الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(تابع: شرح قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} - قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا
…
})
تتمة الحديث عن شرح المفسرين لقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وص حبه ومن والاه، أما بعد:
سنواصل الحديث عن قول الله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (الطور: 6):
بينا أن البحر المسجور بمعنى المملوء بالماء والمكفوف عن اليابسة، هذا هو إحدى التفسيرات لكلمة {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} .
ثاني ً ا: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} بمعنى القائم على قاع أحمته الصهارة الصخرية المندفعة من داخل الأرض؛ فجعلته شديد الحرارة، في العقود المتأخرة من القرن العشرين تم اكتشاف حقيقة تمزق الغلاف الصخري للأرض بشبكة هائلة من الصدوع العملاقة المزدوجة، والتي ت كون فيما بينها ما يعرف باسم أودية الخسف أو الأغوار، وأ ن هذه الأغوار العميقة تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة، ويشبهها العلماء باللحام على كرة التنس مع فارق التشبيه، وتمتد هذه الأغوار في كافة الاتجاهات لعشرات الآلاف من الكيلو مترات، ولكنها تنتشر أكثر ما تنتشر في قيعان محيطات الأرض، وفي قيعان عدد من بحارها، ويتراوح عمق الصدوع المشكِّلة لتلك الأغوار بين 65 و75 كيلو متر ً اتحت قيعان البحار والمحيطات وبين 100 و150 كيلو متر ً اعلى اليابسة؛ أي في صخور القارات.
وتعمل هذه الصدوع على تمزيق الغلاف الصخري للأرض بالكامل وتقطيعه إلى عدد من الألواح الصخرية التي تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة، يسميه العلماء باسم نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق لدن عالي الكثافة واللزوجة تتحرك بداخله تيارات الحم ل من أسف ل إلى أعلى حيث تتبرد وتعاود النزول إلى أسفل، وهي بتلك الحركة الدائبة تدفع بكل لوح من ألواح الغلاف
الصخري للأرض إلى التباعد عن اللوح المجاور في أحد جوانبه في ظاهرة تسمى ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات، ومصطدم ً افي الجانب المقابل باللوح الصخري المجاور ل ليكون سلسلة من السلاسل الجبلية، ومنزلق ً اعن الألواح المجاورة في الجانبين الآخرين، وباستمرار تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض تتسع قيعان البحار والمحيطات باستمرار عند خطوط التباعد بينها، وتندفع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية؛ لتساعد على دفع جانبي المحيط يمنة ويسرة، وتملأ المسافات الناتجة عن عملية توسيع قيعان البحار والمحيطات بهذه الملايين من أطنان الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الأرض على هيئة ثورات بركانية عارمة تحت الماء تسجر قيعان جميع محيطات الأرض، وقيعان أعداد من بحارها مثل البحر الأحمر، وتجدد مادتها الصخرية باستمرار.
وقد أدى هذا النشاط البركاني فوق قيعان كل المحيطات، وفوق قيعان عدد من البحار النشطة إلى تكون سلاسل من الحيود المرتفعة في أواسط تلك المحيطات والبحار تتكون في غالبيتها من الصخور البركانية، وقد ترتفع قممها في بعض الأماكن على هيئة أعداد من الجزر البركانية؛ من مثل: جزر كل من إندونيسيا ماليزيا الفلبين اليابان هاواي وغيرها، وفي المقابل تصطدم ألواح الغلاف الصخري عند حدودها المقابلة لمناطق اتساع قيعان البحار والمحيطات، ويؤدي هذا التصادم إلى اندفاع قيعان المحيطات تحت كتل القارات وانصهارها بالتدريج مما يؤدي إلى تكون جيوب عميقة عند التقاء قاع المحيط بالكتلة القارية تتجمع فيها كميات هائلة من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة التي تطوى وتتكسر؛ لترتفع على هيئة السلاسل الجبلية على حواف القارات؛ من مثل: سلسلة جبال الإمبيز في غربي أمريكا الجنوبية.
وهنا يستهلك قاع المحيط بالتدريج تحت الكتلة القارية، وإذا توقفت عملية توسع قاع المحيط؛ ف إ ن هذا القاع قد يستهلك بأكمله تحت القارة مما يؤدي إلى تصادم قارتين ببعضهما، وينش أعن هذا التصادم أعلى السلاسل الجبلية؛ من مثل: جبال الهمالايا التي نتجت عن اصطدام الهند بالقارة الآسيوية بعد استهلاك قاع المحيط الذي كان يفصل بينهما بالكامل في أزمنة أرضية سحيقة، ويصاحب كل من عمليتي توسع قاع المحيط في محوره الوسطى واصطدامه عند أطرافه بعدد من الهزات الأرضية والثورات والطفوح البركانية التي تبلغ أشدها عند خطوط التصادم، وتبلغ جبال أواسط المحيطات أكثر من أربعة وستين ألف ً امن الكيلو مترات في الطول، بينما يبلغ طول الصدوع العميقة التي اندفعت منها الطفوح البركانية لتكون تلك السلاسل الجبلية في أواسط المحيطات أضعاف هذا الرقم، وتتكون هذه السلاسل أساس ً امن الصخور البركانية المختلطة بالقليل من الرسوبيات البحرية، وتحيط كل سلسلة من هذه السلاسل المندفعة من قاع المحيط بواد خسيف مكون بفعل الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بعمق يتراوح بين خمسة وستين كيلو متر ً اوسبعين كيلو متر ً اليخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل، ويصل إلى نطاق الضعف الأرضي الذي تندفع منه الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجة حرارة تزيد عن الألف درجة مئوية لتسجر قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها النشطة باستمرار.
