الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسامة بن منقذ
(*)
تأليف الأستاذ محمَّد أحمد حسين (1)
وهذا كتاب آخر من كتب التراجم، مما ألف شبابنا المتوثب إلى المجد، في درس سيرة بطل من أبطال الإسلام الكبار، وأديب من أدباء العرب الفصحاء، وسياسي من الطراز الأول.
ولي بهذا المترجم البطل شبه اختصاص، فقد أخرجت له في سنة 1935 كتاب "لباب الآداب"، ونشرته مكتبة سركيس بالفجالة بمصر، وهو كتاب من عيون كتب الأدب، وترجمت للمؤلف ترجمة متوسطة في 17 صفحة، وكنت شرعت فيها ترجمة وافية، ثم وجدت مجال النشر ضيقًا إذ ذاك، فأوجزت فيها، ووعدت أن أكتب له ترجمة في جزء خاص، أستوعب فيها أحواله وأحوال أسرته، وأستقصي ما أجده من شعره ومناسباته، ولكني لم أجد الفرصة المواتية للوفاء بهذا الوعد، وقد قام الأستاذ المؤلف بما كنت حريصًا على الوفاء به.
وأسامة بن منقذ رجل فذ ممتاز، يمثل فروسية العرب وشهامتهم، وكرمهم وشجاعتهم، ويمثل عصره وبيئته أصدق تمثيل، وعنه وعن أمثاله اقتبس الإفرنج في الحروب الصليبية كثيرًا من محاسن العرب وتقاليد الإسلام. قلت في وصفه في ترجمته التي أوجزتها في أول
(*) مجلة الكتاب، عدد شوال 1365 هـ، سبتمبر 1946 م.
(1)
140 صفحة من القطع الكبير. دار الكتب المصرية. القاهرة 1946.
"لباب الآداب" ص 20 - 21: "نشأ أسامة في كنف أبويه وعمته وجدته، وفي وسط أسرة من أعظم الأسر العربية، أكثر رجالها فرسان محاربون من الطبقة الأولى، وبعد ولادته بنحو سنتين بدأت الحروب الصليبية في بلاد الشأم سنة 490، ورباه أبوه على الشجاعة والفتوة والرجولة، ومرنه على الفروسية والقتال، وكان يخرجه معه إلى الصيد، ويدفع به بين لهوات الأسود، فأخرج منه فارسًا كاملًا، وسياسيًّا ماهرًا، ورجلًا ثابتًا كالرواسي، لا تزعزعه الأعاصير، ولا تهوله النكبات والرزايا، فهو يقول عن نفسه بعد أن جاوز التسعين، إذ يحكي بعض ما لقي من الأهوال: "فهذه نكبات تزعزع الجبال، وتفني الأموال، والله سبحانه يعوض برحمته، ويختم بلطفه ومغفرته، وتلك وقعات كبار شاهدتها، مضافة إلى نكبات نُكبتها، سلمتْ فيها النفس لتوقيت الآجال، وأجحفتْ بهلاك المال" (الاعتبار ص 3). ويقول أيضًا: "فلا يظن ظان أن الموت يقدمه ركوب الخطر، ولا يؤخره شدة الحذر، ففي بقائي أوضحُ معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقَتلت الأسود، وضُربت بالسيوف، وطُعنت بالرماح، وجرحت بالسهام والجروخ (1)، وأنا من الأجل في حصن حصين إلى أن بلغتُ تمام التسعين
…
فأنا كما قلت:
(1) بالجيم في أوله والخاء المعجمة في آخره، وهي من أدوات الحرب ترمي عنها السهام والحجارة، والكلمة معربة عن التركية أو الكردية.
مع الثمانين عاثَ الدَّهْرُ في جَلَدِي
…
وساءَنِي ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابِ يَدِي
إذا كَتَبْتُ فَخَطِّي جِدُّ مضطرب
…
كَخَطِّ مُرْتَعِشِ الْكَفَّيْنِ مُرْتَعِدِ
فاعْجَبْ لِضَعْفِ يَدِي عَنْ حَمْلِها قَلَمًا
…
مِنْ بَعْدِ حَطْمِ الْقَنا فِي لُبَّةِ الْأَسَدِ
وَإِنْ مَشيتُ وفِي كَفِّي الْعَصا ثَقُلَتْ
…
رِجْلي، كأنِّي أَخُوضُ الْوَحلَ فِي الجلدِ
فَقُلْ لِمَنْ يَتَمَنَّى طُولَ مُدَّتِهِ:
…
هَذِي عَواقِبُ طُولِ الْعُمْرِ والْمَدَدِ
(الاعتبار ص 163 - 164).
