الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه القرآن والسنة
(*)
القِصَاص
تأليف الأستاذ الشيخ محمود شلتوت (1)
أما هذا فكتاب نفيس حقًّا، وكان جديرًا أن يكون أشد نفاسة مما كان لو أن الأستاذ المؤلف العلامة توسع في بعض أبحاثه، وإنما ألجأه إلى بعض الإيجاز أنه كتاب شبه مدرسي؛ إذ هو جملة محاضرات ألقاها على طلبة دبلوم الشريعة من خريجي كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول، في العام الماضي سنة 1945، فلم يكن ليتجاوز بهم مقدرتهم على التفهم والاستيعاب.
و"فقه القرآن والسنة" اسم طريف جميل لدراسة تفسير آيات الأحكام وأحاديث الأحكام.
والكتاب في الحقيقة مقدمة، ثم مسألة واحدة من مسائل الأحكام. المقدمة في معنى "الفقه" في اللغة ثم في استعمال القرآن الكريم، ثم في اصطلاح الفقهاء والأصوليين. وفي معنى "القرآن" في اللغة أيضًا، ثم في إطلاق هذا اللفظ على هذا الكتاب المعروف الذي أنزله الله على رسوله، وفيما يتصل بذلك. وفي معنى "السنة" على
(*) مجلة الكتاب، نوفمبر 1946 م.
(1)
200 صفحة من القطع الكبير. مطبعة العلوم. القاهرة 1946.
ذلك النحو. وفي أسباب الاختلاف بين الأئمة في فقه القرآن والسنة. فهذه أربعة أبواب، هي مقدمة الكتاب، وهي مقدمة عامة لهذه الدراسة، لا لمسألة "القصاص" وحدها، وإنما اختار الأستاذ - حفظه الله - أن يدرس لطلابه من آيات الأحكام موضوع "القصاص". فهي مسألة واحدة من هذا العلم الواسع، جعلها في أربعة أبواب:
1 -
العقوبات في الشريعة. 2 - جريمة القتل في الإسلام والشرائع الأخرى. 3 - حكم القرآن والسنة في القتل والقصاص في النفس. 4 - نصوص القصاص فيما دون النفس.
والكتاب جم الفوائد، لا لطلاب كلية الحقوق وخريجها وحدهم، بل لسائر طلاب العلم، من المثقفين تثقيفًا دينيًّا، ومن غيرهم. يظهر كل طائفة من الطائفتين اللتين تدرسان التشريع على وجهة نظر الشريعة مقارنة بالتشريعات الوضعية، ولعله يكون كبير الأثر في تقريب وجهتي النظر اللتين كادتا أن تكونا متباينتين، بما ضرب على الأمة المصرية، وعلى أكثر الأمم الإسلامية، من قوانين إفرنجية مترجمة "نقلت نقلًا حرفيًّا عن أمم لا صلة لنا بها، من دين أو عادة أو عرف، فدخلت لتشوه عقائدنا، وتمسخ من عاداتنا، وتلبسنا قشورًا زائفة تسمى المدنية"(1) و"هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس
(1) كتاب "الشرع واللغة" لأحمد محمد شاكر طبع دار المعارف ص 65.
فأشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلامي يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يلاقي من هزء وسخرية! ! ذلك أنه يدعوهم - في نظرهم - إلى الرجوع القَهْقَرى ثلاثة عشر قرنًا، إلى تشريع يزعمون أنه وضع لأمة بادية جاهلة! ! " (1).
