الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعقيب على مقاله
وقد بدأ الشيخ مقالَه بالبراءة إلى الله من سوء الظنّ بشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ذكر أن تعليقَه الذي أخذناه عليه "لا يعطى مطلقًا رَمْي شيخ الإسلام بالكذب، حاشاه وبرّأه الله".
أما سوءُ الظن بشيخ الإسلام، فما نسبناه إليه قَطُّ، ولا نستطيعُه؛ لأنه من أفعال القلوب، التي لا يطَّلع على حقائقها إلَّا الله تعالى، الذي يعلم ما تكن الأنْفُسُ وما تُخْفِى القلوبُ.
وإنما الكلام فيما يدلُّ عليه تعليقُه - أو يُوهِم - أنه نسبةُ الكذب على شيخ الإسلام، حاشاه الله وبرّأه منه. وإنما الكلام فيما حاوَلْنا أن نبرئ الصديق القديم مما يوهم كلامُه، ورجَوْنا أن يَبْرَأَ منه براءةً صحيحة واضحة صريحة، فأبَى.
وهذا من مواقف الرجال، التي لا يصلح فيها التأوُّلُ ولا الالتواءُ: فإما نفيٌ لما يوهمه الكلامُ نفيًا قاطعًا واعترافٌ بالخطأ في التعبير، وإما التزامٌ لما يقتضيه معنى الكلام، ثم الثبات عليه، أيًّا كانت العواقب، أما التأرجحُ بين النفي والإثبات، وأما المحاورةُ والمداورةُ، فلا تزيد الأمرَ إلَّا شَنَاعةً.
لقد حكى شيخ الإسلام أنّ من الناس من رأى الجنّ، ومن رأى
من رآهم، ومن الناس من كلّمهم وكلّموه، ثم قال بعد ذلك:"ولو ذكرتُ ما جرى لي ولأصحابي معهم [أي مع الجنّ، ببداهة السياق]، لطال الخطاب". وهذا كلام ليس له معنًى في لغة العرب إلَّا أنّ شيخ الإسلام يحكي أنه جَرَى له نفسه شيء من هذا، كما قلتُ لك في مقالي، فإذا جئتَ أنت وعلَّقْتَ على هذا القول بأنه "ليس ثم دليل على صدق أولئك المخبرين" - الذين منهم شيخ الإسلام، بدلالة صريح الكلام - ألا يُوقع هذا القولُ منك في وَهْم القارئ أن هذا القائل الذي يدعي أنه "جَرَى له" شيء من هذا مع الجنّ - لمْ يَكُ صادقًا، أو على الأقل أنه لم يكن متحريًا للصدق؟ ! ومع هذا فإني برّأتُك بالقول الصريح "من أن تقصد إلى رَمْيِ شيخ الإسلام - عن عَمْدٍ - بما يُفْهم من قولك"!
* * *
وأنا أثقُ كل الثقة، أنك لا تستطيع رميَ شيخ الإسلام ابن تيمية بالكذب والافتراء، ولا تَعمد إلى ذلك قطّ - على كثرة ما يَجْري على لسانك وعلى قلمك من الطعن في الأئمة والعلماء، ورميهم بالكذب والافتراء - لسبب واحد أعرفُه وتعرفُه: وهو أن لشيخ الإسلام ابن تيمية مَنْ يَغْضَبُ له، ويَقْلي شانئيه ومبغضيه، وأنت أحرصُ من أن تقف هذا الموقف، وخاصةً أنْ كنتَ في أول أمرك من مُحِبيه ومُعَظِّميه، وأنا أعرف صاحبي، يا صاحبي.
ولكنك أفلتَتْ منك كلمةٌ عابرةٌ، غَفَلْتَ عن مرماها وما وراءها،
فحين كشفتُ لك غطاءها، ووقَفْتُك على ما وراءها، ثارتْ ثائرتُك، وكبر عليك أن يُكْشَفَ الستارُ عما تُجِنُّ نفسُك، فاندفعتَ - كعادتك - غير متبصرٍ عاقبةَ أمرك، ولا ناظرٍ إلى ما تحت قدميك، وقد نصحتُك فكبُر عليك النصح، وحذَّرتُك - إبقاء عليك - فأسأتَ الظنَ بي، كعادتك مع إخوانك، فسقطتَ في الحفرة بين قدمَيْك، وكنتُ من هذا أخشى عليك.
