الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعجاز العلمي في كتاب الله إلا من قبل المتخصصين كل في حقل تخصصه، فلا يقوى فرد واحد على معالجة كل القضايا الكونية التي تعرض لها القرآن الكريم من خلقِ الكونِ وإفنائه إلى خلق مراحل الجنين الإنساني المتعاقبة، إلى العديد من الظواهر الكونية المتكررة إلى غير ذلك من مختلف الآيات الكونية الواردة في كتاب الله. هذا هو الفرق بين الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي للقرآن الكريم.
قضية توسيع الكون
نأتي إلى موضوع يتعلق بتوسيع الكون؛ وذلك في قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47):
قال المفسرون في معنى هذه الآية: حينما نقرأ في تفسير الفخر الرازي جزء 14 صـ 227 نجد أنه يقول: "وإنا لموسعون يقول: فيه وجوه أحدها أنه من السعة، أي: أوسعناها بحيث صارت الأرض، وما يحيط بها من الماء، والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة والبناء الواسع الفضاء عجيب؛ فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض". هكذا قال الفخر الرازي، ثم بعد ذلك يقول الصاوي في حاشيته على الجلالين:"وإنا لموسعون من أوسع متعديًا، والفعل محذوف، أي: لموسعون السماء". (حاشية الصاوي على الجلالين) جزء 4 صـ 127، 128.
يقول صاحب (الظلال): "إن الآية عودة إلى المعرض الكوني الذي افتتحت به السورة في سورة من سوره الكثيرة التي يظهرها ويجليها القرآن للقلوب، واستطراد في الإشارة إلى آيات الله هنا وهناك يصل آية نوح بآية السماء وآية
الأرض وآية الخلائق، ثم يخلص به إلى ذلك الهتاف بالبشر ليفروا إلى الله موحدين متجردين يقول: يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الأيد القوة والقوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق بأي مدلول من مدلول كلمة السماء، سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة، وتحوي مئات الملايين من النجوم أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثر فيه النجوم والكواكب، أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء والسعة كذلك ظاهرة فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة والتي تعد بالملايين لا تعدو أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب. ولعل في الإشارة إلى السعة إيحاء آخر إلى مخازن الأرزاق التي قيل من قال: إنها في السماء، ولو أن السماء مجرد رمز إلى ما عند الله ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا معينة يبدو أنها مقصودة في التعبير لخطاب المشاعر البشرية خطابا موحيا". انتهى كلام صاحب (الظلال) في سورة الذاريات جزء 27 صـ 3385 طبعة دار الشروق.
يقول الدكتور زغلول النجار: "هذه الآية تشير إلى أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار، وأننا إذا عدنا بهذا الاتساع إلى الوراء مع الزمن فلابد وأن يتكدس على هيئة جرم واحد". ثم يتحدث الدكتور زغلول النجار عن بدايات تعرف الإنسان على ظاهرة توسع الكون يقول: "إلى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكر للخالق، حتى ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة "دوبلر" على حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا، ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر كان العالم النمساوي "دوبلر" قد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتا متصلا ذا طبقة صوتية ثابتة، ولكن هذه الطبقة
الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد وتهبط كلما ابتعد عنه. وفسر "دوبلر" السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عددا من الموجات الصوتية المتلاحقة في الهواء، وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطا شديدا كلما اقترب مصدر الصوت من الراصد، فترتفع بذلك طبقة الصوت وعلى النقيض من ذلك فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتى تصل إلى سمع الراصد فتنخفض بذلك طبقة الصوت.
ولاحظ "دوبلر" أن تلك الظاهرة تنطبق أيضًا على الموجات الضوئية، فعندما يصل إلى عين الراصد ضوء منبعث من مصدر متحرك بسرعة كافية يحدث تغير في تردد ذلك الضوء، فإذا كان المصدر يتحرك مقتربا من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المدرك نحو التردد العالي، أي نحو الطيف الأزرق وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الزرقاء، وإذا كان المصدر يتحرك مبتعدا عن الراصد فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المنخفض، أي نحو الطرف الأحمر من الطيف، وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الحمراء، وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا، في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جدا عنا.
وفي سنة 1914 أدرك الفلكي الأمريكي "سليفر" أنه بتطبيق ظاهرة "دوبلر" على الضوء القادم إلينا من النجوم في عدد من المجرات البعيدة عنا، ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة، وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك، وهل يمكن أن يشير إلى تمدد الكون المدرك بمعنى تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة، وبحلول سنة 1925 تمكن
هذا الفلكي نفسه "سليفر" من إثبات أن أربعين مجرة قام برصدها تتحرك فعلا في معظمها بسرعات فائقة متباعدة عن مجرتنا سكة التبانة، وعن بعضها البعض. وفي سنة 1929 تمكن "إدوان هيبل" من الوصول إلى الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مؤداه أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسبا طرديا مع بعدها عنا، والذي عرف من بعد باسم قانون "هيبل"، وبتطبيق هذا القانون تمكن "هيبل" من قياس أبعاد وسرعات تحرك 32 من تلك المجرات الخارجية وسرعة تباعدها عنا، وذلك بمشاركة من عالم كان يعمل معه في مرصد جبل "ويلسون" بولاية كاليفورنيا اسمه "ميلتون هوماسون" وذلك في بحث نشراه معا في سنة 1934 وقد أشار تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض إلى حقيقة توسع الكون المدرك، التي أثارت جدلا واسعا بين علماء الفلك الذين انقسموا فيها بين مؤيد ومعارض، حتى ثبتت ثبوتا قاطعا بالعديد من المعادلات الرياضية والقراءات الفلكية في صفحة السماء.