فيقول الأستاذ العلامة الشيخ شلتوت في هذا الكتاب (ص 9): "ونرجو أن لا يطول عهد هذه الجفوة التي وقعت بين المسلمين وبين فقههم الزاخر بالأصول التشريعية العامة والخاصة، وقد بدا لنا الرجاء قويًّا في قرب هذا الرجاء، بتوجه أبناء الحقوق المصرية إلى البحث في الشريعة الإسلامية، والتخصص في فروعها، وبتضافر رجال القانون والشريعة على إنهاض هذا الفقه - الذي يعتبر بحق فقهًا قوميًّا للبلاد ويمثل حياتها تمثيلًا صحيحًا ويحدد عاداتها وتقاليدها التي درجت فيها وعاشت عليها - نصل إن شاء الله إلى ما نحب ونرجو".
وهو يقول أيضًا قولًا صريحًا قويًّا (ص 18): "وقد انعقد إجماع المسلمين على أن القرآن الكريم هو أساس الدين والشريعة، حتى صار ذلك عندهم مما علم من الدين بالضرورة، لا فرق في ذلك عندهم بين عصر وعصر، وإقليم وإقليم؛ فهو حجة الله العامة على
(1) المصدر السابق ص 69.
الناس أجمعين، في كل زمان ومكان، وفي عقائده وأحكامه وأخلاقه، فمن زعم أنه حجة خاصة بقوم دون قوم، أو بعصر دون عصر، فهو خارج عن ربقة الإسلام".
ومن الأبحاث النفيسة العالية في هذا الكتاب، بحثه في "حق العفو لولي الدم" وبيانه عن حكمة الشريعة الإسلامية في وضع هذا الحق في يد أولياء دم المقتول، وبيان الأضرار التي تنشأ عن الوضع المعكوس في القوانين الوضعية، بجعل الحكومة أو الدولة صاحبة الحق في القصاص أو العفو دون نظر إلى أولياء الدم (ص 122 - 124).
ولم يخل هذا السفر الجليل، على نفاسته من مآخذ لا تغض من قيمته، ولعل كثيرًا منها يرجع إلى اختلاف وجهتي النظر بين المؤلف والناقد.
1 -
في (ص 28) آيتان كتبتا كأنهما آية واحدة بين قوسين، وهما:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . وهي الآية 83 من سورة النساء، والثانية:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وهي الآية 43 من سورة النحل. وهذا إنما هو خطأ من الطبع والتصحيح، ولكن الإشارة إليه واجبة، فإن أكثر قارئي الكتاب ودارسيه لا يحفظون القرآن، بل لعلهم لا يقرؤونه إلّا قليلًا.
2 -
(ص 29 - 30) فسر المؤلف معنى كلمة "السنة" في اللغة، واستشهد لها بآيات وأحاديث، ثم فسرها في صدر الإسلام ولسان الشرع فقال: "وقد اقتبسها علماء الإسلام من القرآن واللغة
واستعملوها في معنى أخص من المعنى اللغوي"
…
إلخ. ثم قال بعد: "وبهذا المعنى عرفت كلمة السنة في صدر الإسلام، وقد وردت مقترنة بالكتاب في وصايا الرسول، في قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله وسنة رسوله". وأنا أظن أن في قوله: "وقد اقتبسها علماء الإسلام". شيئًا من الإيهام، إن لم يكن من الغلط، فإن اللفظ إذا نقل عن معناه اللغوي إلى معنى أخص منه أو أعم أو لازم له، وكان نقله للمعنى الجديد في استعمال القرآن، أو على لسان رسول الله، لم يصح أن يطلق عليه أنه اقتباس علماء الإسلام، بل يكون المعنى الجديد "حقيقة شرعية" لا اصطلاحًا فقهيًّا أو أصوليًّا مثلا؛ لأن العلماء إنما استعملوه في المعنى الذي ورد به في لسان الشرع، ومثل كلمة "السنة" في ذلك مثل كلمات "الصلاة" و"الصوم" و"الزكاة" إلى آخر هذه الحقائق الشرعية المعروفة.