إنك - في دفاعك المُنْهارِ - تفسر كلمتك "ليس ثم دليل على صدق أولئك المخبرين" بقولك في صدر مقالك: "أي ليس ثم دليل من الكتاب والسنة يعتمد عليه في هذه الأمور الغيبية، ونفيُ الدليل على وقوع ما يذكره الناس من رؤيتهم للجنّ، لا يعطى مطلقًا رمي شيخ الإسلام بالكذب - حاشاه وبرأه الله - وما كنتُ أتصور مطلقًا أن يحملها حامل على أني أرمي شيخ الإسلام بالكذب، فهي والله عندي عجيبة جدُّ عجيبة". ثم بقولك في وسط مقالك: "ونفي صدق الدليل الشرعي: أقصد منه خطأ من يثبت تيسُّر رؤية الجنّ كرؤية المرئيات العادية. فإن الجنّ بلا شك من عالم الغيب الذي نؤمن به، على ما صح وثبت عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا نَزِيد بعقلنا ولا بعقل غيرنا"! !
* * *
أين يُذْهَب بك أيها الرجل؟ ! أنحن بصدد إثبات حكم شرعي نتطلَّب الدليل عليه من الكتاب والسنة؟ أم نحن بصدد واقعةٍ أو وقائع معيَّنةٍ، وقعتْ بعد انقضاء الوحي بأكثر من سبعمائة سنة، في عصر
شيخ الإسلام؟ ألا تعرف - وأنت الرجل الذكي العالم - الفرقَ بين الأحكام والقواعد واستنباطها، وبين الوقائع المعيَّنة وثبوتها؟ !
وسأُعَلِّمُك:
لو كان كلامُ شيخ الإسلام مقرَّرًا لوجود الجنّ فقط، لطالبَه مُنَاظِره أو مُجادِله بالدليل على ذلك من الكتاب والسنة، وهذا هو الحكمُ الذي يُطْلَب من أجل إثباته دليلٌ منصوص من الكتاب والسنة، أو دليل مستنبط منهما، ولكنّ شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن هذا ليس موضعَ الردّ على المردود عليه.
فإنه يقول بالحرف الواحد: "وأمّا كونُه لم يتبيَّنْ له كيفيةُ الجنّ ومقاماتُهم، فهذا ليس فيه إلا إخباره بعدم علمه، لم ينكر وجودهم". فهذا هو الحكمُ بوجود الجنّ: لمَ ينسب شيخُ الإسلام للرجل المردود عليه أنه ينكر وجودهم، حتى يقيم عليه الدلائل من الكتاب والسنة، بل أثبت لخصمه أنه "لم ينكر وجودهم"، ولذلك لم يكتب له في هذا الموضع الدلائل من الكتاب والسنة؛ لأن وجودهم - عن هذه الدلائل - ليس موضعَ الخلاف والردّ على ذاك الرجل.
وقد فهم شيخُ الإسلام من كلام الرجل المردود عليه، أنه ليس فيه إلَّا إخبارُه بعدم علمه بكيفية الجنّ ومقاماتهم، فأراد أن يَحُجَّه بالحال المشاهدة عندَ بعض الناس، ومنهم شيخ الإسلام نفسُه. فقال: "إذْ وجودهم ثابتٌ بطرق كثيرة، غير دلالة الكتاب والسنة؛ فإن من الناس مَنْ رآهم
…
ومن الناس من كلَّمهم وكلَّموه
…
ولو
ذكرتُ ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب".
وهذا كلامُ الرجل العالم الفاقِه لما يقول، الواثق من نفسه ومن صدقه، ومن تصديق خصمه له إذا حَكَى ما رأى بعينه وسمع بأذنه. إذْ هو يعلم أنه لا يُدْفَع عن الصدق فيما يقول عما شهده، ولا عن الصدق فيما يَنْقل من العلم، ويعلم أن أحدًا من خصمه لم يَنْبِزْه بالكذب قطّ.
فهذه واقعة - في رؤية شيخ الإسلام للجنّ وكلامه معهم - وقعتْ بعد انقطاع الوحي بأكثر من سبعمائة سنة، فليس لسامعها إلَّا إحدى اثنتين: أن يصدِّقَ راويَها الذي يدَّعي أنها وقعتْ له، بما يعرفه من صدق لهجته، ومن عدالته وأمانته، ومن أنه أهل للشهادة تُقبل شهادتُه، ولا يستطيع أن يَطلب منه دليلًا على صدقه من الكتاب والسنة، فما يُعقل قطّ أن يَطلبَ منه نصًّا من الوحي على أنه صادق في هذه الواقعة أو الوقائع بعينها! ! أو يكذِّب هذا الراوي فيما روى أنه وقع له.
وهذا التكذيب قد يكون للراوي نفسه، بدفعه عن الصدق، بما يعلم الدافعُ من حال الراوي وعدم عدالته؛ فيكون نفيًا خاصًّا قاصرًا على الواقعة أو الوقائع التي يحكيها هذا الراوي.
وقد يكون التكذيبُ عامًّا، غير قاصرٍ على موضع الرواية، بل نفيٌ لأصل المسألة، فكأنه يقول للراوي - حتى لو عَرَفَه بالصدق والعدالة: إن الذي تقول وتحكي لا يُعقل أن يقعَ قطّ؛ لأن دلائل
الكتاب أو السنة الصحيحة تنفيه، وتجعلُ وقوعَه محالًا، فأنت إمّا كاذب مخترع، وإما واهم متخيّل! !
وهذا هو الذي صنعته أنتَ، وحاولتُ أن أبرئك منه، ووضعتُ بين يديك الفرصة لتنفي عن نفسك الشبهةَ! فأبيت.
جئت لواقعة أو وقائع يَرْوي شيخ الإسلام - وهو الصادقُ القول، الثابتُ العقل، النيّرُ البصيرة - أنها وقعت له، كما وقعتْ لغيره، فنفيتها نفيًا قاطعًا عامًّا فقلت له:"ليس ثم دليل على صدق أولئك المخبرين، ولعل أكثرهم كان واهمًا ومتخيلًا"!
مَنْ أولئك المخبرون الذين "ليس ثم دليل على صدقهم" أيها العالمُ الذكيّ؟
ليس أمامَنا - في هذا الموضوع بعينه، وفي مقال شيخ الإسلام بعينه - إلّا مخبرٌ واحدٌ، هو شيخ الإسلام ابنُ تيمية، ثم مخبرون آخرون له، لم نعرف من هم، ولكنه هو الذي أخبرنا حاكيًا عنهم. أتريد أن يكون تكذيبُك إنما يقع على أولئك المخبرين له؟ فلنفرضْ هذا، ولكن ماذا عن إخباره هو بأنه جَرَى له مع الجنّ شيء مما حكى؟ أهو صادق فيه أم كاذب؟ أهو واهمٌ فيه ومتخِيَّل، أم ثابتُ العقل مستيقنٌ؟ !
هذا هو الذي تتحدَّثُ فيه، ودَعْ ما عداه!
* * *
ثم أينَ في كلام شيخ الإسلام - في رسالته التي علَّقتَ عليها -
إثباتُ "تَيَسُّر رؤية الجن، كرؤية المرئيات العادية" حتى تدَّعى أنك تقصد بيان خطئه؟ ثم من ذا الذي زعم من العلماء، بل حتّى من المخرفين الأغبياء، من ادّعى "تيسُّرَ رؤية الجن، كرؤية المرئيات العادية"؟ !
ألا تَفْقَهُ ما تقول؟ ! أتكون كلمتي لك مخلصة لوجه الله - سببًا لمثل هذا الهُرَاء، بل سببًا لخطإٍ في التعبير، لم تقصد إليه يقينًا، حين تقول "ونفي صدق الدليل الشرعي"! ! تريد "ونفي وجود الدليل الشرعي"! وأنا أعرف أنك ستزعم أنها غلطةٌ مطبعية، ولكنّ المصحح الذي كنتَ تُلصق به كل الأغلاط في كتبك ترَك العملَ معك منذُ عهد بعيد!
ثم تغالط وتقول عن حديث الشيطان الذي كان يسرق من تمر الصدقة "أنه ليس عامًّا بالنسبة لكل الناس"! ومَنْ ذا الذي زعم لك أنه "عامّ بالنسبة لكل الناس"؟ ! أتريد أن تقوّلني في مقالي ما لم أقل؟ ! إنك تنفي إمكان رؤية الجنّ نفيًا باتًّا عامًّا قاطعًا، وتستدل بالآية على غير وجهها، لتكذّب بها من يدَّعي أنه يراهم في بعض الأحيان، أي تجعل الآية دليلًا على الاستحالة الواقعية، لا الاستحالة العقلية، فهذا العمومُ في النفي يكفي في نقضِه ثبوتُ حادثة واحدة صحيحةٍ، وهذا هو موضع الاستدلال.
