الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي والعشرون
(شرح قو ل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
…
})
المعاني اللغوية وأقوال المفسرين حول الآية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
سنتعرض لأسرار المصب والحاجز بين النهر والبحر في القرآن الكريم؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} (الفرقان: 53).
المعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية. .
{مَرَجَ} يأتي بمعنيين بارزين، الأول: الخلط: قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} (ق: 5)، وجاء في (لسان العرب) {أَمْرٍ مَرِيجٍ}؛ أي: مختلط، وقال الأصفهاني في (المفردات):"أصل المرج الخلط"، وقال الزبيدي:"ومرج الله البحرين العذب والمالح، خلطهما حتى انتقيا"، وقال الزجاج:" {مَرَجَ} خلط؛ يعني: البحر المالح، والبحر العذب". وقال ابن جرير الطبري: "والله الذي خلط البحرين فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه، وأصل المرج الخلط، ومنه قول الله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}؛ أي: مختلط". وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ؛ يعني: خلع أحدهما على الآخر. وعن مجاهد: أفاض أحدهما على الآخر. وعن الضحاك بمثل قول ابن عباس، وذهب إلى هذا المعنى جمهور من المفسرين، منهم القرطبي، أبو حيان الألوسي، الخازن، الرازي، الشوكاني، الشنقيطي.
المعنى الثاني: مجيء وذهاب واضطراب، قال ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة): "الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب، وقال: مرج الخاتم في الأصبع يعني: قلق، وقياس الباب كله، ومنه حديث
((ومرجتْ أمانات القوم وعهودهم)) اضطربت واختلطت"، وجاء نفس المعنى في (الصحاح) للجوهري، و (لسان العرب)، وبذلك قال الزبيدي والأصفهاني.
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} نتكلم عن البحر العذب والملح الأجاج.
البحر العذب هو النهر، وصفه القرآن الكريم بوصفين {عَذْبٌ} و {فُرَاتٌ} ، ومعناهما أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف {فُرَاتٌ} ، وبهذا الوصف خرج ماء المصبّ، الذي يُمكن أن يقال: إن فيه عذوبة، ولكنه لا يُمكن أن يوصف بأنه فرات. وما كان من الماء ملحًا أجاجًا فهو ماء البحار، ووصفه القرآن الكريم بوصفين {مِلْحٌ} و {أُجَاجٌ} ، {أُجَاجٌ} شديد الملوحة، وبهذا خرج ماء المصب؛ لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة، فلا ينطبق عليه وصف {مِلْحٌ أُجَاجٌ} .
وبهذه الأوصاف الأربعة تحدَّدت حدود الكتل المائية الثلاث:
1 -
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} ماء النهر.
2 -
{هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ماء البحر.
3 -
{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، البرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصبّ.
- نأتي إلى الحجر المحجور:
الحِجر والحَجر هو المنع والتضييق، يُسمى العقل حجرًا؛ لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي، قال تعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر: 5)، والسفيه يحجُر عليه القاضي من التصرف في ماله، فهو في ح ِ جر؛ أي: في ح َ جر والكسر أفصح،
وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي ((لقد تحجَّرت واسعًا))، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، قال ابن مندور ((لقد تحجَّرت واسعًا))؛ أي: ضيقت ما وسَّعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك، ونستطيع أن نفهم الحجر هنا، بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر، تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر، ووصفت هذه المنطقة بأنها محجورة؛ أي: ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلًّا عن الأول؛ أي: أنها أيضًا منقطعة ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها، فهي حجر حبس على الكائنات التي فيها، محجورة على الكائنات الحية بخارجها.
ويكون المعنى عندئذٍ: وجعل بين البحر والنهر برزخًا مائيًّا، هو الحاجز المائي المحيط بماء المصبِّ، وجعل الماء بين النهر والبحر حبسًا على كائناته الحية، ممنوعة عن الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر.
ولم يتيسَّر للمفسرين الإحاطة بتفاصيل الأسرار التي ألمحت إليها الآية؛ لأنها كانت غائبة عن مشاهدتهم، وتعدَّدت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية، فقال بعضهم في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ؛ أي: خلطهما فهما يلتقيان، ويستند هذا القول إلى المعنى اللغوي للفظ {مَرَجَ} ، وقررت طائفة أخرى من المفسرين أن معنى {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: هو الذي أرسلهما في مجاريهما فلا يختلطان.
قال ابن الجوزي: "قال المفسرون: والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما، فلا يلتقيان، ولا يختلط الملح بالعذب، ولا العذب بالملح". وقال أبو السعود: " {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}؛ أي: خلاهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان، من مرج دابته؛ أي: أخلاها". وبمثله قال البيضاوي والشنقيطي في أحد قوليه،
وطنطاوي جوهري في تفسير الجواهر. والذين قرروا هذا المعنى، نظروا إلى قوله تعالى:{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، وتقرير اختلاط الماءين، يبدو متعارضًا مع وجود البرزخ، والحجر المحجور، ولذلك رجَّح بعض المفسرين معنى الخلط، ورجح الآخرون معنى المنع، وكذلك الحال في تفسير البرزخ، فقد قرَّر بعض المفسرين أن {بَرْزَخًا} يعني: حاجزًا من الأرض، وبمثله قال أبو حيان، والرازي، والألوسي، والشنقيطي.
ولقد ردَّ ابن جرير الطبري هذا القول فقال: " لأن الله -تعالى ذكره- أخبر في أول الآية أنه {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} والمرج هو الخلط في كلام العرب، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين والملح الأجاج أرضًا أو يبسًا؛ لم يكن هناك مرج للبحرين. وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما، وبيَّن البرزخ، فقال: "{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} حاجزًا لا يراه أحد".
وقال ابن الجوزي عن هذا البرزخ: "مانع من قدرة الله لا يراه أحد"، وقال الزمخشري: "حائلًا من قدرته، كقوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (لقمان: 10)، وبمثلهم قال الأكثرون منهم القرطبي والبقاعي.
فتأمَّل كيف عجز علم البشر عن إدراك تفاصيل ما قرَّره القرآن الكريم، فمن المفسرين من ذكر أن البرزخ أرضًا أو يبسًا حاجزًا من الأرض، ومنهم من أعلن عجزه عن تحديده وتفصيله، فقال: هو حاجز لا يراه أحد، وهذا يُبيِّن لنا أن العلم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم ما هو فوق إدراك العقل البشري في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد عصره بقرون، وكذلك الأمر في الحجر المحجور، فقد ذهب بعض المفسرين إلى حملها على المجاز، وذلك بسبب نقص العلم البشري طوال القرون الماضية؛ قال الزمخشري: "فإن قلت {حِجْرًا مَحْجُورًا} ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي