الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرض موجز لسورة النبأ التي ذكرت فيها الآية
نأتي بعد ذلك إلى قول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ: 6، 7):
هاتان الآيتان الكريمتان جاءتا في مقدمات سورة النبأ، وهي سورة مكية، وعدد آياتها أربعون آية، ويدور محورها حول قضية العقيدة، والعقيدة هي تلك القضية الغيبية التي لا يمكن للإنسان أن يصل فيها إلى تصور صحيح بغير هداية ربانية، ومن هنا كانت من قواعد الدين الذي من لوازم صحته أن يكون وحي ً ارباني ًّ اخالص ً الا يداخله أدنى قدر من التصورات البشرية.
ومن أصول العقيدة الإسلامية الإيمان بالبعث وبالحساب والجزاء وبالخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا، والإيمان بالبعث هو موضوع سورة النبأ ومحورها الأساسي، وذلك لأن إنكار البعث كان حجة كفار قريش كما كان حجة الكفار والمتشككين عبر التاريخ في نبذهم للدين كفرا برب العالمين، وجهلا بطلاقة قدرته التي لا تحدها حدود، أو قياس ً اللقدرة الإلهية بقدرات البشر المحدودة ظلما وعدوانا وجهلا بمدلول الألوهية الحقة، ومن ثم عجز الكافرون عن تصور إمكانية البعث أو تعاجزوا عنه؛ انصياع ً الشهواتهم التي يرون ممارستها دون أدنى مسئولية أو مساءلة، فانطلقوا في إنكار البعث وما يستتبعه من الحساب والجزاء، وفي التشكيك في كل ذلك، وهو من صلب الدين الذي جاء به آلاف من الأنبياء ومئات من المرسلين، وتكامل في بعثة النبي والرسول الخاتم - صلى الله وسلم وبارك عليه.
ومن أجل التأكيد على حقيقة البعث بعد الموت، وما يستتبعه من حساب وجزاء ابتدأت سورة النبأ باستنكار تساؤل الكافرين عنه تساؤل المنكر له أوالمتشكك في
إمكانية وقوعه، وألمحت بالتهديد القاطع لكل منكر أو متشكك في تلك الحقيقة الربانية الحاسمة، ثم أوردت عدد ً امن الآيات الكونية الدالة على طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق لتكون شاهدة على أن الخالق المبدع قادر على إفناء خلقه وعلى إعادة بعثه، ولذلك أكدت السورة على حقيقة يوم البعث وأهواله وسمته باسم يوم الفصل؛ لأنه يوم قد وقته ربنا - سبحانه - للفصل بين العباد حيث سيجمع له كافة الخلق من الأولين والآخرين بعد فنائهم أجمعين، وفناء الكون كله من حولهم؛ وذلك لحسابهم على ما قد قدموا في حياتهم الدنيا، ولجزائهم الجزاء الأوفى على ذلك.
ثم تعرج بنا السورة على بعض صور العقاب الذي أعده ربنا - سبحانه - للطاغين من الكفار والمشركين والمتجبرين في الأرض من المنكرين لدين الله والمكذبين بآياته والغافلين عن حسابه، وذلك بإدخالهم إلى جهنم وبئس المصير التي تترصد بهم وتستعد لاستقبالهم، وفيها من صور العذاب المهين ما نسال الله تعالى أن يجيرنا منه.
وللمقارنة بين مصير هؤلاء الطاغين المكذبين ومصير عباد الله الصالحين تحدثت السورة عن شيء من جزاء المتقين الذي تضمن جنات ونعيم مقيم فضل ً اورحمة من رب العالمين. وختمت السورة الكريمة بتصوير شيء من أهوال يوم القيامة، وبدعوة الناس كافة إلى الاستعداد لهذا اليوم الذي سوف يعود الخلق فيه إلى الله؛ ليقفوا جميع ً ابين يديه للحساب، وأن يأخذوا حذرهم حتى تحسن عودتهم ويهون حسابهم فينجوا من العذاب المهين ويتنعموا في جنات النعيم المقيم. وتضمن ختام سورة النبأ التحذير من عذاب يوم القيامة حيث ينظر كل إنسان صحيفة أعماله في هذه الحياة، وفيها كل ما قد قدمت يداه فيحمد المتقون الله
على حسن هدايته وتوفيقه، ويتمنى كل كافر لو يستحيل ترابا؛ أملا في تحاشي هول هذا اليوم وهول المصير الأسود من بعده، ولكن هيهات هيهات أن يفر أحد من حساب الله وجزائه العادل.
