الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(شرح قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ})
عرض موجز لسورة الطور التي ذكرت فيها الآية
الحمد لله، والصلاة والسلام عل ى سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
سنشرح قول الله تعالي: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور: 6).
هذا القسم بالبحر المسجور ضمن قسم لخمس من آيات الله في الخلق على حتمية وقوع العذاب بالمكذبين بالدين الخاتم، وعل ى أنه لا دافع أبدا لهذا العذاب عنهم، جاء هذا القسم القرآني العجيب في مطلع سورة الطور، وسورة الطور مكية وعدد آياتها 49 آية، ويدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة بأبعادها المختلفة من الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وبملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء، وبالخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا؛ شأنها في ذلك شأن كل السور التي أنزلت بمكة المكرمة.
وتبدأ السورة بعد هذا القسم بمشهد من مشاهد الآخرة فيه استعراض لحال المكذبين برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين -صل ى الله عليه وسلم- وهم يدفعون من ظهورهم إ لى نار جهنم دفعا، وقد كانوا من المكذبين بها، ثم تنتقل الآيات إ لى استعراض حال المتقين وهم يتنعمون في جنات النعيم ثوابا لهم على الإيمان بالله وتقواه.
وتنتهي السورة بخطاب إلى النبي الخاتم والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم يحثه على المضي في دعوته إلى عبادة الله الخالق وحده بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صا حبة ولا ولد، مهما ل اقاه في ذلك من مصاعب في مواجهة الكم الهائل من مؤامرات المتآمرين وكيد المكذبين وعنتهم، الذين يتهددهم الله تعالى بما سوف يلقونه من صنوف العذ اب يوم القيامة بل وبعذاب قبل ذلك في الحياة الدنيا.
ويأتي مسك الختام بمواساة وتعضيد لرسول الله - صل ى الله عليه وسلم - في صورة تكريم لم يسبق لنبي من الأنبياء ولا لرسول من الرسل أن نال من الله تكريما مثله، وذلك بقول
الحق - سبحانه - موجها الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم يقول تعالي: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (الطور: 48، 49).
والآيات الست التي سبق بها القسم في مطلع سورة الطور هي على التوالي، {وَالطُّورِ} (الطور: 1)؛ وهو الجبل المكسو بالأشجار، والجبل غير المكسو بالخضرة لا يقال له طور، وإنما يقال له: جبل إذا كان شاهق الارتفاع بالنسبة للتضاريس حوله، ويسمى تل ًّ اإذا كان دون ذلك، وتليه الأَكْ ن ة أو الربوة أو النتوء الأرضي، ويلي هـ النجد أو الهضبة، ويلي ذلك السهل من تضاريس الأرض.
والمقصود بالقسم القرآني بالطور هنا هو على الرأي الأرجح طور سيناء الذي كلم الله تعالى عنده موسى عليه السلام والذي نزلت عليه الألواح، وأقسم الله بطور سيناء هذا؛ تكريم ً اله، وتذكيرا للناس بما فيه من الآيات والأنوار والتجليات والفيوضات الإلهية مما جعله بقعة مشرفة من بقاع الأرض لاختيار الله تعالى له وتجليه عليه.
والآية الثانية التي جاء بها القسم؛ هي قول الله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 2) وقيل فيه: إ نه اللوح المحفوظ، وقيل: إنه القرآن الكريم الذي ختم الله - سبحانه - به وحي السماء، وقيل: هو التوراة التي تلقاها نبي الله موسي عليه السلام في الألواح التي أنزلت على جبل الطور، وقيل: هو إشارة إلى جميع الكتب التي أنزلها ربنا - سبحانه - على فترة من الرسل بلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، كما أخبرنا المصطفى عليه السلام؛ لأن أصلها واحد ورسالتها واحدة.
كذلك قيل في قول ربنا تبارك وتعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 2) إنه صحائف أعمال العباد.