ومع تجدد اندفاع الصهارة الصخرية عبر مستويات هذه الصدوع العملاقة يتسع قاع المحيط باستمرار، وتتجدد مادته بدفع الصخور القديمة في اتجاه شاطئ المحيط يمنة ويسرة ليحل محلها أحزمة أحدث عمر ً اتتكون من تجمد تلك الصهارة الجديدة، وتترتب بصورة متوازية على جانب ي أغوار المحيطات والبحار، ويهبط كل جانب من جانبي قاع المحيط المتسع بنصف معدل اتساعه الكلي في وسطه،
وذلك تحت كل قارة من القارتين أو القارات المحيطة بشاطئيه، وب ذلك يمتلئ محور المحيط بالصهارة الصخرية الحديثة المندفعة عبر مستويات الصدوع الممزقة لقاعه فتسجره، بينما تندفع الصخور الأقدم بالتدريج في اتجاه الشاطئين حيث توجد أقدم صخور ذلك القاع، والتي تستهلك باستمرار تحت القارات المحيطة.
وهذه الصدوع العملاقة التي تمزق قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها؛ مثل: البحر الأحمر؛ توجد أيضا على اليابسة، ولكن بنسب أقل منها فوق قيعان البحار والمحيطات، وتعمل على تكوين عدد من الأغوار والبحار الطولية؛ من مثل: أغوار شرقي إ فريقيا والبحر الأحمر التي تعمل على تفتيت الكتل القارية باتساعها التدريجي؛ لتتحول تلك البحار الطويلة إلى بحار أكبر، ثم إلى محيطات تفصل بين الكتل القارية التي كانت متصلة على هيئة قارة واحدة، وتحاط تلك الخسوف القارية العملاقة بعدد من القمم البركانية السا م قة؛ ب ذلك ثبت ل كل من علماء الأرض والبحر بالأدلة المادية الملموسة أن كل محيطات الأرض بما في ذلك المحيطان المتجمدان الشمالي والجنوبي، وأن أعداد ًا من بحارها؛ من مثل: البحر الأحمر قيعانها مسجرة بالصهارة الصخرية المندفعة بملايين الأطنان من داخل النطاق الضعيف في الأرض عبر شبكة الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بالكامل، وتصل إلى نطاق الضعف الأرضي.
وتتركز هذه الشبكة من الصدوع العملاقة أساسًا في قيعان البحار والمحيطات، وأ ن كم المياه في تلك الأحواض العملاقة على ضخامته لا يستطيع أن يطفئ جذوة تلك الطفوح من الصهارة الصخرية المندفعة من داخل الأرض إطفاء كاملًا، وأن
هذه الجذوة على شدة حرارتها أكثر من ألف درجة مئوية لا تستطيع أن تبخر هذا الماء بالكامل؛ وذلك لأنه عندما يتبخر الماء باندفاع الصهارة فيه فإنه يرتفع إلى أعلى ليلامس ماء أبرد فيتك ث ف ويعود إلى قاع البحر مرة أخرى؛ ليعاود الكرة من جديد، وهكذا ليبقى هذا الاتزان الدقيق بين الأضداد من الماء والحرارة العالية هو من أكثر ظواهر الأرض إبهارا للعلماء في زماننا، وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من اكتشافها إلا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين.
ومن الغريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النبي الأمي الذي لم يركب البحر في حياته الشريفة مرة واحدة، فضل ً اعن الغوص إلى أعماق البحار قال في حديث شريف أخرجه كل من الأئمة أبو داود في (سننه) والبيهقي في (سننه) وابن شيبة في (مصنفه) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ما نصه:((لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله؛ فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا)) وجاء الحديث في (مصنف ابن شيبة) بالنص: ((إن تحت البحر نارا ثم ماء ثم نارا)).
ويعجب الإنسان المتبصر لهذا السبق في كل من القران الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الأرض التي لم يتوصل الإنسان إلى إدراكها إلا في نهايات القرن العشرين، هذا السبق الذي لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدر ً اغير الله الخالق الذي أنزل هذا القرآن الكريم بعلمه على خاتم أنبيا ئ هـ ورسله، وعلم هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم من حقائق هذا الكون ما لم يكن لأحد من الخلق إلمام به قبل العقود الثلاثة المتأخرة من القرن العشرين؛ لكي تبقى هذه الومضات النورانية في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شهادات مادية ملموسة
على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي حفظه تعالى على مدى أربعة عشر قرن ً اأو يزيد، وتعهد بذلك إلى قيام الساعة وحفظه بنفس لغة الوحي اللغة العربية كلمة كلمة وحرف ً احرف ً ابصفائه الرباني وإشراقاته النورانية دون أدنى تغيير أو تبديل أو تحريف.
وأ ن هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- كان موصول ً ابالوحي، ومعلَّم ً امن ق بل خالق السموات والأرض، ف سبحان الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين هذا القسم القرآني بالبحر المسجور، وسبحان الذي علم خاتم أنبيا ئ هـ ورسله بهذه الحقيقة فقال قولته الصادقة:((إن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا)) وسبحان الذي أكد على صدق القرآن الكريم وعلى صدق هذا النبي الخاتم في كل ما رواه عن ربه، فأنزل في محكم كتابه قوله الحق:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 166)، وقوله - سبحانه - مخاطب ً اخاتم أنبيا ئ هـ ورسله:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان: 6)، وقوله - سبحانه -:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93)، وقوله تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ: 6)، وقوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 104)، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88)، وقوله - سبحانه -:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41، 42)، وقوله - سبحانه -:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53).