ومن الآيات الكونية التي قدمها ربنا بين يدي سورة النبأ شاهدة له - سبحانه - بطلاقة القدرة في إبداعه لخلقه ومؤكدة إمكانية البعث بل حتميته وحقيقته قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} وهاتان الآيتان يمر عليهما الإنسان دون إدراك حقيقي لفضل الله تعالى في الإنعام بهما ولا بعمق الدلالة العلمية في كل منهما، لأن حقيقة ذلك لم يدركها العلماء المتخصصون إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وهذا السبق القرآني صورة من صور الإعجاز العلمي في كتاب الله، لكن سنبدأ أولا في شرح الدلالة اللغوية لألفاظ الآيتين الكريمتين، واستعراض سريع لأقوال المفسرين فيهما.
الدلالة اللغوية:
أول ً ا: المهاد والمهد في اللغة العربية الممهد الم وطأ من كل شيء، ويطلق على الفراش لبسطه وسهولة وطئه، يقال: م َ هـ َ د َ الفراش، ويقال: م َ هـ َّ د َ الفراش؛ أي بسطه ووطأه، وا لمهد ما يهيأ للصبي من فراش وث ير، وتمهيد الأمور إصلاحها وتسويتها يقال: مهدت لك كذا؛ أي هيئته وسويته، وتمهيد العذر هو بسطه وقبوله، وقد جاء ذكر لفظ المهد بتصريفاتها في القرآن الكريم خمس مرات على النحو التالي:
1 -
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 46).
2 -
وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} (طه: 53).
3 -
قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (الروم: 44).
4 -
وقوله تعالى: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} (المدثر: 14).
5 -
وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات: 48).
ثاني ً ا: الجبال، والأجبال جمع جبل وهو المرتفع عما حوله من الأرض ارتفاعا ملحوظا يجعله يعظم ويطول، ودونه التل، ودون التل الربوة والأك ن ة، ودون الأك ن ة النجد أو الهضبة، ودون الهضبة السهل، ويقال: أجبل القوم؛ أي صاروا إلى الجبال بمعنى وصلوا إليها أو دخلوها وسكنوا فيها، ويقال للحية: ابنة الجبل وأن الجبل مأواها، كما يقال لصدى الصوت: ابن الجبل؛ لأن الجبل يردده، ويقال للداهية: ابنة الجبل؛ لأنها تدخل على النفس كأنها الجبل، والجُبلة والجَبلة والجِب ْ لة والجِبِلة القوة البدنية أو صلابة الأرض، والجبال البدن يقال: فلان مجبول؛ أي خطير أو خ طير الجبال؛ أي عظيم البُدن أو عظيم الب َ دن تشبيها بالجبل، وتجبل ما عنده؛ أي استنظف، والجبل أيضا ساح ة البيت، أو الكثير من كل شيء يقال: مال جبل وحي جبل؛ أي كثير، والجبل الجبلة الجماعة من الناس وفيها قراءات قر ئ بها قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا} (يس: 62) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كما قرئ بضم أو فتح الجيم أو تسكين الباء جبْلا جَبْلا وهكذا، والجبلة الخلقة أو الفطرة وأصله الوجه وما استقبلك منه.
والأوتاد جمع وَتَد أو وتِد والكسر أولى، وفعله وتد والأمر منه تد بالكسر، والأوتاد قطع من خشب أو حديد غليظة الرأس مدببة النهاية تثبت بها أركان الخيمة في الأرض بدكها حتى يدفن أغلبها في الأرض ويبقى أقلها ظاهرا فوق السطح، تشد بذلك العمق أركان الخيمة إلى الأرض فتثبتها وتجعلها قادرة على مقاومة فعل الرياح والعواصف الهوجاء. ويأتي التعبير بـ {ذِي الْأَوْتَادِ} (الفجر: 10)