الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
(تابع: شرح قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا
…
} - قوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} )
تتمة الحديث عن الدلالات العلمية لقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا
…
}
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
كنا قد بدأنا في الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين،
أول ً ا: في فهم معنى {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} (النازعات: 32) لمفهوم إرساء الجبال على سطح الأرض: في خلال القرنين الماضيين تراكمت الأدلة العلمية التي تُشير إلى أن الغلاف الصخري للأرض في حالة توازن تام، على الرغم من التباين الواضح في تضاريس سطحه، ومعنى ذلك أن كتلة المادة متساوية عبر كل أنصاف أقطار الأرض الممتدة من مركزها إلى مختلف النقاط على سطحها مهما تباينت تضاريس السطح؛ سواء كانت النقطة التي انتهى إليها نصف القطر أعلى قمة جبلية أو أخفض نقطة في أغوار المحيطات، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بتباين كثافة الصخور المكونة للأجزاء المختلفة من الغلاف الصخري للأرض، فالسلاسل الجبلية العالية تتكون من صخور أقل كثافة من الصخور المحيطة بها، والمناطق المنخفضة تتكون من صخور أعلى كثافة من صخور المناطق المرتفعة.
وقد أكد ذلك أن الجزء العلوي من الغلاف الصخري للأرض المعروف باسم قشرة الأرض يتباين كلٌّ من سمكه وكثافته في القارات عنها في قيعان البحار والمحيطات، فيتراوح سمك قشرة القارية بين 30 و40 كيلو متر ًا، ويبلغ على تركيبها الصخور الجرانيتية؛ بينما يتراوح سمك قشرة قاع المحيط بين 8.5 كيلو متر، ويبلغ على تركيبها الصخور البازلتية بمتوسط كثافته 2.9 جرام وسنتمتر مكعب. وبذلك تطفوا كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات، وبالمثل فإن ألواح الغلاف الصخري الحاملة للقارات يتراوح سمكها بين 1000 و150 كيلو متر، ويغلب على تكوينها صخور ذات كثافة أقل نسبيًّا من الصخور المكونة لألواح قيعان البحار والمحيطات، والتي لا يتعدى سمكها 70 كيلو مترًا.
وكلا الصنفين من الألواح المكونة لغلاف الأرض الصخري القارية والمحيطية يطفوا فوق نطاق أعلى كثافة، وهو نطاق شبه منصهر مرن يُعرف باسم نطاق الضعف الأرضي، وهذا النطاق يتأثر بالضغوط فوقه؛ نظرا لمرونته، فيتحرك إلى أسفل كلما زادت عليه الضغوط، وإلى أعلى كلما قلَّت.
ويتم ذلك بعمليتين متعاكستين تُسمى الأولى منهما باسم التضاغط المرتد، وتُسمى الثانية باسم الارتداد التضاغطي المرتد، وتتمَّان للمحافظة على الاتزان الأرضي، فإذا ارتفع الجبل بصخوره الخفيفة نسبيًّا إلى قمم سابقة؛ فلا بد من إزاحة كمٍّ مساوٍ لكتلته من المادة شبه المنصهرة في نطاق الضعف الأرضي الموجود أسفل الجبل مباشرة، مما يساعد الصخور المكونة للجبل على الاندفاع إلى أسفل بارتدادات عميقة تُسمى تجاوزًا باسم جذور الجبال، وهذه الجذور الجبلية تخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل؛ لتطفوا في نطاق الضعف الأرضي، كما تطفوا جبال الجليد في مياه المحيطات يحكمها في الحالين قوانين الطفو.
وبناء على كثافة الصخور المكونة للجبال بالنسبة إلى كثافة صخور نطاق الضعف الأرضي وكتلة الجبل نفسه يكون عمق الامتدادات الداخلية لصخور الجبل؛ أي: جذوره، وقد ثبت أن كل نتوءٍ على سطح الأرض له امتداد في داخلها يتراوح بين 10 و15 ضعف ارتفاع هذا النتوء فوق مستوى سطح البحر، وكلما زاد هذا الارتفاع الخارجي للتضاريس سطح الأرض زادت امتداداته الداخلية أضعافًا كثيرة، وهكذا تثبت الجبال على سطح الأرض بانغراسها في غلافها الصخري، وطفوها في نطاق الضعف الأرضي، كما تعين هي على تثبيت الأرض فتقلِّل من ترنحها في دورانها حول محورها، وتثبت ألواح الغلاف الصخري للأرض مع بعضها البعض بأوتاد الجبال، فتربط القارة بقاع المحيط.
فإذا استهلك قاع محيط فاصل بين قارتين، ارتطمت ال قارت ان ببعضهما، ونتج عن ذلك أعلى السلاسل الجبلية التي تربط بأوتادها القارتين المصطدمتين، فتقلل من حركة الألواح الصخرية الحاملة لهما، وبذلك تصبح الحياة على سطحي القارتين المرتطمتين أكثر استقرارًا، وكلما مرت عوامل التجوية واتحاد والتعرية قمة الجبل دفعته قوانين الطفو إلى أعلى؛ حتى يتم خروج جذور؛ يعني أوتاد الجبل من نطاق الضعف في الأرض بالكامل، وحينئذ يتوقف الجبل عن الارتفاع، وتستمر العوامل الخارجية في تعريته حتى يصل سمكه إلى سمك لوح الغلاف الصخري الذي يحمله، فيضم إلى باقي صخور القارة الموجودة في الموجود فيها على هيئة راسخ من رواسخ الأرض.