وقد عمر أسامة عمرًا طويلًا، عاش 25 يوم 2 شهر 96 سنة؛ لأنه ولد يوم الأحد 27 جمادى الآخرة سنة 488 (يوليو سنة 1095) ومات ليلة الثلاثاء 23 رمضان سنة 584 (نوفمبر سنة 1188). وكان المستشار الحربي لصلاح الدين الأيوبي، بما نال من خبرة طويلة، في الحرب والسياسة، وبما خاض من غمار الحروب الصليبية، وقد نشأ في عنفوانها، نقل أبو شامة في الروضتين (ج 1 ص 264) عن العماد الكاتب، مؤرخ صلاح الدين ولسانه الناطق، يصف مجيء أسامة إلى دمشق باستدعاء صلاح الدين، وهو شيخ قد جاوز الثمانين، قال: "فلما جاء مؤيد الدولة - يعني أسامة، فذا لقبه - أنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملكه من أعمال المعرفة ضيعة زعم أنها كانت قديمًا تجري في أملاكه، وأعطاه بدمشق دارًا وإدارًا، وإذا كان - يعني السلطان صلاح الدين - بدمشق جالسه وآنسه، وذاكره في الأدب ودارسه، وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو
يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غياهبه، وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته، وحل مشكلاته".
فهذا الفارس كما قال المؤلف في تصدير الكتاب: "مثل أعلى للفروسية العربية التي ثقفها الغربيون عن فرسان العرب زمن الحروب الصليبية، فهو فارس حمل علم الجهاد في أعنف صراع شهده العالم الإسلامي، حينما وجه الغرب حملاته الصليبية عليه لانتزاع بيت المقدس". فهو جدير بأن يترجم وتدرس حياته وأحواله وآراؤه السياسية والاجتماعية والعلمية دراسة واسعة وافية؛ ليكون مثالًا يحتذى، وكما قال المؤلف أيضًا:"فنحن إذ ندرس سيرة أسامة بن منقذ، ندرس الخطوات التي خطاها العالم الإسلامي في جمع شمله وتوحيد صفوفه، حين نهض ليرد عادية الصليبيين، ويزيد في شأن هذه الدراسة التاريخية، قدرًا أن أسامة نفسه قد خلف في كتابه "الاعتبار" صورة لأحداث عصره، وقد اعتمد عليه كثير من المؤرخين في دراساتهم لهذه الحقبة الصاخبة من تاريخ الجهاد الإسلامي".
وهذا الكتاب سيرة ممتعة، درس فيها المؤلف حياة أسامة وحياة أسرته، والعصر الذي نشأ فيه، وتتبع آثاره العلمية والأدبية تتبعًا لا بأس به، وعني بتحقيق مسائل تاريخية هامة، وعني بجمع كثير من شعر أسامة، فقد كان شاعرًا فحلًا، وله ديوان مفقود، رآه ابن خلكان بخطه في مجلدين، وليت المؤلف أو غيره من الباحثين المتقنين ينشط
إلى البحث عنه لينشره، فإذا لم يوجد جمع كل ما يجد من شعره مفرقًا في الكتب، وينسب كل شيء منه إلى موضعه الذي نقل منه، فيخرج لنا كثيرًا من هذا الديوان الفريد النادر.
والكتاب مطبوع في مطبعة دار الكتب المصرية، وسيكون مرجعًا مفيدًا في أيدي العلماء والباحثين والأدباء، فكنا نرجو أن يخلو من الأغلاط المطبعية الكثيرة، وبعضها مما لا يجوز التساهل فيه، مثل قوله في (ص 9) في شعر لأسامة:
ظلومٌ أبت في الظلم إلا التماديا
…
وفي الصد والهجران إلا تناهيا
ومن البين أن صواب الشطر الأول "إلا تماديا" دون حرف التعريف.
وفي (ص 25 س 3)"لم يشأ الفرنج أن يتركوا شيرز في هدوء هامدة طويلة"! وصوابه "في هدوئها مدة طويلة".
