الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
رؤية الأفق دومًا على هيئة دائرة تامَّة الاستدارة، واتَّساع دائرته بارتفاع الرَّائي فوق سطح الأرض.
5 -
ظهور قمم الجبال البعيدة قبل سفوحها بتحرك الرائي إليها، واختفاء أسافل السفن قبل أعاليها في تحركها بعيدًا عن الناظر إليها.
وقام علماء المسلمين في هذا العصر الذهبي بقياس محيط الأرض بدقة فائقة، وبتقدير مسافة درجة الطول في صحراء العراق، وعلى طول ساحل البحر الأحمر، وكانوا في ذلك سابقين للحضارة الغربية بتسعة قرون على الأقل؛ فقد أعلن الخليفة المأمون لأول مرة في تاريخ العلم ب منهجية استقرائية دقيقة أن الأرض كروية، لكنها ليست كاملة الاستدارة.
ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي يتحدث عن نقص تكوُّر الأرض من منطلق آخر؛ إذ ذكر أن مادة الأرض خاضعة لقوَّتين متعارضتين: قوة الجاذبية التي تشدُّ مادة الأرض إلى مركزها، والقوة الطاردة المركزية الناشئة عن دوران الأرض حول محورها، والتي تدفعها إلى الخارج، والقوة الأخيرة تبلغ ذروتها عند خط استواء الأرض، فتؤدِّي إلى انبعاجها قليلًا بينما تنقص إلى أقل قدر لها عند القطبين فيتفلطحان قليلًا، ثم جاء تصوير الأرض من الفضاء في أواخر القرن العشرين ليؤكد كلًّا من كروية الأرض، وانبعاجها قليلًا عند خط الاستواء.
كروية الأرض في القرآن الكريم
من الحقائق الثابتة عن الأرض أنها مكورة؛ كرة أو شبه كرة، ولكن نظرًا لضخامة أبعادها فإن الإنسان يراها مسطَّحة ب غير أدنى انحناء، وهكذا ساد الاعتقاد بين الناس بهذا التصوُّر للأرض إلى زمن الوحي للقرآن الكريم، وإلى قرون متطاولة من بعد ذلك بين العوام إلى يومنا هذا، على الرغم من وجود عدد من الملاحظات القديمة التي تُشير إلى كرويتها.
ولذلك فإن القرآن الكريم يتحدَّث عن هذه الحقيقة بطريقة غير مباشرة، وبصياغة ضمنيّة لطيفة، ولكنها في نفس الوقت بالغة الشمول، والدقة، والإحكام، وجاء ذلك في عدد من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تكور كل من الليل والنهار على الآخر، وولوجه فيه، وانسلاخه منه، وعن مدِّ الأرض وبسطها، وج حوها، وعن كسرة المشارق والمغارب فيها مع بقاء قمة عُظمى، ونهايتين لكل منهما، ومن تلك الآيات قوله تعال ى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (الزمر: 5).
ومعنى {اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} ؛ أي: يغشى كل واحد منهما الآخر، كأنه يلفّه عليه، وهو وصف واضح الدلالة على كروية الأرض، وعلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وذلك لأن كلًّا من الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الأرض في تبادل مستمر، ولو لم تكن الأرض مكورة لما تكوَّر أيٌّ منهما، ولو لم تكن الأرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار، وكلاهما ظرف زمان وليسا جسمًا ماديًّا يمكن أن يكور، بل يتشكَّل بشكل نصف الأرض الذي يعتريه.
ولما كان القرآن الكريم يُثبت أن الله تعالى يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وهما فترتان زمنيتان تعتريان الأرض؛ فلا بد للأرض من أن تكون مكورة، ولا بد لها من الدوران حول محورها أمام الشمس، ومن هنا كان التعبير القرآني بتكوير كل من الليل والنهار فيه إعلام صادق عن كروية الأرض، وعن دورانها حول محورها أمام الشمس بأسلوب رقيق لا يُفزع العقلية السائدة في ذلك الزمان التي لم تكن مستعدَّة لقبول تلك الحقيقة؛ فضلًا عن استيعابها، تلك
الحقيقة التي أصبحت من البديهيات في زماننا، وإن بقي بعض الجُهَّال على إنكارها إلى يومنا هذا، وسوف يبقون على ذلك إلى قيام الساعة، والتكوير يعني: جعلُ الشيء على هيئة مكورة، هيئة الكرة أو شبه الكرة، إما مباشرة أو عن طريق لفِّ شيء على شيء آخر في اتجاه دائري شامل؛ أي: في اتجاه كروي.
وعلى ذلك فإن من معاني {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} ؛ أي: أن الله تعالى ينشر بالتدريج ظلمة الليل على مكان النهار من سطح الأرض المكوَّر، فيحوِّله إلى ليل مكور كما ينشر نور النهار على مكان ظلمة الليل من سطح الأرض المكور، فيحوله نهارًا مكورًا، وبذلك يتتابع كل من الليل والنهار على سطح الأرض الكروي بطريقة دورية مما يؤكِّد حقيقتي كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس بأسلوب لا يفزع الأفراد، ولا يصدم المجتمعات التي بدأ القرآن الكريم يتنزَّل في زمانها، والتي لم يكن لها حظّ من المعرفة بالكون وحقائقه.
والإشارات القرآنية الضمنية إلى حقيقة كروية الأرض ليست مقصورة على الآية الخامسة من سورة الزمر وحدها، وذلك لأن الله تعالى يؤكِّد في عدد من آيات القرآن الكريم على مد الأرض؛ أي: على بسطها بغير حافَّة تنتهي إليها، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية الشكل؛ لأن الشكل الوحيد لا نهاية لبسطه هو الشكل الكروي، وفي ذلك يقول الحق سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} (الرعد: 3)، ويقول سبحانه {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الحجر: 19)، ويقول سبحانه {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (ق: 7).
كذلك يؤكد القرآن الكريم كروية الأرض في آيات التطابق؛ أي: تطابق كل من السماوات والأراضين، ولا يكون التطابق بغير انحناء وتكوير، وفي ذلك يقول ربنا:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (الملك: 3)؛ أي: متطابقة يغلِّف الخارج منها الداخل فيها، ويشير القرآن الكريم إلى اتفاق لأرض في ذلك بقول الله سبحانه:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12)؛ أي: سبع أراضين متطابقة حول مركز واحد، يُغلِّف الخارج منها الداخل فيها. كذلك تشير آيات المشرق والمغرب التي ذكرت بالإفراد والتثنية والجمع إلى حقيقة كروية الأرض، وإلى دورانها حول محورها أمام الشمس، وإلى اتجاه هذا الدوران، وفي ذلك يقول الحق سبحانه:{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (الشعراء: 28)، ويقول {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (الرحمن: 17)، ويقول سبحانه {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (المعارج: 40، 41) فالمشرق هو جهة طلوع الشمس والمغرب جهة غيابها، ووجود كلٍّ من المشرق والمغرب يؤيِّد كروية الأرض، وتبادلهما يؤكد دورانها حول محورها أمام الشمس من الغرب إلى الشرق، والأرض لها مشرق حقيقي واحد، ومغرب حقيقي واحد عموديان على اتجاه الشمال الحقيقي الذي حدَّده لنا الخالق سبحانه بالنجم القطبي، وفي الوقت الذي تشرق فيه الشمس على جهة ما من الأرض تكون قد غربت في نفس اللحظة عن جهة أخرى.
ولما كانت الأرض منبعجة قليلًا عند خط الاستواء كانت هناك قمَّة عُظمى للشروق وأخرى للغروب {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (المزمل: 9)، ولما كانت الشمس تُشرق على الأرض في الفصول المختلفة من نقاط المختلفة، كما تغرب عنها من نقاط مختلفة، وذلك يُسبب ميل محور دوران الأرض بزاوية مقدارها 23.5 درجة على مستوى فلك دورانها حول الشمس؛ كانت هناك مشارق
عديدة ومغارب عديدة {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} ، وكانت هناك نهايتان عظميان لكل من الشروق والغروب تتبادلان، فيصبح المشرق مغربًا، ثم يصبح المغرب مشرقًا، قال تعالى:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} وينتشر بين هاتين النهاتين العظميين نقاط متعددة لكل من الشروق والغروب على كلٍّ من خطوط الطول وخطوط العرض، وعلى مدار السنة؛ لأن دوران الأرض حول محورها أمام الشمس يجعل النور المنبثق عن ضوء هذا النجم ينتقل على سطح الأرض الكروي باستمرار من خطِّ عرض إلى آخر، ومن خط طول إلى آخر محدثًا عددًا غير نهائي من المشارق والمغارب المتعاقبة في كل يوم، كما يقول {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} .
ووجود كلٍّ من جهتي المشرق والمغرب والنهايات العظمى لكل منهما وتبادلهما، فيصبح المشرق مغربًا، والمغرب مشرقًا، وما بينهما من مشارق ومغارب عديدة، وتتابع تلك المشارق والمغارب على سطح الأرض يؤكد كلًّا من كروية الأرض، ودورانها حول محورها أمام الشمس، وميل محور دورانها على مستوى فلك دورانها، وكل ما ينتج عن ذلك من تعاقب الليل والنهار، وتبادل الفصول المناخية، واختلاف مطالع الشمس ومغاربها على مدار السنة، وكل ذلك من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت تنزُّل القرآن الكريم، ولا لقرون متطاولة من بعده إلا بصورة بدائية، ولنفر محدودين جدًّا من أبناء الحضارات السابقة التي لم تصل كتاباتهم إلى شبه الجزيرة العربية، إلا بعد حركة الترجمة التي بدأت في منتصف القرن الهجري الثاني؛ أي: منتصف القرن الثامن الميلادي في عهد الدولة العباسية.
وورود مثل هذه الحقائق الكونية في ثنايا الآيات القرآنية الكريمة بهذه الإشارات اللطيفة، والدقيقة في نفس الوقت لمِّمَّا يؤكِّد أن القرآن الكريم هو كلام الله
الخالق، وأن النبي الخاتم، والرسول الخاتم الذي تلقَّاه كان موصولًا بالوحي ومُعَلَّمًا من قبل خالق السماوات والأرض، وهذه من الحقائق الاعتقادية التي يحتاجها إنسان اليوم التي توفِّر له من أسباب التقدم العلمي والتقني مما لم يتوفَّر لجيل من البشر من قبل، ولكنه في ظل هذا التقدم فَقَدَ الصلة بخالقه، ففقد الكثير من القيم الأخلاقية النبيلة، والضوابط السلوكية الصحيحة التي تدعوا إلى الارتقاء بالإنسان إلى مراتب التكريم التي رفعه إليها رب العالمين، وتعينه على إقامة عدل الله في الأرض بدلًا من المظالم العديدة التي تجتاحها في كثير من أجزائها اليوم، وبدلًا من الخراب والدمار الذي يصيبها، والدماء التي تغرقها في ظل غَلَبة أهل الباطل على أهل الحق، وفقدان هؤلاء الكفار والمشركين لأدنى علم بالدين الذي يرتضيه رب العالمين من عباده.
ولعل في الإشارة إلى مثل هذا السبق القرآني بالعديد من حقائق الكون ومظاهره ما يمكنه أن يمهِّد الطريق إلى الدعوة لهذا الدين، وإلى تصحيح فهم الآخرين لحقيقته من أجل تحديد هذا الكم الهائل من الكراهية للإسلام والمسلمين، والتي غرسها، ولا يزال يغرسها شياطين الإنس والجن في قلوب الأبرياء والمساكين من بني البشر، فبدءوا بالصراخ بصراع الحضارات وبنهاية العالم، وبضرورة إشعال حرب عالمية ثالثة بين الغرب والإسلام، والغرب في قمة من التوحُّد على الباطل، والتقدم العلمي والتقني، والتفوق الاقتصادي والعسكري مع غيبة كاملة للدين، وانحصار للأخلاق الكريمة والقيم النبيلة، وغيبة كاملة لخشية الله، وللإيمان بوحي السماء، وبالبعث والحساب، ولمعنى الأخوة الإنسانية.
والعالم الإسلامي اليوم يمر بأكثر فترات تاريخه فرقة وتمزقًا وانحصارًا ماديًّا وعلميًّا وتقنيًّا، وتخلفًا عسكريًّا، والمعركة التي يتوهمونها تُدعى معركة أرمجدون، وهي معركة وهمية جاء ذكرها في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، وهو رجل مجهول الهوية