الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث
(تابع: أهم الكتب الت ي عُنيت بالتفسير العلمي - المعارضون للتفسير العلمي)
نماذج من تفسير الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر)
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فقد تعرضنا إلى كتاب "الجواهر" للشيخ طنطاوي الجوهري، وبينا طريقة المؤلف في هذا التفسير.
سنعرض نماذج من بعض ما جاء في هذا التفسير، فمثلًا عندما تعرض لقوله تعالى في سورة البقرة:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61). نجده يقول الفوائد الطيبة في هذه الآية، ثم يأخذ في بيانِ ما أثبته الطبُّ الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا في الطب، ثم يقول:"أو ليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن، أوليس قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} رمزًا لذلك، كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى، وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما مع الهواء النقي، والحياة الحرة أفضل من حياةٍ شقيةٍ في المدن بأكل التوابل واللحم، والإكثار من ألوان الطعام مع الذلة، وجور الحكام والجبن وطمع الجيران من الممالك فتختطفكم في حين غفلة، وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا ت تُفسر هذه الآيات بمثل هذا فيلفهم المسلمون كتاب الله".
وعندما تعرض لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة} (البقرة: 67) الآيات إلى آخر القصة. نجده يعقد بحثًا في عجائب القرآن وغرائبه فيذكرُ ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب، ويذكر فيما يذكر علم تحضير الأرواح فيقول: "وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجًا،
إن هذه الآية تُتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر عِلْمُ الأرواح بأمريكا أولًا، ثم بسائر أوروبا ثانيًا"، ثم ذكر نبذةً طويلةً عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم، ثم قال أخيرًا: "ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياةٌ للعُزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم؛ فرارًا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم. وعلم اللهُ أننا نعجز عن ذلك جعل قبل ذِكْر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتُم ما جاء عن بني إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها فلا تيأسوا من ذلك؛ فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن ليكن المُحَضِّر ذا قلب نقي خالص على قَدم الأنبياء والمرسلين، كالعزير، وإبراهيم، وموسى، فهؤلاء لعلو نفوسهم رأوا بالمعاينة، وأراهم الله ذلك بالمعاينة. وأنا -أي والله يقول- أمرت نبيكم أن يقتدي بهم فقلت:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} (الأنعام: 90) ".
ومثلًا عندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران {الم} نجده يعقد بحثًا طويلًا عنوانه: الأسرار الكيميائية في الحروف الهجائية للأمم الإسلامية في أوائل السور القرآنية وفيه يقول: "انظر رعاك الله تأمل، يقول الله:{الم} ، و {طسم} ، و {حم} وهكذا يقول لنا: أيها الناس إن الحروف الهجائية إليها تُحلل الكلمات اللغوية، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللغة العربية، أم اللغات الأعجمية شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة، وفهمها إلا بتحليلها. وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون. ولا جرم أن العلوم قسمان: لغوية، وغير لغوية، فالعلوم
اللغوية مقدمةٌ في التعليم؛ لأنها وسيلةٌ إلى معرفةِ الحقائق العلمية من رياضيةٍ، وطبيعية وإلهية فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تُعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها فكيف إذًا تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية، فهي أَولى بالتحليل، وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية التي لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات. ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم".
ومثلًا نراه يعرض لقوله تعالى في سورة النور: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور: 24) وقوله في سورة فصلت: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت: 22 - 24). وقوله في سورة يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} (يس: 65) ثم يقول: "أوليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدي في أيامنا حاضرة هو نفس الذي صرح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما في المواطن بل هو القائل للإنسان:{كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء: 14)، والقائل:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة} (القيام: 14).
أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبيِّنات المشهورة عند المسلمين، وأن هناك ما هو أفضل منها، وهي التي يحكم بها الله فاحكموا بها، ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا
أن الأيدي فيها أسرار، وفي الأرجل أسرار، وفي النفوس أسرار، فالأيدي لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم، أوليس في الحق أن أقول: إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه، وإلا فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها".
ومثلًا عندما تعرض لقوله تعالى في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (طه: 5، 6). نجده يقول: "قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المُسمى الآثار العلوية، وهو من علوم الطبيعة قديمًا وحديثًا، وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} يُشير لعلمين لم يُعرفا إلا في زماننا وهما علم طبقات الأرض المتقدم مرارًا في هذا التفسير، وعلم الآثار المتقدم بعضه في سورة يونس، فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ليحرض المسلمين على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى".
ومثلًا عند قوله تعالى في سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} (الأنبياء: 30) الآية يقول: "ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين من أن السموات والأرض أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى، وقلنا: إن هذه معجزة؛ لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا في هذه العصور، ألا ترى أن كثيرًا من المفسرين قالوا: إن الكفار في ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم، فكان جوابهم على ذلك أنهم أُخبروا به في نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الأمور لم تُخلق. وقد أخذ العلماء يؤولون تأويلاتٍ شتَّى لكثرة حرصهم، وذكائهم رحمهم الله وها نحن أولاء نجد هذه
العلوم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدي الفرنجة، كما نطق القرآن هنا، كأنه يقول: سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقةً ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضي، فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} (النحل: 1)، وهذه معجزة تامة للقرآن وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا".
ومثلًا عند قوله تعالى في سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَار} (الرحمن: 15) نجده يقول: "والمارج المختلط بعضُه ببعض فيكون اللهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواعٍ من اللهب مختلطات، ولقد ظهر في الكشف الحديث أن الضوء مركبٌ من ألوان سبعة غير ما لم يعلمون، فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائمًا، وإنما خُلق الجان من ذلك المارج المضطرب، إشارةً إلى أن نفوسَ الجان لا تزال في حاجةٍ إلى التهذيب والتكميل. تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها؛ إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارِهَا ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة: فإنها تكون قلقة مضطربة". وعند قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَان} (الرحمن: 35) يقول: "إنه عبر هنا بشواظٍ من نار، وفيما تقدم بقوله:{مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} والشواظ والمارج كلاهما اللهب الخالص، فلماذا جعل الجان مخلوقًا من مارج، ولم يقل: من شواظ؟ فاعلم: أن المارج فيه معنى الاضطراب، وقد أثبت ذلك هناك.
وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم في علم الأرواح، وأيضًا اختلاط الألوان الآن معروف في التحليل فهو من هذا القبيل، وهذه الفكرة لم
تُعرف قط إلا في زماننا هذا؛ فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة، وأنها مضطربةٌ لم يكن إلا في زماننا وهذا من أعاجيب القرآن التي لا تُدرَكُ إلا بقراءةِ العلومِ، وليس يعقلها الناسُ بفن البلاغة المعروف، فلا أصحاب المعلقات يدركونها، ولا الذين بعدهم يعلمونها، فهل لمثل امرئ القيس، أو لأبي العلاء، أو المتنبي أن يتناولوا هذه المعاني في أقوالهم؟ كلا. فهذه البلاغة لا تخطر ببالهم، وأنى لهم علمُ الروح حتى يخصصوها بلفظ "مارج"، وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ".
ومثلًا في سورة الزلزلة نجده يفسرها تفسيرًا لفظيًّا مختصرًا، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضًا ما وقع من حوادث الزلزال في إيطاليا، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم، والبترول من الأرض، وما كَثُرَ في هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض مثل: ما كُشف في مصر من آثار قدمائها. ثم يقول بعد ما يفيض في هذا وغيره: "ألست ترى أن هذه السورة، وإن كانت واردة لأحوال الآخرة تشير من طرف خفي إلى ما ذكرنا في الدنيا، فالأرض الآن كأنَّها في حالةِ زلزلة. وقد أخرجت أثقالها كنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون وها هم أولاء يُلهمون الاختراع وها هم أولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال؛ بحيث تكون كل أمة في عمل يناسبها، وكل إنسان في عمله الخاص به، وينتفع به".
ومثلًا نجده بعد أن يفرغَ من تفسيرِ سورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر يذكر لنا بحثًا مستفيضًا عنوانه: تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما، وفيه نجده يتأثر بنزعتِهِ التفسيرية العلمية إلى درجةٍ جعلته يُحَمِّلُ نصوص الشارع من المعاني الرمزية ما يُستبعد أن يكون مرادًا لَهَا، وذلك أنه يقرر أولًا: أن
هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة ولا بفتح مكة ونصر جيشها؛ لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور في أول عمرها، وسيطول إن شاء الله وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات. ثم قال:"وإذا كان الأمر كما وصفنا، ونحن أبناء العرب ورثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء منا، ولغتنا في مصر والشام والعراق وشمال إفريقيا هي لغة القرآن، فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها؛ خوفًا من أهل زمانهم، ولكنا الآن يجب علينا إبرازها وإظهارها؛ لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظَّهَا من الحياة، ونصيبها من الإصلاح". ثم أخذ يبين لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وأوصاف من سيرد عليه من المسلمين بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال بعد هذا كله: "اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم من أمم جاءت قبلنا، وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئةٍ جميلةٍ، وصورة مفرحة، وبهجة وجلال، ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة، جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال والحكمة والعلم، ورقي الأمة بهيئة تسر الجمهور". ثم يقول: "الجاهل يسمع الدر والياقوت، وشرابًا أحلى من العسل؛ فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللذات التي تقر بها عينه، والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم؛ لأني أرى في خلال القول عجائب فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء، وأيُّ دخلٍ لنجوم السماء هنا، ولماذا عبر به؟ ". ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولم؟ الحق: أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يريد أمرين، أمرًا واضحًا جليًّا يفرح به جميع الناس، وأمرًا يختصُّ بالقواد والعظماء.
إن النبوة بأمر الله والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافِعَ من الحَبِّ والشجر، وحكماء يستخرجون علومًا، وكلٌّ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية، هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قواد الأمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يريد معاني أرقى، إن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل، وأبيض من الثلج كل شيء هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأي شيء عدد نجوم السماء، ولماذا اختصت النجوم بالعدد، والوضوء بالأثر؟ والذي نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الإذفر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من درٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم، ومناظر بدائعه المختلفة المناهج العذبة المشارب السارة للناظرين".
ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التي هي لفظٌ أُطلق، وأريد به لازمه أي لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصل ثم يقول بعد بيان هذه الكناية: "هنا يكون النصر، ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكافِرِين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجًا، وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها ورأوا المسلمين تقدموا، ونصروا العلم على الجهل في العالم الإنساني، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أُخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى