المخرج من وعده "فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعد". وإنما أوقع الكاتب الجريء في هذا الخطأ وأوهمه، معرفته أن زواج المسلمة بغير المسلم زواج باطل لا ينعقد، وأن المسلم إذا ارتد عن الإسلام فسخ عقد زواجه بزوجه المسلمة، وأن غير المسلمة إذا أسلمت وكانت ذات زوج عرض على زوجها الإسلام، فإن أبى أن يسلم فرق بينهما، وهذه أحكام يعرفها العامة والخاصة، فبنى عليها أنه "بعيد جدًّا أن تنعقد الخطبة مع افتراق الدين" وأنه "يستبعد جدًّا أن يعد بها فتى على دين الجاهلية، قبل أن تتفق الأسرتان على الإسلام" وأنها "خطبت قبل الدعوة الإسلامية، وأن أبا بكر لن يزوج بنته بعد الدعوة الإسلامية لرجل يكفر بدينه". ولكنه لم يعلم أول هذا التحريم لزواج غير المسلم بالمسلمة، ولم يدرك مبدأ أمره، أكان في أول الإسلام، حتى يطبق في هذه الواقعة في وقتها، أم هو تشريع تأخر عنها، فلا يطبق عليها، ولا يستدل به فيها.
ألا فليعلم الكاتب الجريء أن زواج المسلمة بالمشرك كان جائزًا وواقعًا في أول الإسلام، على عادة القبائل والأسر من التزاوج والمصاهرة، وأنه لم يحرمه الله تعالى إلَّا بعد صلح الحديبية، في أواخر السنة السادسة من الهجرة، لما نزل قوله تعالى في سورة
الممتحنة: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج 8 ص 323 طبعة المنار): "هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها
…
فأطلقه رسول الله على أن يبعث إليه ابنته، فوفَّى له بذلك
…
وبعثها مع زيد بن حارثة، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه". وليس بعد هذا البيان بيان، وما إخال أن للكاتب الجريء حيلة في أن يجادل فيه، وهو ينقض كل ما بنى عليه استنباطه أو تحريفه.
وليعلم الكاتب الجريء أيضًا أن كل ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من (قول أو فعل أو تقرير) هو عند المسلمين من الحديث، وأنه لا يجوز لأحد أن ينسب إلى الرسول شيئًا من هذا إلا عن ثقة وثبت، وبإسناد صحيح، على النحو الذي قام به أئمة الحديث، ووضعوا له القواعد والقيود، في فن واسع المدى، لعله قد سمع به، وأنه لا يعذر أحد في التحدث عن رسول الله بغير ثبت، لقوله عليه السلام:"مَنْ حَدَّثَ عَنِّى بحدَيثٍ يُرى أنَّه كَذِبٌ فهو أحدُ الكاذبينَ". وأن العمد إلى التحدث عنه بما ليس بصحيح من أعظم
الآثام، لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". فليعد نظرًا إلى ما قدمت يداه في هذه المسألة بعينها، يجد أنه أنكر الصحيح الثابت الذي لا خلاف فيه عند المحدثين وغيرهم؛ أن رسول الله تزوج عائشة قبل الهجرة وهي في السادسة أو السابعة من عمرها، ودخل بها في المدينة بعد ثلاث سنين من الزواج، وأنه لكي يصل إلى تأييد إنكاره، وتأييد دعواه أنها كانت بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يوم زفت إلى النبي، اضطر إلى تحريف ألفاظ الأحاديث وإلى تحريف معناها، وإلى سوق الكلام من الخطبة إلى الزفاف، خشية أن يذكر عقد الزواج قبل الهجرة فيكون حجة على نفي ما أراد إثباته وإثبات ما أراد نفيه، حتى لقد كاد يزل به قلمه إذ يقول:"وجرت الخطبة بعد ذلك في مجراها الذي انتهى بالزواج بعد سنوات"(كتاب الصديقة ص 63).
فإنه يوهم القارئ، وإن لم يصرح الكاتب، أن الذي كان في مكة قبل الهجرة لم يكن فيه زواج، وأنه انتهى بالزواج بعد سنوات، يعني في المدينة، ولكنه لم يستطع أن يكون جريئًا كما يريد، فخشي أن يدعي أن هناك زواجًا كان بالمدينة؛ لئلا يكشف للناس عن فساد قوله ووهْي أدلته، وإن هو أنكر علينا هذا فليقل لنا كلمة صريحة، متى تزوج رسول الله عائشة؟ أعني العقد لا الخطبة، أكان ذلك قبل الهجرة حين خطبها على أبيها، أو كان بعد الهجرة حين بنى بها؟ ويجد أنه حرَّف عن عمدٍ كلمة "النكاح" التي هي الزواج إلى كلمة
"الخطبة"، وأنه جاء إلى أبْين حديث وأصرحه في الدلالة على سن عائشة، وهو القصة التي فيها سعيُ خولة بنت حكيم، فحرَّفه بالتأويل المنكر، ليستدلَّ به على ضدِّ ما يدلُّ عليه لفظهُ الصريح، أنها تزوجت بنت ست سنين وزفت بنت تسعٍ، وأَن أُمها أَخذتها يوم الزفاف من أَرجوحة كانت تلعب بها بين النخيل، ويجد أنه ادَّعى أن هناك من يرفع سن عائشة فوق التسع بضع سنوات، ولم يقل ذلك أحد. وأنه ادَّعى أن الزفاف لم يتم إلا بعد فترة بلغت خمس سنوات في أشهر الأقوال، ولم يوجد قط قول بهذا، فضلًا عن أن يكون أشهر الأقوال، ويجد أنه كان يجهل حكم الزواج بين المسلمة والمشرك في صدر الإسلام، وأنه تحدث فيه بغير علم، ويجد أنه فوق هذا كله جمح به قلمه، فوصف هذه السنن الصحاح بأنها "من الزور الأثيم والبهتان المبين" حين زعم أننا نجهل ما وراء روايات الأقدمين، وليت شعري بم يصف عمله في التحريف والتحوير والقول على رسول الله بما لم يأت عليه ببرهان، وفخر بأنه أثبته "على رغم الأقاويل والسنين".
