الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} (النمل: 93)، وانظر كيف استقر المعنى بعد أن كان قلقًا، قال تعالى:{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67)، وقال تعالى:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88)، فمن أخبر النبي الأمي في الأمة الأمية في البيئة الصحراوية، حيث لا وجود لنهر ولا لمصبِّه عن هذه الأسرار الدقيقة، عن الكتل المائية المختلفة التركيب {عَذْبٌ فُرَاتٌ} {مِلْحٌ أُجَاجٌ} {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، والحجر المكان المحجور لكائنات حية تعيش في هذه البيئات المائية الثلاث، وكم استغرق الإنسان من الزمن، وكم استخدم من الآلات الدقيقة والأجهزة الحديثة حتى تمكن من الوصول غلى هذه الحقائق، التي جَرَت على لسان النبي الأمي قبل ألف وأربعمائة عام بأوجز تعبير وأوضح بيان، من أين جاء هذا العلم لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، إن لم يكن من عند الله الذي {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق: 12)
وصف الحاجز بين البحرين
قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 19 - 22)، وقال تعالى:{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} (النمل: 61).
- المعاني اللغوية وأقوال المفسرين:
قال ابن فارس: "الباء والحاء والراء هو البحر، قال الخليل: سُمي البحر بحرًا لاستبحاره، وهو انبساطه وسعته، ويقال: للماء إذا غلظ بعد عذوبة استبحر، وماء بحري؛ أي: ملح". وقال الأصفهاني: "وقال بعضهم: البحر يقال في
الأصل لماء الملح دون العذب". قال ابن منظور: "وقد غلب على الملح حتى قلَّ في العذب، فإذا أُطلق البحر دلَّ على البحر المالح، وإذا قُيِّد دلَّ على ما قيد به"، والقرآن الكريم يستعمل لفظ الأنهار؛ للدلالة على المياه العذبة، ويُطلق البحر ليدل على البحر الملح، قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (إبراهيم: 32)، وكذلك إذا أُطلق البحر في الحديث، ((إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء)) يقصد بذلك البحر الملح.
- معنى كلمة البرزخ:
البرزخ هو الحاجز، وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه لا يُرى:
بعد ذلك نأتي إلى قوله: {لَا يَبْغِيَانِ} البغي قال ابن منظور: وأصل البغي مجاوزة الحد، وبمثله قال الجوهري والأصفهاني، {الْمَرْجَانُ} ، قال ابن الجوزي: وحكى القاضي أبو يعلى أن {الْمَرْجَانُ} ضرب من اللؤلؤ كالقضبان، وروي عن الزجاج قوله:{الْمَرْجَانُ} أبيض شديد البياض، وقال ابن مسعود:{الْمَرْجَانُ} الخرز الأحمر، وقال أبو حيان: وقال أبو عبد الله وأبو مالك: {الْمَرْجَانُ} الحجر الأحمر، وقال الزجاج: حجر شديد البياض، وحكى القاضي أبو يعلى أنه ضرب من اللؤلؤ كالقضبان، وقال القرطبي: وقيل {الْمَرْجَانُ} عظام اللؤلؤ وكباره، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما، واللؤلؤ صغاره، وعنهما أيضًا بالعكس أن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ، و {الْمَرْجَانُ} صغاره؛ قاله الضحاك وقتادة، وقال الألوسي:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ} صغار الدر و {الْمَرْجَانُ} كباره، وقد رووا ذلك عن علي ومجاهد وابن عباس، ورُوي أيضًا عن ابن عباس ومجاهد وقتادة العكس، وأظنّ أنه إن اعتبر في اللؤلؤ
معنى التلألؤ واللمعان، وفي {الْمَرْجَانُ} معنى المرج والاختلاط، فالأوفق لذلك ما قيل ثانيًا فيهما، ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: المرجان الخرز الأحم ر.
وحاصل ما سبق أن {الْمَرْجَانُ} نوع من الزينة يكون بألوان مختلفة؛ بيضاء وحمراء وكبيرًا وصغيرًا، وهو حجر يكون كالقضبان قد يكون صغيرًا كاللؤلؤ؛ أي: الخرز، وهو في الآية غير اللؤلؤ، وحرف العطف بينهما يقتضي المغايرة، والمرجان لا يوجد إلا في البحار المالحة.
وهيا إلى النص القرآني لنرى دقائق الأسرار التي كشفت عنها اليوم علم البحار، قال تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} تصف الآيات اللقاء بين البحار المالحة، ودليل ذلك:
أ- لقد أطلقت الآية {الْبَحْرَيْنِ} ، فدلَّ ذلك على أن {الْبَحْرَيْنِ} ملحان.
ب- بيَّنت الآية الأخيرة أن {الْبَحْرَيْنِ} {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، وقد تبيَّن أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين ملحين.
ج- عندما ذكرت منطقة اللقاء بين البحر والنهر في سورة الفرقان، بيَّنت الآية أن بينهما شيئين:
1 -
البرزخ، 2 - الحجر المحجور، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، أما في هذه الآيات من سورة الرحمن فقد بيَّنت أن الفاصل هو البرزخ؛ فدل ذلك على أن اللقاء هنا بين بحرين لا عذب
وملح، بسبب اختلاف ما يحدث عند اللقاء في الحالتين، فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها، رغم اتحادها في الأوصاف التي تدركها الأبصار والحواس، ملحة، زرقاء، ذات أمواج، وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها، والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست؛ فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر، وأمواج، وتيارات، وأعاصير.
والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين، يختلف كل منهما عن الآخر؛ إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر؛ لكان بحرًا واحدًا، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلاف بينهما مع كونهما ملحين.