3 -
تكلم المؤلف (ص 44 - 46) عن أشهر الكتب المؤلفة في فقه القرآن (تفسير آيات الأحكام) التي "أفرد طائفة من المفسرين آيات الأحكام بالتفسير والبيان". وظاهر من تعبيره هذا أنه يريد الكتب التي ألفت خاصة بهذا النوع، ولكني أجده ذكر فيها تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" الذي تقوم بطبعه دار الكتب المصرية، وهذا التفسير تفسير عام للقرآن كله، لم يفرد مؤلفه آيات الأحكام بالتفسير والبيان، بل هو تفسير كسائر التفاسير، يشرح كغيره آيات الأحكام
فيما يفسر من جميع آيات القرآن، فإدخاله في هذا النوع الخاص فيه كثير من التساهل.
ثم إن المؤلف الفاضل نسي من تفسير آيات الأحكام كتابًا معروفًا مشهورًا، هو:"التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية مع تعريفات المسائل الفقهية" تأليف الشيخ أحمد ملاجيون بن أبي سعيد الحنفي المكي الهندي، المولود سنة 1047، والمتوفى سنة 1130 هجرية، والكتاب طبع في الهند مرارًا، ذكر سركيس في معجم المطبوعات 1164، أنه طبع في كلكتة سنة 1847 م وسنة 1300 هـ وسنة 1327 هـ. وهذه الطبعة الأخيرة مذكورة أيضًا في فهرس دار الكتب المصرية، وعندي منه نسخة من الطبعة الأخيرة اقتنيتها في سنة 1329 هـ (1911 م)، وأذكر أني رأيت طبعة أخرى منه حديثة، فهي طبعة رابعة.
ويقول الأستاذ المؤلف في هذا الموضع: إن المفسرين سلكوا في تفسير آيات الأحكام "في الوضع والترتيب مسلك وضعها القرآني، فأبقوها في سورها، ولم يتجه واحد منهم إلى جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد، ودراستها دراسة خاصة، ولو أنهم فعلوا هذا لكان نوعًا من التسهيل في دراستها، لا يكلف من يريدها البحث عن آيات الموضوع الواحد في مواضعها المختلفة من السور المتعددة، ولكان فيه أيضًا نوع من الدقة في الاستنباط، التي كثيرًا ما تفوت المفسر في تفسير الآية الواحدة المرتبطة بغيرها في موضعها".
وهذا الذي قاله جيد في بيان فوائد التفسير، إذا جمعت آيات الأحكام بحسب مسائلها على الأبواب. فما في فائدة هذا شك. ولكن فاته أن هذا الذي ينبغي وقوعه قد وقع فعلًا، ولكن في تفاسير علماء الشيعة الإمامية، ولم أره لغيرهم، وعندي في ذلك كتابان من كتبهم:
الأول: "درة البيان في أحكام القرآن" للأردبيلي، واسمه:"أحمد بن محمد الأفشار" المتوفى سنة 993 هـ، وهو في 400 صفحة، وطبع في بلاد العجم سنة 1305 هـ. والثاني:"قلائد الدرر في بيان أحكام الآيات بالأثر" تأليف أحمد بن إسماعيل بن عبد النبي الجزائري النجفي المتوفى سنة 1150، وهو في 384 صفحة من القطع الكبير جدًّا، وطبع في طهران سنة 1327 هـ.
فهذان كتابان نافعان جدًّا. وقد كنت فكرت منذ بضع سنين في أن أحذو حذوهما، فأفسر آيات الأحكام على هذا النحو، وشرعت في ذلك فعلًا، فنقلت الآيات من ثانيهما مرتبة على الأبواب التي رتبها عليها، على أن أستوعب بعد ذلك كل ما في الكتاب الأول، وكل ما في سائر تفاسير آيات الأحكام، ثم أنقح ترتيب الأبواب وترتيب الآيات فيها، ثم أشرحها شرحًا وافيًا مؤيدًا بالأدلة القوية من الكتاب والسنة، ولكن شغلتني أعمال، فلم أوفق إلى إتمام ما كنت أريد، وأرجو أن يوفقني الله إليه بمنه وكرمه.