* * *
ثم قاصمةُ الظَّهْر، وتلك التي لا شَوَى لها:
إنك منذُ درستَ السُنّة، والتزمت منهاجها الحقّ، كنتَ تأخذ مأخذَ الاجتهاد، وتسيرُ على الطريق السويّ، ولستُ أرمي إلى إنكار
هذا عليك - حتى لا تتأولَ كلامي فتوجَّهَه إلى غير ما أقصد - ولعلي كنتُ من أوائل الدعاة في مصر إلى هذا الصراط المستقيم، وما أظنك تنكر على ذلك، وقد فَخَرْتَ بذلك في مقالك، ونفيتَ عن نفسك تهمة التقليد لابن تيمية أو ابن القيّم أو غيرهما. فانظرْ ماذا فعلتَ؟
نقلتَ عن أحد الكتب، ولستُ أُسَمِّيه لك الآن، أن البيهقي روى في مناقب الشافعي:"عن الربيع بن سليمان، أنه سمع الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجنّ رَدَدْنا شهادتَه، إلا أن يكون نبيًّا".
أفأستطيع أن أفهم من كلامك - بما أخذتَ به نفسَك من مذهب الاجتهاد - أنك لا تقلّد الإمامَ الشافعي في هذا القول، وأنْ قد أدَّاك اجتهادُك إلى مثل قوله، فالتزمتَه قولًا لك، تذهب إليه وترتضيه، وأنك جئت بكلمة الشافعي استئناسًا، لا استدلالًا؟ ! وهذا بديهيٌّ من معنى قولك، ومن سياق حكايتك، لا تستطيع منه تَفصِّيًا، ولا عنه نُكُوصًا.
أفتدري إلامَ ينتهي بك هذا القول وهذا الرأي؟ إنك باختيارك إيّاه قولًا، وبارتضائك. إيَّاه مذهبًا - تحكمُ حكمًا لا رجوعَ لك عنه، ولا مناصَ منه: أن شيخ الإسلام ابن تيمية ممن لا تُقبل شهادتُه عندَك؛ لأنه ادَّعى رؤية الجن والكلامَ معهم، بصريح قوله الذي تتحدث عنه.
وأعيذُ شيخَ الإسلام بالله منك ومن اجتهادك، ومن ادّعائك نصرتَه والذّيادَ عنه، بل هو أرفعُ عندنا قدرًا، وأعلى علمًا، وأصدق قولًا، من أن نأخذه بمثل هذه الكلمة التي نقلت عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، والذي قاله شيخ الإسلام وحكاه عن نفسه وعن غيره
ممن يثق به، نصدقهُ فيه، ولا نرى من دلالة الآية ما ينفيه، وأمامَنا السُّنةُ الصحيحة تؤيدُه في إمكان الرؤية، لا نقصدُ بذلك إلى العموم الذي تحرف إليه الكلام:"تيسُّر رؤية الجنّ، كرؤية المرئيَّات العادية" مما لم يقل به أحدٌ قطُّ فيما علمنا.
فانظر أين ذهبتْ براءتُك إلى الله من سوء الظن بشيخ الإسلام، وبراءتُك من رميه بالكذب في صدر كلامك؟ !
* * *
ما أجد كلمةً أصف بها عَمَلَكَ هذا، أحسن من كلمة قالها الطبري في تفسيره (1) يصوّر بها تناقض من يردّ عليه، قال:"ثم نَقَضَ ذلك من قوله، فأَسْرَعَ نَقْضَه، وهدَمَ ما بَنى، فأسرع هَدْمَهُ"! !
وتسألني - أيها الصديق القديم - أين كنتُ يومَ نقدتَ ابن تيمية في تعليقاتك على بعض كتبه؟
وسأُجِيبُكَ:
كنتُ حاضرًا، أرى وأسمعُ، وأقرأ وأعجبُ، ولا أزعم أنك كنتَ مخطئًا في كل ما تقول، ولا مصيبًا في كل ما تنقد، وكان الصواب قليلًا نادرًا. وكنتُ أحاول التفاهم معك في بعض الحالات، فكنتَ تستقبلني بالهزء والسخرية، وقلب الجدِّ مزاحًا، كعادتك التي اصطنعتها منذ بضع سنين، وكنتُ أسكتُ، ولا أظنك
(1) تفسير الطبري 1/ 231، من طبعة دار المعارف، بتحقيقي مع أخي السيد محمود محمد شاكر.