و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} ؛ أي: أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب، واختلاط، واضطراب، وهذا ما كشفه العلم من مدٍّ وجزر في البحار يجعلها مضطربة بأكملها في مناطق الالتقاء، لكن البحار المختلطة تختلط مع بعضها ببطء شديد.
ومن يسمع هذه الآية فقط يتصور أن امتزاجًا واختلاطًا كبيرًا يحدث بين هذه البحار، يفقدها خصائصها المميزة بها، ولكن العليم الخبير يقرِّر في الآية بعدها {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} ، ومع حالة الاختلاط والاطراد هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزًا يحجز بينهما، يمنع كلًّا منهما أن يطغى ويتجاوز حدَّه، وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدَّم في علومه وأجهزته، فقد وُجد ماءٌ ثالث يختلف في خصائصه عن خصائص كلٍّ من البحرين، ويفصل كل من البحرين الملحين المتمايزين في خصائصهما من حيث الملوحة والحرارة، والكثافة، والأحياء المائية، وقابلية ذوبان الأكسجين، ووُجد أن هذا الحاجز المائي متحرك بين البحرين على اختلاف فصول السنة، وهذا المعنى يندرج أيضًا تحت قوله تعالى:{مَرَجَ} الذي يعني أيضًا الذهاب، والإياب، والاختلاط، والاضطراب.
ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر؛ لأن البرزخ منطقة قد تتقلَّب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر، لتكتسب المياه المتنقلة من بحر إلى بحر آخر، صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاء منه، وبهذا يمتنع طغيان بحر بخصائصه على البحر الآخر، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} .
ثم انظر كيف جاء الوصف القرآني في آية سورة الفرقان، مبينًا خصائص اللقاء بين البحر العذب والبحر المالح، وجاء الوصف الدقيق أيضًا في آيات سورة الرحمن، مبينًا خصائص اللقاء بين البحرين الملحين، فظهر في عصرنا اليوم سرُّ تلك الفوارق الدقيقة بين الوصفين.
وهذا ما بيَّنه الدارسون فيما يُسمى بمصبَّات الأنهار، التي تحاط ببرزخ مائي، يفصلهما عن البحر والنهر، وتعتبر منطقة حجر للكائنات الحية الخاصة بها، ومنطقة محجورة عن الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر.
وبينت الآية الكريمة أن البحرين المذكورين فيها {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} والمرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، ولذلك لا توجد بين البحرين الملحين، منطقة حجرًا محجورًا على الكائنات الحية؛ لأن الاختلاف في درجة الملوحة ليس شديدًا ليكون مانعًا لانتقال الكثير من الأحياء البحرية من بيئة إلى بيئة أخرى.
ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين، هو حاجز من قدرة الله لا يُرى، كما قال ابن الجوزي وغيره، وذلك بوضع عجز أكابر العلماء عن أن يُحيطوا بتفاصيل ودقائق ما ذكره القرآن، وصدق الله القائل:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255).
وعندما شاء المولى أن يُرِيَ الإنسان تفاصيل هذه الآية، كشف لهم قدرًا من العلوم ازدادوا به علمًا في هذا المجال، ومع كل كشف يتضح للإنسان حدود علمه، ولله درُّ المفسرين الذين يقولون بعد كل تفسير: والله أعلم.
وقد أُشكل على المفسرين التوفيق بين وجود برزخ حاجز من طغيان بحر على آخر، وبين وجود حالة اختلاط بين البحرين، وهو ما يدل عليه لفظ {مَرَجَ} ، لأن من قرر أن البحرين مختلطان، فقد أهمل دور البرزخ ووظيفته في منع البغي بين البحرين، ومن قرر وجود الحاجز المانع، اضطر إلى تأويل لفظ {مَرَجَ} إلى معنى غير معناه الأصلي، الدال على الاختلاط.
- التحقيق العلمي:
لقد توصَّل علماء البحار من بعد تقدم العلوم في هذا العصر، إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين كما يلي:
هناك برزخ بين البحرين يتحرك بينهما، يسميه علماء البحار الجبهة، تشبيهًا له بالجبهة التي تفصل بين الجبهتين، وبهذا يُحافظ كل بحر على خصائصه التي قدَّرها الله له، ويكون مناسبًا لما فيه من كائنات حية، تعيش في تلك البيئة، وهناك اختلاط بين البحرين رغم وجود هذا البرزخ، لكنه اختلاط بطيء يجعل القدر الذي يُعبر من بحر إلى بحر آخر، يتحول إلى خصائص البحر الذي يُنتقل إليه، دون أن يؤثر على تلك الخصائص.
اكتشف علماء البحار سرَّ اختلاف تركيب البحار الملحة، على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشال تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار، تختلف في تركيبها عن بعضها، من حيث درجة الملوحة ودرجة الحرارة،
ومقادير الكثافة وأنواع الأحياء المائية، ولقد كانت هذه الأسرار ثمرة رحلة علمية، استمرت ثلاثة أعوام، وهي تجوب في جميع بحار العالم.
وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرَّر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يفصل مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر، التي تحرك مياه البحر مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب إلى جوانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام، ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام 1361 هجرية 1942 ميلادية، فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن وجود خواص مائية تفصل بين البحار الملتقية، وتُحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة والأحياء المائية والحرارة، وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، ويكون الاختلاط بين ماء البحار عبر هذه الحواجز بطريقة بطيئة، يتحوَّل معها الماء الذي يعبُر الحاجز، إلى خصائص البحر الذي دخل فيه.
وهكذا يحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحددة، لوجود تلك الحواجز المائية بين البحرين.
وأخيرًا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار العلمية عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.