الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين)
تتمة الكلام عن المعارضين والمنكرين للتفسير العلمي
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فكنا قد تعرضنا إلى إنكار الشاطبي لهذا اللون من التفسير العلمي:
لقد أخذ الشاطبي بعد هذا في ذكر ما استند إليه أرباب التفسير العلمي من الأدلة فقال: "وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} (النحل: 89)، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام: 38)، ونحو ذلك وبفواتح السور، وهي مما لم يُعهد عند العرب، وبما نُقل عن الناس فيها، وربما حُكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء ".
ثم أخذ الشاطبي رحمه الله يفند هذه الأدلة فقال: "فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو المراد بالكتاب في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام: 38) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية، وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدًا كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يدَّعِ ذلك العلم أحد ممن تقدم. فلا دليل فيها على ما ادعوا وما يُنقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقوَّل على الله ورسوله فيه". هذه هي الخلاصة الشاملة لمقالة الشاطبي في هذا الموضوع؛ وذلك هو رأيه في التفسير العلمي الذي شغف به بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين.
يقول الذهبي: "وأحسب أني وقد وضعت بين يدي القارئ مقالةَ كل فريق وما يستند إليه من أدلة قد أنرْتُ له الطريق، وأوضحت له السبيل". هذا عن إنكار بعض العلماء للتفسير في العصر القديم، أما في العصر الحديث أيضًا لم يقف العلماء في هذا العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللون من التفسير بل نراهم مختلفين في قبوله، والقول به، كما كان الشأنُ بينَ مَن سبقَهُم من العلماء الأقدمين.
نجد هذِه المعارضة للتفسير العلمي في كثيرٍ من المحاورات والاعتراضات التي وُجهت إلى صاحب (الجواهر) وذكرها في تفسيره، كما نجد بعض أستاذتنا المعاصرين ينعون على من يأخذ بهذه الفكرة، ويقول بها، ومن بين هؤلاء أستاذنا الشيخ محمود شلتوت فقد تناول هذا الموضوع بالبحث في العدد 407، 408 من السنة التاسعة لمجلة الرسالة إبريل سنة 1941 وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللون من التفسير بحججٍ قويةٍ واضحة.
وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولي يتناول هذا الموضوع في كتابه (التفسير معالم حياتي منهجي اليوم) وفيه يرد على أنصار هذا المذهب في التفسيرِ بحججٍ قوية واضحة، وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضا نجده في مقدمة تفسيره ينعي على من تأثروا في تفسيرهم بنزعاتهم العلمية، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعاني والبيان، والإسرائيليات، وغير ذلك، ويَعُدُّ هَذَا صَارِفًا يصرف الناس عن القرآن وهديه، ثم ينعي على الفخر الرازي ما أورده في تفسيره من العلوم الحادثة في الملة، ويعد هذا صارفًا يصرف الإنسان عن القرآن وهديه، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على من قلد الفخر الرازي في مسلكه من المعاصرين.
ويقول الذهبي: "أظنه أراد بذلك صاحب (الجواهر) وذلك حيث يقول: وقد زاد الفخر الرازي صارفًا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلده بعض المعاصرين بإيرادِ مثل هذا من علوم هذا العصر، وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض يذكر من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن".
يقول الذهبي: "وأخيرًا فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي رحمه الله رحمة واسعة- نجده في تقريظه لكتاب (الإسلام والطب الحديث) لا يرضى عن هذا المسلك في التفسير رغم أنه مدح الكتاب، وأشاد بمجهود مؤلفه؛ وذلك حيث يقول: لست أريدُ من هذا -يعني ثناءه على الكتاب ومؤلفه- أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملةً، وتفصيلا بالأسلوب التعليمي المعروف وإنما أريد أن أقول: إنه أتى بأصولٍ عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به ليبلغ درجة الكمال جسدًا وروحًا، وترك الباب مفتوحًا لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة ليبينوا للناس جزئياتِهَا بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم موجودون فيه. وفي موضع آخر يقول: يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم؛ كي نفسرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقةٍ علميةٍ ثابتة فسرناها بها، ومن هذا كله يتبين أن التفسير العلمي في العصر الحديث إن كان قد لقي قبولا ورواجًا عند بعض العلماء؛ فإنه لم يلق مثل هذا القبول والرواج عند كثير منهم، وقد علمتَ فيما سبق أي الرأيين أقرب إلى الحق وأحرى بالقبول". هكذا يقول الذهبي.