ثم ليعلم أيضًا أن السنة النبوية (من قول وعمل وتقرير) مصدر عظيم للتشريع الإسلامي، وهي المصدر الثاني بعد القرآن، وهي المفسرة له المبينة، كما قال الله لنبيه:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وأن هذه الأحاديث التي أنكرها بتحريفه وتأويله، وأثبت ضد ما ثبت فيها "على رغم الأقاويل والسنين" فيها دلالة على
أحكام شرعية خطيرة الأثر، منها جواز تزويج الصغيرة للكبير، ومنها أن الصغيرة يلي أمر تزويجها وليها؛ إذ هي لا تملك أمر نفسها، ومنها أن البناء بالصغيرة جائز حلال، إلى غير ذلك من الأحكام، وأن إنكاره ما فيها إنكار لكل ما يستنبط منها بالطريق العلمي في الاستنباط، ونسبة شيء إلى رسول الله لم يثبت بالطريق الصحيح للإثبات، بل ثبت ضده ونقيضه، فإن لم يدرك هذا كله فقد أبلغناه، وما علينا من زوره من شيء.
وبعد: فما الذي دفع به إلى هذه المضايق، وأورده هذه الموارد وأقحمه؟ يظن أنه يسوغ عمله إذ يقول:"ذلك هو التقدير الراجح الذي ينفي ما تقوَّله المستشرقون على النبي بصدد زواج عائشة في سن الطفولة الباكرة"(كتاب الصديقة ص 66)، ويقول:"وإنما عنانا أن نبطل قول القادحين في النبي أنه عليه السلام بنى ببنت صغيرة لا تصلح للزواج، وقد أبطلنا ذلك بالأدلة التي لا نكررها هنا"(الرسالة في العدد 559). هذا عذره الظاهر لنا من كلامه، وليس لنا أن نخوض فيما وراءه.
ولكن أهذا هكذا؟ قال مستشرق، أو طعن مبشر، أو قدح ملحد، فقال أحدهم ما شاء من قدح في عمل بعينه، أفترى أنت هذا العمل معيبًا يجب التبرؤ منه، أم تراه جائزًا لا شيء فيه، ولا غبار على من يعمله، وأن العائب إنما ينظر إليه من ناحية غير صحيحة، وبعين مغرضة ليست بريئة، أفلا ترى أنك إذا نفيت هذا العمل
وأنكرته؛ فقد رأيته معيبًا كما رأى العائب، وقادحًا كما فعل القادح، فما حاجتك إلى التستر وراءه، وماذا يمنعك أن تصرح بأن هذا العمل غير جائز، وأنك توافق في استنكاره من سبقك من المستشرقين؟
هذا هو الطريق المنطقي للبحث العلمي، العالمُ لا يدافع عن نظرية علمية، ولا ينصرها إلَّا إذا رآها رأيهُ والتزمها قوله. ثم أَلم يكن الأجدرُ بالكاتب الجريء أن يصنع ما يصنع الرجالُ، فيصرح بإنكار كل الأحاديث التي فيها سن عائشة، وينقدها على طريقة المحدثين، فيبين ضعف أسانيدها وبطلان روايتها إن استطاع، فذلك خير له من تأويلها وتحريفها والتزيد فيها، ثم مناقضته نفسه بالاحتجاج ببعض ألفاظها على أسلوب عائشة المرسل السهل الجزل الفصيح (ص 57 - 58) كما استدرك عليه الدكتور بشر في نقد كتابه.
وبعدُ مرة أُخرى .. فإن شريعتنا شريعة الإسلام، أباحت تزويج البنات الصغار، وجعلت تزويجهنَّ للأَولياء، بدليل زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وبنائه بها وهي دون العاشرة، وبدليل قول الله تعالى في سورة الطلاق:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. فاللائي لم يحضن هنَّ الصغيرات اللائي لم يأتهن الحيض، وهنَّ دون البلوغ عليهنَّ عدَّة ثلاثة أَشهر إذا طلقن، ولا يكون طلاق وعدة إلَّا بعد زواج، أليس كذلك؟ فمن رضي هذه الشرعية لم ينكر ولم يعبأ بقول العائبين المغرضين، ومن أبى {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
* * *