4 -
(ص 45) في التعريف بالجصاص ينقل المؤلف العلامة؛ أنه
هو الذي يذكره بعض الحنفية بلقب الرازي "كما صرح بذلك صاحب القاموس في طبقاته للحنفية"! ولست أدري ألصاحب القاموس كتاب في طبقات الحنفية؟ وأين هو؟ وأنا أظن أني أعرف في الكتب، فما سمعت بهذا الكتاب قط، وأخشى أن يكون هذا خطأ لا أصل له.
5 -
(ص 51) في الكلام على اختلاف الفقهاء في معنى "القروء" التي أمر الله بها عدة للمطلقة، وأن جماعة من الفقهاء ذهبوا إلى أنها الحيض، وذهب يسوق أدلتهم، فقال فيما قال:"ثم قالوا بعد هذا: قد صح عن ثلاثة عشر صحابيًّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل أحق بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة"! !
ولست أدري ماذا أقول، ولا كيف كان هذا؟ إنما الذي لا شك فيه، بقدر ما أعرف من السنة ومن دراسة الحديث النبوي، ثم بعد طول البحث والتتبع، أن هذا الشيء لم يقله رسول الله، ولم يرو عنه بسند صحيح ولا ضعيف، وما هو بكلام من جنس الحديث، ومعاذ الله أن يكون في هذا مني ما يمس الأستاذ المؤلف في قريب ولا بعيد، إلّا التساهل في النقل، ثم الخطأ فيه؛ وذلك أن هذه الكلمة نقلها الجصاص في "أحكام القرآن ج 1 ص 364 من طبعة الآستانة سنة 1325 هـ" ونص كلامه:"وروى وكيع عن عيسى الحافظ، عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الخبر فالخبر، منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس، قالوا: الرجل أحق بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة". وفي هذا الخبر غلطتان،
يظهر أنهما من خطأ التصحيح المطبعي: أولاهما "عيسى الحافظ" صوابه "عيسى الحناط"، وثانيتهما "الخبر فالخبر" صوابه "الخير فالخير" يريد أن هؤلاء الثلاثة عشر من خيار الصحابة، بعضهم أعلى من بعض، منهم أبو بكر وعمر
…
إلخ. وقد نقله ابن حزم في المحلى (ج 10 ص 259) مختصرًا على الصواب. فهذا خبر عن الصحابة، لا حديث من كلام رسول الله، وأنا أستطيع أن أكرر ما جزمت به: أنه لم يقله رسول الله، وما هو بحديث أصلًا.
نعم قد برئ الأستاذ المؤلف من عهدته؛ إذ أحال على غيره، فقال:"قالوا". ولكن الذي لا أرضاه له أن لا يذكر هؤلاء القائلين، ثم أن لا يتوثق مما قالوا، وهو الرجل المحقق المتثبت الذي ما أظنه يحدس الكلام على عواهنه. ولو أنه بحث وتوثق لعلم أن هذا الخبر، الذي نقله الجصاص وابن حزم، خبر ضعيف، وأن راويه "عيسى بن أبي عيسى الحناط" وهو "عيسى بن ميسرة الغفاري" ضعيف جدًّا، قال عمرو بن علي:"متروك الحديث، ضعيف الحديث جدًّا". وقال النسائي: "متروك الحديث". وقال البخاري: "ضعفه يحيى القطان"(1).
ثم الذي لا أزال أطلب إلى الأستاذ المؤلف العلامة في إلحاح، أن يرشدني إلى من مِن الفقهاء المتأخرين هذا الذي صنع ما صنع،
(1) انظر ترجمة الحناط هذا في التاريخ الصغير للبخاري 175، والضعفاء له أيضًا 26، والضعفاء والمتروكين للنسائي 22، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/ 1/ 289، والتهذيب لابن حجر 8: 224، وغيرها.
