الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الرسالة للإمام الشافعي
(*)
هذا كتاب (الرسالة) للشافعي. وكفى الشافعي مدحًا أنه الشافعي. وكفى (الرسالة) تقريظًا أنها تأليف الشافعي، وكفاني فخرًا أن أنشر بين الناس علم الشافعي [مع إعلاميهم نهيه عن تقليده وتقليد غيره](1).
ولو جاز لعالم أن يقلِّد عالمًا كان أولى الناس عندي أن يقلّد الشافعي. فإني أعتقد - غير غال ولا مسرف - أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره. فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة. تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده. نبغ في الحجاز، وكان إلى علمائه مرجع الرواية والسنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القرآن، ولم يكن الكثير منهم أهل لسن وجدل، وكادوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع
(*) مجلة الهدي النبوي، السنة الثالثة، العدد 35، أول ذي الحجة 1358.
(1)
اقتباس من كلام المزني في أول مختصره بحاشية الأم (ج 1 ص 2).
السنة، وكيف يثبت لهم الحجة في خبر الواحد، وكيف يفصل للناس طرق فهم الكتاب على ما عرف من بيان العرب وفصاحتهم، وكيف يدلهم على الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وعلى الجمع بين ما ظاهره التعارض فيهما أو في أحدهما؛ حتى سماه أهل مكة "ناصر الحديث". وتواترت أخباره إلى علماء الإسلام في عصره، فكانوا يفدون إلى مكة للحج، يناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه، حتى إن أحمد بن حنبل جلس معه مرة، فجاء أحد إخوانه يعتب عليه أن ترك مجلس ابن عيينة - شيخ الشافعي - ويجلس إلى هذا الأعرابي! فقال له أحمد:"اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف أن لا تجده، ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى". وحتى يقول داود بن علي الظاهري الإمام في كتاب مناقب الشافعي "قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد ابن حنبل إلى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحًا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن؛ أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهمًا، فلو كنت عرفته للزمته. قال داود: ورأيته يتأسف على ما فاته منه" وحتى يقول أحمد بن حنبل: "لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث". ويقول أيضًا: "كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رسول الله".
ثم يدخل العراق، دار الخلافة وعاصمة الدولة (1)، فيأخذ عن أهل الرأي علمهم ورأيهم، وينظر فيه، ويجادلهم ويحاجُّهم، ويزداد بذلك بصرًا بالفقه، ونصرًا للسنة حتى يقول أبو الوليد المكي الفقيه موسى بن أبي الجارود "كنا نتحدث نحن وأصحابنا من أهل مكة أن الشافعي أخذ كتب ابن جريج (2) عن أربعة أنفس: عن مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، وهذان فقيهان، وعن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وكان أعلمهم بابن جريج، وعن عبد الله بن الحارث المخزومي، وكان من الأثبات، وانتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، رحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن جملًا ليس فيها شيء إلّا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك، حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار".
ثم دخل مصر في سنة 199 فأقام بها إلى أن مات، يعلّم الناس السنة وفقه السنة والكتاب، ويناظر مخالفيه ويحاجُّهم، وأكثرهم من أتباع شيخه مالك بن أنس، وكانوا متعصبين لمذهبه، فبهرهم الشافعي
(1) دخل الشافعي بغداد ثلاث مرات، الأولى وهو شاب سنة 184 أو قبلها في خلافة هارون الرشيد، والثانية في سنة 195 ومكث سنتين، والثالثة سنة 198 فأقام بها أشهرًا، ثم خرج إلى مصر.
(2)
انتهت رياسة الفقه بمكة إلى ابن جريج.
بعلمه وهديه وعقله، رأوا رجلًا لم تر الأعين مثله، فلزموا مجلسه، يفيدون منه علم الكتاب وعلم الحديث، ويأخذون عنه اللغة والأنساب والشعر، ويفيدهم في بعض وقته في الطب، ثم يتعلمون منه أدب الجدل والمناظرة، ويؤلف الكتب بخطه، فيقرأون عليه ما ينسخونه منها، أو يملي عليهم بعضها إملاء، فرجع أكثرهم عما كانوا يتعصبون له، وتعلموا منه الاجتهاد ونبذ التقليد، فملأ الشافعي طباق الأرض علمًا.