والقَسم الثالث جاء بالصيغة {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} (الطور: 3)، والرق هو جلد رقيق يكتب فيه، وقد يشير إلى الورق الذي يكتب عليه وإلى الألواح التي ينقش فيه؛
لأن الرق هو كل ما يكتب فيه، والمنشور؛ أي المبسوط غير المطوي وغير المختوم عليه؛ بمعنى أنه مفتوح أمام الجميع يستطيعون قراءته، أو الاستماع إليه بغير حجر أو منع؛ مما يؤكد أن المقصود بقول ربنا تبارك وتعالى:{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 2) هو القرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم يقر ؤ هـ الخلق جميع هم، ويستمعون إليه بغير قيود أو حدود من أي نوع.
وهكذا كانت الكتب السماوية التي سبقته بالنزول قبل ضياعها، وتعرض ما بقي منها من ذكريات إلى التحريف والتبديل والتغيير، وفي النشر إشارة إلى سلامة القرآن الكريم من كل نقص وعيب.
وجاء القسم الرابع بصياغة {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (الطور: 4) وهو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة؛ أي في مقابلتها إلى أعل ى وعل ى استقامتها تماما، وهو أيضا حيال العرش إلى أسفل منه وعلى استقامته، تعمره الملائكة يصلي فيه كل يوم سبعون ألفًا منهم، ثم لا يعودون إليه؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض.
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لأصحابه: ((هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم)).
ويروى عنه وصفا مشابها للبيت المعمور في حديث الإسراء والمعراج، كما جاء في الصحيحين في حديث أخرجه البخاري الحديث رقم3207 والحديث 3886 ومسلم في الحديث 415
وجاء القسم الخامس بصياغة {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} (الطور: 5) وفيه قيل: هو السماء القائمة بغير عمد مرئية؛ كما جاء على لسان الإمام علي رضي الله عنه ووافقه
على ذلك كثير من المفسرين، وإن قال الربيع بن أنس:" إنه العرش الذي هو سقف لجميع المخلوقات".
أما القسم السادس وهو موضوع درسنا، والذي جاء بصياغة {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور: 6) فقد تعددت آراء المفسرين فيه، وقبل أن نتعرض لآراء المفسرين يحسن أن نستعرض الدلالة اللغوية للفظي البحر، والمسجور؛ المدلول اللغوي للبحر المسجور؛ البحر في اللغة ضد البر، وقيل: إنه سمي بهذا الاسم لعمقه واتساعه، والجمع أبحر وبحار وبحور، وكل نهر عظيم يسمى بحرًا؛ لأن أصل البحر هو كل مكان واسع جامع للماء الكثير، وإن كانت لفظة البحر تطلق في الأصل على الماء المالح دون العذب.
كذلك سمت العرب كل متوسع في شيء بحرا حتى قالوا للمتوسِع في علمه: بحرًا، وللتوسع في العلم: تبحر، وقالوا: فرس بحر؛ أي واسع الخطا سريع الجري، وقيل: ماء بحر؛ أي مالح، وأبحر الماء؛ أي ملح، وأبحر الرجل؛ أي ركب البحر، وبحر أذن الناقة؛ أي شقها شقا واسعا فشبهها بسعة البحر على وجه المجاز والمبالغة، ومن هنا سميت البحيرة وهي الناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها، وتطلق فلا تركب ولا يحمل عليها، والبحيرة ابنة السائبة، وحكمها حكم أمها عند العرب في الجاهلية.
أما وصف البحر بصفة المسجور؛ فالصفة مستمدة من الفعل سجر، والسجر تهييج النار، يقال: سجر التنور؛ أي أوقَد عليه حتى أحماه، والسجور ماء يسجر به التنور من أنواع الوقود، وكذلك يقال: سجر الماء النهر؛ أي ملأه، ومنه البحر المسجور؛ أي المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة، والساجور خشبة تجعل في عنق الكلب فيقال له: كلب مُسَوْجَر؛ أي محكوم، والمسوجر المغلق المحكم الإغلاق من كل شيء.