فجاء إلى خبر ضعيف لا يثبت له إسناد قائم، فجرؤ على أن يرويه بصيغة الجزم، كأنه خبر ثابت، ثم ازداد جرأة فنسبه إلى رسول الله، جعله حديثًا من قوله؟ ! لأن الذي لا أكاد أشك فيه أن الأستاذ إنما نقل هذا عن غيره من العلماء قبله، وإن لم يكن معذورًا في نقله.
6 -
(ص 87 - 88) تحدث المؤلف عن "عقوبة الاعتداء على الدين بالردة" حديثًا غريبًا، لا ندري ما وجهه! فكان مما قال:"أما العقاب الدنيوي لهذه الجناية، وهو القتل، فيثبته الفقهاء بحديث يروى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". وقد تناول العلماء هذا الحديث بالبحث من جهات: هل المراد من بدل دينه من المسلمين فقط، أو هو يشمل من تنصر بعد أن كان يهوديًّا مثلًا؟ " إلى أن قال: "وقد يتغير وجه النظر في هذه المسألة، إذا لوحظ أن كثيرًا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحًا للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين" إلى آخر ما قال!
أما أولًا: فإن حديث "من بدل دينه فاقتلوه" حديث صحيح لا شك في صحته، والراجح عند العلماء أنه فيمن ارتد عن الإسلام فقط. فاختلاف العلماء في فهمه وذهاب بعضهم إلى أنه عام يشمل غير المرتد، ممن خرج من دين غير الإسلام إلى دين آخر غير الإسلام، لا يكون علة للحديث حتى يبطل كل معناه، كما يريد المؤلف أن يذهب، فإن هذا مذهب عجيب في إبطال السنة ونقض
دلالتها على الأحكام، فما من حديث إلّا اختلف الناس في تأويله وفهمه، فمصيب ومخطئ.
وأما ثانيًا: فما أعرف "أن كثيرًا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بأحاديث الآحاد؛ وما أرى لهذا دليلًا ولا شبه دليل، وإنما يتلاعب بعض المتقدمين ممن يرون نفي السنة كلها، منهم من يصرح، ومنهم من يتحايل بمثل هذه الألفاظ الموهمة. وقد تكفل العلماء بالرد على نفاة الأحاديث، وعلى متأوليها المتلاعبين بها، وعلى من زعم تحكيم اصطلاحات المتكلمين في الشريعة وأدلتها، فيفرقون بين "القطعي" و"الظني"، ويزعمون أن الأحاديث كلها من "الظني" وأن "الظن" الذي هو الشك أو نحوه لا يصلح دليلًا. وأنا أعتقد أن الأستاذ المؤلف العلامة يعرف من هذا الشيء الكثير، ويعرف أن دلالة الأحاديث الصحيحة دلالة قطعية في مجموعها، وأن اختلاف العلماء على اختلاف الروايات في بعض الشيء منها، لا ينفي حجتها القطعية فيما دل عليه مجموعها، ولا يبطل الاحتجاج بتفاصيلها المختلف فيها في الرواية بعد الاجتهاد في الترجيح، وقد قلت في نحو هذا المعنى في شرحي على "اختصار علوم الحديث" تأليف الحافظ ابن كثير (ص 25): "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله: من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما. وهذا العلم اليقين علم نظري برهاني، لا يحصل إلا للعالم المتبحر في
الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل".
وأما ثالثًا: فإن الأمر بقتل المرتد عن الإسلام لم يثبت بما يسميه المؤلف العلامة "حديث الآحاد"، وإنما هو شيء ثابت بالسنة المتواترة، معلوم من الدين بالضرورة، لم يختلف فيه العلماء، أعني لم يختلفوا في أن "المرتد يقتل"، أعني أنهم لم يختلفوا فيما يسميه الناس في اصطلاحهم اليوم "المبدأ"، وإن اختلفوا في بعض التفصيل، تبعًا لاختلاف النظر. في التطبيق، تطبيق "المبدأ" على الفروع، وتطبيقه على الحوادث.