تنسى ما كان من اشتراكنا في إخراج تهذيب السنن لابن القيم، وكيف كنتُ أعارضك في كثير مما تكتب من التعليقات، التي أتحرَّجُ من أن تُنْسَب إليّ بحكم اشتراكنا في العمل، حتى اضطُررنا إلى الاتفاق على أن يوقع كل واحد منَّا على ما يكتب، وكنتَ - في بعض الأحيان - إذا لم يعجبْك حديثٌ ثابت صحيح، ولم تستطع الحكم بضعفه، تذهبُ إلى تأويله بما يكاد يخرجه عن دلالة الألفاظ على المعاني، وكنتُ أنصحك بأن هذه الطريقة هي التي ننعاها وينعاها علماء السنة على أهل الرأي، فلم تكن ترجع عن اجتهادك، ثم ازداد الأمر حين كتبتَ هامشة معيَّنة، حاولتُ إقناعك ببطلانها، فأصررتَ على إثباتها، فعزمتُ عليك أن لا تفعل، وأعذرتُ إليك أنها إذا طُبعتْ في الكتاب نفضتُ يدي من الاشتراك في تصحيحه؛ إذْ لا أستطيع وضعَ اسمي على كتاب يُنْشَر فيه مثلُ هذا الكلام، فلم تعبأ بكلامي، فتركتُ العمل فيه.
ولا أذكر أني كتبت مقالًا، أو نشرتُ شيئًا تتبّعتُ فيه سقَطَاتِكَ، كما زعمتَ ذلك ونسبتَه إليَّ.
ولذلك لم يعجبني قولك عنّي: "فليُرحْ نفسَه من يحاول ذلك، ويذهبُ مُتَتَبعًا سقطات". وكنت أتمنى أن لا تقوله، فإنّ الصدق في غيره.
* * *
وبعدُ:
فما كنتُ يومًا ما من المعوّقين لك، يُلْقُونَ في طريقك الغبار والأشواك! فقد نسبت إليّ ما لم يكن، بل كان غيرُه هو الصحيح،
فكنتُ أنصرُك في أكثر مواقفك، وأدفعُ عنك قادحِيك. وكنتُ - إذا أخذتُ عليك مأخذًا - نصحتُك به مواجهةً صريحةً، غيرَ ملتوية ولا متخاذلة، وكنت في أول أمرك تقبل نصحي، أو تقنعني بخطئي، ثم كانت عاقبةُ أمرك - معي على الأقل - أن لا تقبل نصحًا، وأن تركبَ رأسك، وتَسير في طريقك، فنسكتُ ولا نعوَّقك ولا نُلقي في طريقك غبارًا ولا شوكًا، بل لطالما أسأتَ إليّ، وأنا أعفو وأصفح، وأقابل إساءتك بالوفاء، والحرص على المودة القديمة التي كانتْ قائمة.
ولماذا ألقي في طريقك الغبارَ والأشواك؟ وأنا أراك منذ أكثر من عشر سنوات واقفًا على هُوَّةٍ غطاؤها لا يكاد يَتَمَاسَكُ، مما تُحَمَّله من أعباء، وتصنع به من أحداث. وأنا أدِينُك بخطّك، لا بكلامي ولا بكلام غيري، وقد أحْكَمْتُ لك الحِكْمَةَ وزمامُها بيدي، وكان الظنُّ بك أن لا تضرب هذه اليدَ، إن [لم] يكن وفاءً للصداقة القديمة، فخوفًا أن يُفْلِتَ الزمامُ، ولكنَّك لا تُبْقِي ولا تَذَر.
هدانا الله جميعًا إلى سبل السلام، ووفّقنا للحق فيما نقول ونعمل، وجنَّبنا مواقف الزلل، ومهاويَ الأهواء، ونَزَوَاتِ الشيطان، وجعلنا من الهادين المهديّين، والسلام.
الإثنين، 8 شوال، سنة 1374، 30 مايو، سنة 1955.
كتبه
أحمد محمد شاكر
عفا الله عنه بمنه