الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلماء ذلك؛ فيعلموا أن هذا هو النصر في زماننا، وهو الفتح، وإذًا فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه".
يقول صاحب كتاب (التفسير والمفسرون): "هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه، وضعتها أمام القارئ؛ ليقف على مقدارِ تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلمِ مؤلفِهِ وقلبِهِ، والكتاب -كما ترى- موسوعة علمية ضربت في كل فنٍّ من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وُصف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: فيه كل شيء إلا التفسير، بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف، وأولى به. وإذا دل الكتاب على شيء فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيرًا ما يسبح في ملكوت السموات والأرض بفكرِهِ، ويطوف في نواحٍ شتى من العلم بعقله، وقلبه؛ ليوضح، ويُظهر للناسِ آيات الله في الآفاق، وفي أنفسهم، وليظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمنًا لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علومٍ ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث تحقيقًا لقول الله تعالى في كتابه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} (الأنعام: 38)، ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده وانحراف به عن هدفه". فهذا ما قاله صاحب كتاب (التفسير والمفسرون) في كتاب (الجواهر). هؤلاء هم المؤيدون للتفسير العلمي.
المعارضون والمنكرون للتفسير العلمي
بعد ما ذكرنا المؤيدين للتفسير العلمي نتعرض الآن للمنكرين للتفسير العلمي:
فإذا كانت فكرة التفسير العلمي قد راجت عند بعض المتقدمين وازدادت رواجًا عند بعض المتأخرين فإنها لم تلق رواجًا عند بعض العلماء الأقدمين كما أنها لم تلق رواجًا عند بعض المتأخرين منهم أيضًا.
الشاطبي ينكر التفسير العلمي:
وكان زعيم المعارضة لفكرة التفسير العلمي في العصور المتقدمة، وهو الفقيه الأصولي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الأندلسي، المتوفى سنة 790 هجرية، وهذا مما يظهر في كتابه (الموافقات) فهو يعقد بحثًا خاصًّا لمقاصد الشارع، وينوع هذه المقاصد إلى أنواع تولَّى شرْحَهَا وبيانَهَا.
يقول صاحب (التفسير والمفسرون): "والذي يهمنا هنا النوع الثاني منها وهو بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للأفهام، وفي المسألة الثالثة من مسائل هذا النوع نجده يقرر: أن هذه الشريعة المباركة أمية؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح، ثم دلَّلَ على ذلك بأمور ثلاثة لا نطيل بذكرها، ثم عقب بفصل ذكر فيه: أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه. ثم ذكر من العلوم الصحيحة التي كان للعرب اعتناء بها علم النجوم وما يختص به من الاهتداء في البر والبحر واختلاف الأزمان، باختلاف سيرها، وما يتعلق بهذا المعنى".
ثم قال: "وهو معنى مقررٌ في أثناء القرآن في مواضع كثيرة، كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97). وقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون} (النحل: 16)، وقوله:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 39، 40). وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5)، وقوله:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 12)، وقوله:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِين} (الملك: 5)، وقوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج} (البقرة: 189)، وما أشبه ذلك من الآيات.
وذكر علم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها وعرض لما ورد في ذلك من القرآن مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} (الرعد: 12، 13)، وقوله:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} (الواقعة: 68، 69)، وقوله:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (فاطر: 9). وغير ذلك من الآيات. وذكر علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية وفي القرآن من ذلك ما هو كثير قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 44) الآية. وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (هود: 49).
وذكر علم الطب وبيَّنَ أنه كان في العرب منه شيء مبنيٌّ على تجارب الأميين لا على قواعد الأقدمين، قال: وعلى ذلك المساق جاءت الشريعة، لكن على وجه جامعٍ شافٍ، قال تعالى:{كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) وذكر التفنن في علم فنون البلاغة والخوض في وجوه الفصاحة والتصرف في أساليب الكلام، قال: هو أعظم ممتحناتهم فجاءهم بما أعجزهم من القرآن قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)، وذكر ضرب الأمثال، واستشهد بقوله تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل} (الروم: 58).
وذكر من العلوم التي عُني بها العرب وأكثرها باطلٌ أو جميعها علم العيافة والزجر والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى والطيرة، قال: فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه كالكهانة، وخط الرمل، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب؛ فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرص على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجهة مَن تعرف علم الغيب مما هو محض، وهو الوحي والإلهام. وبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة، وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة".
ثم بعد هذا البيان الذي أوضح فيه الشاطبي: أن الشريعة في تصحيح ما صححت، وإبطال ما أبطلت قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم، ولم تخرج عما ألفوه، نراه يزيد هذا البيان إسهابًا وإيضاحًا، ويتوجه باللوم إلى من أضافوا للقرآن كل علوم الأولين والآخرين، مفندًا هذا الزعم الذي اعتقده أن قائليه قد تجاوزوا به الحد في دعواهُم على القرآن، وذلك حيث يقول في المسألة الرابعة من مسائل النوع الثاني من المقاصد -أعني مقاصد وضع الشريعة للإفهام- ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب:"ينبني عليه قواعد منها أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات والمنطق، وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح".
ثم يصحح الشاطبي رأيه هذا ويحتج له بما عُرف عن السلف من نظرهم في القرآن، فيقول:"إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المُدعى سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منهم ما يدلنا على أصل المسألة إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم تضمن علومًا من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودها بما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، وأما أن فيه ما ليس من ذلك فلا".
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.