ثانيًا: قوله {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} بمفهوم إرساء ألواح الغلاف الصخري للأرض بواسطة الجبال؛ اختلف العلماء في فهم دور الجبال في إرساء الأرض اختلافًا كبيرًا، وذلك لأن كتل الجبال على سطح الأرض على الرغم من ضخامتها تتضاءل أمام كتلة الأرض المقدرة بحوالي ستة ألاف مليون مليون طن، وكذلك فإن ارتفاع أعلى قمم الأرض، وهو أقل قليلًا من تسعة كيلو مترات لا يكاد يُذكر بجوار متوسط نصف قطر الأرض، فإذا جُمع ارتفاع أعلى قمم الأرض إلى أعمق أغوار المحيطات أكثر قليلًا من أحد عشر كيلو مترًا، فإنه لا يكاد يصل إلى كيلو متر، ونسبته إلى متوسط قطر الأرض لا تتعدى 3%.
من هنا يبرز التساؤل كيف يمكن للجبال أن تثبت الأرض بكتلتها الهائلة، وأبعادها الشاسعة في الوقت الذي لا تكاد كتلة وأبعاد الجبال أن تبلغ من ذلك شيئًا.
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين تمت بلورة مفهوم تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض، فقد اتضح أن هذا الغلاف ممزق بشبكة
هائلة من الصدوع، تمتد إلى عشرات الآلاف من الكيلو مترات؛ لتحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين 65 و150 كيلو مترًا، فتقسمه إلى عدد من الألواح الصخرية التي تطفوا فوق نطاق الضعف الأرضي، وتتحرك في هذا النطاق من نطاق الأرض التيارات الحرارية على هيئة دوَّامات عاتية من تيارات الحمل تُدفع، أو تدفع بألواح الغلاف الصخري؛ لتباعد بينها عند أحد أطرافها، وتصدمها ببعض عند حوافها المقابلة لحواف التباعد، وتجعلها تنزلق عبر بعضها البعض عند الحافتين الأخرتين.
ويعين على تسارع حركة ألواح الصخري للأرض دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، كما يعين على ذلك اندفاع الصهارى الصخرية لملايين الأطنان عبر الصدوع الفاصلة بين حدود الألواح المتباعدة عن بعضها البعض، فيتكون باستمرار أحزمة متوازية من الصخور البركانية التي تتوزَّع بانتظام حول مستويات الصدوع الفاصلة بين الألواح المتباعدة، في ظاهرة تُعرف باسم ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات.
وتتكون الصخور الأحدث عمرًا حول مستويات التصدع المتباعدة باستمرار، وتدفع الصخور الأقدم عمرًا في اتجاه اللوح المقابل عند خط الاصطدام، وهنا يهبط قاع المحيط تحت القارة إذا كان اللوح المقابل يحمل قارة، ويتم ذلك بنفس معدل اتساع قاع المحيط في كل جهة من جهتي الاتساع حول مستوى تصدع وسط المحيط، الذي تتكوَّن حوله سلاسل من الجروف البركانية تمتدُّ فوق قاع المحيط بعشرات الآلاف من الكيلو مترات، وتُعرف باسم حواف أواسط المحيطات.
وينتج عن هبوط قاع المحيط تحت اللوح الصخري الحامل للقارة تكوُّنُ أعمق أجزاء هذا المحيط على هيئة جب عميق يُعرف باسم الجب البحري، ونظرًا لعمقه
يتجمَّع في هذا الجب كم هائل من الرسوبات البحرية التي تتضاغط وتتلاحم، مكونة تتابعات سميكة جدًّا من الصخور الرسوبية، ويتبادل مع هذه الصخور الرسوبية ويتداخل فيها كمٌّ هائل من الصخور النارية التي تعمل على تحوُّل أجزاء منها إلى صهور متحولة.
وتنتج الصخور البركانية عن الانصهار الجزئي لقاع المحيطات المندفع هابطًا تحت القارة، وتنتج الصخور المتداخلة عن كل من الصهارى الناتجة عن هذا الهبوط، وعن الإزاحة من نطاق الضعف الأراضي بدخول اللوح الهابط فيه.
هذا الخليط من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة يُكشط باستمرار من فوق قاعِ المحيط الهابط بحركته المستمرة تحت اللوح الصخري الحامل للقارة، فيُطوى، ويتكسر هذا السمك الهائل من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة، ويضاف إلى حافة القارة مكونًا سلسلة، أو عددًا من السلاسل الجبلية ذات الجذور العميقة التي تربط كتلة القارة بقاع المحيط؛ فتهدّئ من حركة اللوحين، وتعين على استقرار اللوح الصخري الحامل للقارة استقرارًا، ولو جزئيًّا يسمح بإعماره، وتتوقف حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض بالكامل عندما تصل دورة ب ناء الجبال إلى نهايتها حين تتحرك قارتان مفصولتان بمحيط كبير في اتجاه بعضهما البعض حتى يستهلك قاع المحيط كاملًا بدخوله تحت إحدى القارتين حتى تصطدما، فيتكون بذلك أعلى السلاسل الجبلية ارتفاعًا، كما حدث عند ارتطام اللوح القاري الحامل للهند للوح القاري الحامل لقارتي آسيا وأوروبا، ونتج عن ذلك الارتطام تكون سلسلة جبال هملايا.
من هنا اتضح دور الجبال في إرساء ألواح الغلاف الصخري للأرض وتثبيتها، ولولا ذلك ما استقامت الحياة على سطح الأرض أبدًا؛ لأن حركة هذه الألواح