(وفي ص 37 س 16): "ما لم يكن يره فيه" وصوابه "ما لم يكن يراه فيه".
ومثل بيت لأسامة في (ص 54):
هل فيهمْ رجل يغني عَنَائي إذ
…
جلَّى الحوادثَ حدَّ السيف والقلم
وصحته "فيهمُ" و"غَنَائي" بالغين المعجمة و"حدُّ السيف" بالرفع.
وفي البيت الذي بعده "ذَرَع الرجالُ" وصحته "ذَرْعُ الرِجالِ".
وفي البيت الأخير في الصفحة نفسها، "فاسلم فما عشتُ لي" وصوابه "عشتَ". وفي (ص 90 س 4)"كالجواد العلاف" وصوابه "كجواد العلاف" كما في الاعتبار الذي نقل عنه. وفي (س 16)"بالسهام والجروح" وصوابه "الجروخ بالخاء المعجمة"، كما شرحناها آنفًا، وكما هو في الاعتبار. والشعر الذي في (ص 107) فيه كثير من أخطاء الطبع أيضًا، ولو تتبعنا ذلك لطال جدًّا.
وقد أثبت المؤلف في آخر الكتاب ثبتًا بالمراجع التي اعتمد عليها في كتابه، وذكر طبعاتها وتاريخها، فلم يكن في حاجة للإطالة بوصف كل مرجع منها في الهوامش عند النقل عنها، وثبت المراجع كاف.
ومما أخذت عليه أن نقل فقرة طويلة (ص 4 - 5) ونسبها في الهامش إلى "ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق. ص 130". وهو تساهل غير جيد، بل خطأ يخشى أن يوقع الشك في صحة نسبة كثير من المقتبسات؛ لأن هذه الفقرة نقلها ناشر تاريخ ابن القلانسي في هامش (ص 130) عن تاريخ "سبط ابن الجوزي" فليست من كلام ابن القلانسي ولا صلة لها به، إلَّا نشرها بهامش كتابه!
وقال المؤلف في (ص 36) حين عرض لتعلم أسامة العلم: "وكان أبو الحسن السنبسي يعلمه الحديث، وابن المنيّرة يعلمه الأدب". وكتب على ذلك في الهامش مصدره وهو "أحمد أمين: فارس كنانة: فيض الخاطر، الجزء الرابع ص 120" وأنا أظن أن المؤلف الفاضل قرأ الترجمة التي كتبتُها لأسامة في أول "لباب
الآداب". فكان الأجدر به وبالأمانة في النقل أن يشير في هذه الفقرة إلى الموضع الذي نقل منه الأستاذ أحمد بك أمين، أو يتخطى هذين، المصدرين المعاصرين، ويرجع إلى المصادر التي أشرت إليها في هذا، فإني قلت في (ص 21) من الترجمة: "ولم يكتف أبوه بتربيته الحربية، بل كان يحضر له الشيوخ الكبار ليعلموه هو وإخوته، فسمع الحديث من الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن سالم السِّنْبِسي في سنة 499 كما في تاريخ الإسلام للذهبي، وقد روى عنه حديثًا في أول (لباب الآداب ص 1) وكان يؤدبه الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة المتوفى سنة 503، (الاعتبار ص 85) و (لباب الآداب ص 101 و 190) ".
وفي (ص 73) يقول المؤلف: "لم تحو المصادر التاريخية ما يشير إلى خوض أسامة وهو في بلاط نور الدين المعارك ضد الإفرنج كما عودنا ذلك، ولعل كبر سنه أقعده عن ذلك، ولكنا نجد أبا شامة المقدسي قد نوه بشجاعة أسامة في حصار قلعة حارم، فقال: "إنه كان من الشجاعة في الغاية التي لا مزيد عليها". إلى آخره. وأخشى أن يكون في هذا شيء من التناقض، نفي ثم إثبات! فماذا بعد أن يذكر أبو شامة اشتراكه في الحصار، وعوده من الغزو؟ أما يكفي هذا في الإشارة إلى خوض المعارك، وهو بالتصريح لا بالإشارة؟ !
والمؤلف يحرص على ذكر التاريخ الإفرنجي بجوار التاريخ الهجري، ولا بأس بذلك، ولكنه ينسى في بعض المواطن فيقتصر
على التاريخ الإفرنجي، وهو يؤرخ لبطل عربي إسلامي، ويؤرخ وقائع عربية عن كتب العرب! كما فعل في (ص 75، 76) مثلًا.