نعم، إن الدستور المصري نص على "حرية الأديان" ففهم الناس أن قصد واضعيه إباحة الردة عن الإسلام لمن شاء وحماية المرتدين، ثم صار هذا كالعقيدة البديهية عندهم، حتى صاروا يرون غيرها منكرًا، يعرفون المنكر، وينكرون المعروف، فأظن أن الأستاذ المؤلف، وهو يلقي هذا الكتاب دروسًا على خريجي كلية الحقوق (طلبة الليسانس) أراد أن يتألفهم ويقرب إليهم أحكام الشريعة حتى لا ينفروا منها، فغلبه ما أراد من ذلك، ليجمع بين ما ورد من الأحاديث في قتل المرتد، وبين ما قرره الدستور طبقًا لمبادئ "التشريع الحديث"! ! التي تأكد ضربها على بلادنا بما جاء في معاهدة "منترو".
وإن الأستاذ المؤلف العلامة لأجل في نفسي وأعلم، من أن أظن به أنه لم ير الأحاديث الصحيحة التي وردت في ذلك، ولم يقرأها في مصادرها من دواوين الحديث، فيما تلقى من شيوخه وأساتذته كما
تلقينا، وفيما قرأ لطلابه ومريديه كما يقرأ شيوخ العلم وأساطينه، ولكنه حين أراد أن يكتب هذا البحث، وجهه حرصه على تألف طلابه ورغبته في إقناعهم بفضل التشريع الإسلامي وجهة أخرى، أنسته شيئًا كثيرًا، وهو العالم الباحث الواسع الاطلاع.
ولقد جاء هو في كتابه (ص 128) في نصوص النهي عن القتل بحديث من الأحاديث الواردة في قتل المرتد، قال:"ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلّا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". وهذا حديث عبد الله بن مسعود في البخاري وغيره.
وقد جاء في معناه أيضًا حديث عثمان بن عفان، حين ثار به الثائرون وحصروه وأرادوا أن يقتلوه، فقال: (وبمَ يقتلونني؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا فيقتل بها". والله ما أحببت أن لي بديني بدلًا منذ هداني الله، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا قتلت نفسًا، فبم يقتلونني؟ ". وأظن أن هذا صريح وواضح في أن عثمان ومن سمعه من الصحابة - وهم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه وهم الذين حضروا التشريع وفهموا مقاصد رسول الله وأسرار الشريعة - فهموا أن الردة عن الإسلام وحدها موجبة لقتل المرتد، فما يظن واحد منهم
أن عثمان كان خارجًا على الدولة محاربًا للمسلمين! وهو رئيس الدولة والذين حرصوا على قتله هم الخارجون المحاربون.
ومن ذلك أيضًا حديث أبي موسى الأشعري، إذ بعثه رسول الله واليًا على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل "فلما قدم عليه قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديًا فأسلم، ثم راجع دينه فتهوَّد، قال لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله. فقال: اجلس، نعم. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله. ثلاث مرات، فأمر به فقتل". وهذا حكم بين كان في حياة رسول الله.
7 -
تحدث المؤلف الفاضل في أحكام القصاص فيما دون النفس (ص 183 - 191) في بحث نفيس، انتهى منه إلى أن الأمة اتفقت "من لدن النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية القصاص في الجروح، ثم تلاحقت أجيال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين على مشروعيته، من غير أن يعلم مخالف فيه أو منكر له". وهو كلام حق لا شك فيه، ولكنه في ثنايا استدلاله كاد يناقض ما قاله في آخره، وعلل حديثًا صحيحًا تعليلًا غير صحيح؛ فإنه ذكر قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى آخر الآية 45 من سورة المائدة. ثم استعرض الآيات التي جاءت فيها هذه الآية قبلها وبعدها، ثم قال: (من هذا العرض يتبين أن ما جاء عن القصاص فيما دون النفس إنما هو تشريع لأهل التوراة، وقد اتفق العلماء على أنه لم يلحقه في القرآن
تقرير ولا نسخ، وبذلك كانت من جزئيات المسألة الأصولية التي اختلفت فيها العلماء، وهي:"شرع من قبلنا شرع لنا") إلى آخر ما قال.