ومات ودفن بمصر، وقبره معروف مشهور إلى الآن وعاش 54 سنة، ولد سنة 150 بغزة، ومات ليلة الجمعة، ودفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من رجب سنة 204 (1)(الجمعة 29 رجب سنة 204 يوافق 19 يناير سنة 820 ميلادية، 23 طوبه سنة 536 قبطية).
وليس الشافعي ممن يترجم له في أوراق أو كراريس، وقد ألف العلماء الأئمة في سيرته كتبًا كثيرة وافية، وجد بعضها وفقد أكثرها. ولعلنا نوفق إلى أن نجمع ما تفرق من أخباره في الكتب والدواوين، في سيرة خاصة به، إن شاء الله.
وقد يفهم بعض الناس من كلامي عن الشافعي أني أقول ما أقول عن تقليد أو عصبية، لما نشأ عليه أكثر أهل العلم من قرون كثيرة، من تفرقهم شيعًا وأحزابًا علمية، مبنية على العصبية المذهبية، مما أضر
(1) ذكر المرحوم مختار باشا في التوفيقات الإلهامية أن الشافعي مات في 4 شعبان، وهو خطأ.
بالمسلمين وأخرهم عن سائر الأمم، وكان السبب الأكبر في زوال حكم الإسلام عن بلاد المسلمين، حتى صاروا يحكمون بقوانين تخالف دين الإسلام، خنعوا لها واستكانوا، في حين كان كثير من علمائهم يأبون الحكم بغير المذهب الذي يتعصبون له ويتعصب له الحكام في البلاد. ومعاذ الله أن أرضى لنفسي خلة أنكرها على الناس، بل أبحث وأجد، وأتبع الدليل الصحيح حيثما وجد. وقد نشأت في طلب العلم وتفقهت على مذهب أبي حنيفة، ونلت شهادة العالمية من الأزهر الشريف حنفيًّا، ووليت القضاء منذ عشرين سنة أحكم كما يحكم إخواني بما أذن لنا في الحكم به من مذهب الحنفية. ولكني بجوار هذا بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمعت كثيرًا وقرأت كثيرًا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي، فإن أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجل، أحترم رأيي ورأي غيري، وأحترم ما أعتقده حقًّا قبل كل شيء وفوق كل شيء. فعن هذا قلت ما قلت واعتقدت ما اعتقدت في الشافعي، رحمه الله ورضي عنه.
وهذا كتاب (الرسالة) أول كتاب ألف في (أصول الفقه) بل هو أول كتاب ألف في (أصول الحديث) أيضًا. قال الفخر الرازي في مناقب الشافعي (ص 57). "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في
مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع، كنسبة أرسطاطاليس إلى علم العقل". وقال بدر الدين الزركشي في كتاب البحر المحيط في الأصول (مخطوط) "الشافعي أول من صنف في أصول الفقه؛ صنف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القرآن، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس" وأقول: إن أبواب الكتاب ومسائله، التي عرض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحجة فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، ورد الخبر المرسل والمنقطع، إلى غير ذلك مما يعرف من الفهرس العلمي في آخر الكتاب. هذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كتب بعده إنما هو فروع منه، وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق، لله أبوه.
و(كتاب الرسالة) بل كتب الشافعي أجمع، كتب أدب ولغة وثقافة، قبل أن تكون كتب فقه وأصول، ذلك أن الشافعي لم تهجنه عجمة، ولم تدخل على لسانه لكنة، ولم تحفظ عليه لحنة أو سقطة. قال عبد الملك بن هشام النحوي صاحب السيرة: "طالت مجالستنا
للشافعي، فما سمعت منه لحنة قط، ولا كلمة غيرها أحسن منها".
وكفى بشهادة الجاحظ في أدبه وبيانه، يقول:"نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، كأن لسانه ينظم الدر". فكتبه كلها مثل رائعة من الأدب العربي النقي، في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيته، ويملي بفطرته، لا يتكلف ولا يتصنع، أفصح نثر تقرأه بعد القرآن والحديث لا يساميه قائل ولا يدانيه كاتب.
وإني أرى أن هذا الكتاب (كتاب الرسالة) ينبغي أن يكون من الكتب المقروءة في كليات الأزهر وكليات الجامعة، وأن تختار منه فقرات لطلاب الدراسة الثانوية في المعاهد والمدارس؛ ليفيدوا من ذلك علمًا بصحة النظر وقوة الحجة، وبيانًا لا يرون مثله في كتب العلماء وآثار الأدباء.
* * *