ويقول المؤلف (ص 89): "كنا نود أن تكشف لنا المصادر التاريخية عن الصلة بين أسامة والقاضي الفاضل عبد الرحيم البساني وزير مصر الكبير، ورسائل الفاضل التي بين أيدينا ليس منها رسالة واحدة إلى أسامة، غير أن العماد قد حفظ في الخريدة رسائل جرت بينهما عن كتاب العصا، ومن الغريب أن العماد هو الوحيد الذي حفظ هذه الرسائل، مما جعل الشك يتطرق إلى صحة نسبة هذه الرسائل إلى الفاضل"! !
وهذه طريقة طريفة في الشك وفي الاستدلال عليه! يستدل بما ذكر في هامش هذا الموضع من أنه "بين يدي المؤلف جميع المخطوطات التي تحوي رسائل القاضي الفاضل" وما أدري من أين جاء هذا الحصر الكلي، حتى يكون سببًا للشك في رواية مؤرخ ثقة كالعماد الكاتب؟ العماد ذكر رسائل من القاضي الفاضل لأسامة، وأثبت نصها، والمؤلف يقول إن بين يديه مخطوطات فيها رسائل القاضي وليس من بينها ما ذكر العماد، أليس ما ذكر العماد من المخطوطات التي تحوي رسائل القاضي أيضًا، وإن لم تكن خاصة بها، والعماد معاصر للمرسل وللمرسَل إليه؟ ! ولم يتهمه أحد بالوضع والاختلاف، فأنى يأتي الشك للمؤلف، إلّا أن يكون على طريقة المستشرقين! !
ومن مثل هذا، وإن كان المؤلف مقلدًا فيه فقط، ما جاء في
وصف النسخة المخطوطة الوحيدة من كتاب الاعتبار المحفوظة بالإسكريال (ص 93 - 94) فقد نقل ما كتب في آخرها من قراءتها على "مرهف بن أسامة" والقارئ حفيد مرهف؛ لأنه يقول: "قرأت هذا الكتاب من أوله إلى آخره في عدة مجالس، على مولاي جدي الأمير"
…
إلخ. وأن ذلك كان في 13 صفر سنة 610، وكتب مرهف عقيبه: صحيح ذلك. وكتب جده مرهف بن أسامة بن منقذ، حامدًا ومصليًا. فقال المؤلف عقيب ذلك:"وقد أوضح فيليب حتى إن (13 صفر سنة 610) ليس هو تاريخ نسخ مخطوطة الإسكوريال، بل هو تاريخ النسخة الأصلية التي نقل عنها مخطوطة الإسكوريال"! لماذا؟ ! لا أدري! هكذا أراد فيليب حتى وهكذا أراد المؤلف، لو كان لهما ممارسة طويلة بالمخطوطات العتيقة، وبطرق المتقدمين في الإجازات وإثباتها على الكتب، ونقل صورها عن أصولها إن لم تكن هي أصلًا، ما قال واحد منهما شيئًا من هذا. ومن المستطاع بهذا الاستنباط التحكمي العجيب أن ننفي كل شيء، وأن نكذب بكل شيء، ثم لا يؤثر ما نقول في الوثائق الصحيحة، والدلائل الثابتة. ولقد رددت مثل هذا التحكم على الدكتور موريتس في تشكيكه في أصل "كتاب الرسالة" للشافعي الذي بخط الربيع بن سليمان، والمحفوظ بدار الكتب، فليرجع إليه القارئ في مقدمة شرحي على الرسالة (ص 17 - 22 من المقدمة).
وقد صنع المؤلف مثل هذا في وصفه مخطوطة (ليدن) من "كتاب
العصا" لأسامة، إذ قال في (ص 97): "ولا يمكننا الجزم بأن التاريخ المكتوب عليها (1094 هـ= 1683 م) هو تاريخ نسخها"! لماذا؟ ! لا أدري أيضًا، وليته تثبت قبل أن يلقي ظلال الشك على مخطوطين، أنا واثق أنه لم يرهما، وإنما نقل وصفهما عن غيره، لعله لو رآهما لقال غير ما قال. والله يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.
* * *