فهذا كلام موهم، أعني قوله:"وقد اتفق العلماء على أنه لم يلحقه في القرآن تقرير ولا نسخ". فإن القول الصحيح عند العلماء: أن شرع من قبلنا إذا حكاه الله لنا عنهم، كهذه الآية في القصاص، لا يكون شرعًا لنا إلّا إذا لحقه تقرير في شرعنا، أي؛ إقرار العمل به من الشارع، وليس من الصحيح اشتراط أن يكون هذا التقرير في القرآن، ولكن المؤلف العلامة ذكر كلمة "في القرآن" في ثنايا كلامه طردًا لرأيه في هذه المسائل على وتيرة واحدة، بما ذهب إليه أو لمح له مرارًا من عدم الاحتجاج بالأحاديث إلَّا فيما يرى هو أنها فيه موضع حجة، وقد ذكر المؤلف نفسه في هذا البحث من السنة حديث أنس بن مالك الذي فيه "كتاب الله القصاص"، ثم عقب عليه ص 190 بأشياء يظن أنها إضعاف للحديث، وما هي بتضعيف، والحديث صحيح لا شك في صحته ولا يعيبه ما يذهب إليه المؤلف الجليل من أنه "حديث آحاد"؛ فإنه حتى الذين يحاولون الطعن في "أحاديث الآحاد" لم يخالفوا في أن الحديث الذي يوافق القرآن حجة مبين للقرآن، وهذا حديث موافق للقرآن، يأمر بالقصاص في السن التي كسرت، ويقول "كتاب الله القصاص"، فهو لم ينشئ حدًّا جديدًا، وإنما هو إقرار لعقوبة ثبتت بالقرآن حكاية عن شرع من قبلنا، فلا يدخل في إنكار "كثير من الأصوليين صحة الاستدلال به على مشروعية العقوبات
كالحدود والقصاص"! ! كما يقول المؤلف ص 191.
ثم جاء إجماع الأمة، أو "اتفاقها" كتعبير المؤلف مؤيدًا للحديث مصححًا له في إقراره هذا الحكم من شرع من قبلنا، فهو تواتر عملي قطعي الثبوت والدلالة على صحة هذا الحكم بالنص، لا باجتهاد المجتهدين، ولا باستنباط المستنبطين.
وبعد: فهل لي أن أطلب إلى الأستاذ المؤلف، إذا ما أعاد طبع كتابه، أن يعنى عناية كثيرة بتصحيحه، فإني أظن أن هذه الطبعة جاءت على عجل، لحاجة الطلاب للاستذكار.
وأهم من هذا: التوسع في ذكر المراجع والمصادر، والإشارة إلى مواضع الاستدلال أو الاقتباس منها، فائدة للطلاب أولًا، فإنهم سيلجؤون، إذا ما وجدوا وقتًا للبحث، إلى كتب لم يكن لهم بها عهد، فمما يحبب البحث إليهم ويرغبهم فيه، ويشوقهم إلى هذه العلوم العالية، أن ييسر لهم سبيل الرجوع إليها في مصادرها الصافية، كتب الأئمة والعلماء، ثم هذا الزمن، الذي يعيش فيه الناس على أعصابهم، وقد جنوا بجنون السرعة، لا يكاد الباحث يجد فيه متسعًا للتنقيب بدقة عن كل ما يريد، فمن الخير أن يكون الكتاب الحديث مرشدًا لقارئه وهاديًا.
* * *