وفي سنة 1917 أطلق "ألبرت أينشتاين" نظريته عن النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية، وأشارت النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه غير ثابت، فهو إما أن يتمدد أو ينكمش وفقا لعدد من القوانين المحددة له، وجاء ذلك على عكس ما كان "أينشتاين" وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية يعتقدونه انطلاقا من محاولاتهم اليائسة لمعارضة الخلق، وقد أصاب "أينشتاين" الذعر عندما اكتشف أن معادلاته تنبئ رغم أنفه بأن الكون في حالة تمدد مستمر، ولذلك عمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني ليلغي حقيقة تمدد الكون؛ من أجل الادعاء لثباته واستقراره، برغم دوران الأجرام التي يحتويها، ثم عاد ليعترف بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته.
وقد قام العالم الهولندي "وليام ديسيتر" بنشر بحث في نفس السنة 1917 م استنتج فيه تمدد الكون انطلاقا من النظرية النسبية ذاتها، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاعتقاد في تمدد الكون يلقى القبول من أعداد كبيرة من العلماء، فقد أجبرت ملاحظات كل من "سليفر" و"ديسيتر" وكل من "هوب" و"هيوماسن" جميع الفلكيين الممارسين وعدد من المشتغلين بالفيزياء النظرية وفي مقدمتهم ألبرت "أينشتاين" نفسه على التسليم بحقيقة توسع الكون، أما مجموعة البحث العلمي بجامعة كومبوردش المكونة من كل من "هرنان جوندي" و"توماس جولد" و"فريد هويل" فقد ظلت إلى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين تنادي بثبات الكون، ثم اضطرت اضطرارا إلى الاعتراف بحقيقة توسع الكون المدرك، وسبحان الله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) تشير هذه الآية الكريمة إلى عدد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم، ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله، منها:
أولا: أن السماء بناء محكم التشييد دقيق التماسك والترابط وليست فراغا كما كان يعتقد إلى عهد قريب. وقد ثبت علميا أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جدا من الغازات، التي يغلب عليها غاز الأيدروجين وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المتناهية في الصغر من المواد الصلبة على هيئة هباءات من غبار دقيق الحبيبات، يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والتيتانيوم والحديد، بالإضافة إلى جزئيات من بخار الماء والأمونيا والفورمالدهيد وغيرها من المركبات الكيميائية، وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم، فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لتربط بينها في بناء محكم التشييد متناسق الأطراف. وهذه حقيقة لم يدركها
العلماء إلا في القرن العشرين بل في العقود المتأخرة منه، وعلى الرغم من قلة كثافة المادة في المسافات بين النجوم، والتي تصل إلى ذرة واحدة من الغاز في كل سنتيمتر مكعب تقريبا، وإلى أقل من ذلك بالنسبة للمواد الصلبة كالغبار الكوني، إذا ما قورن بحوالي مليون مليون مليون أي عشر جزيء في كل سنتيمتر مكعب من الهواء عند سطح الأرض، فإن كمية المادة في المسافات بين النجوم تبلغ قدرا مذهلا للغاية، فهي تقدر في مجرتنا سكة التبانة وحدها بعشرة بلايين ضعف ما في شمسنا من مادة، مما يمثل حوالي 5% من مجموع كتلة تلك المجرة.
ثانيًا: إن في الإشارة القرآنية الكريمة {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذاريات: 47) أي بقوة وحكمة واقتدار تلميحا إلى ضخامة الكون المذهلة وإحكام صنعه، وانضباط حركاته ودقة كل أمر من أموره، وثبات سننه وتماسك أجزائه وحفظه من التصدع أو الانهيار، فالسماء لغة هي كل ما علاك فأظلك ومضمونا هي كل ما حول الأرض من أجرام ومادة وطاقة السماء التي لا يدرك العلم الكسبي إلا جزءا يسيرا منها، ويحصي العلماء أن بهذا الجزء المدرك من السماء الدنيا مائتي بليون مجرة على أقل تقدير، بعضها أكبر كثيرا من مجرتنا درب التبانة أو سكة التبانة، وبعضها أصغر قليلا منها، وتتراوح أعداد النجوم في المجرات بين المليون والعشرة ملايين وملايين الملايين. وتمر هذه النجوم في مراحل من النمو مختلفة من الميلاد إلى الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة ثم الوفاة، ولما كان لأقرب النجوم إلينا وهي شمسنا توابع من الكواكب والكويكبات والأقمار وغيرها فإن القياس يقتضي أن يكون للنجوم الأخرى توابع، قد اكتشف عدد منها بالفعل ويبقى الكثير منها ما لم يتم اكتشافه بعد.
ثالثًا: تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الكون الشاسع الاتساع الدقيق البناء المحكم الحركة والمنضبط في كل أمر من أموره، والثابت في سننه وقوانينه قد خلقه الله
تعالى بعلمه وحكمته وقدرته، وهو سبحانه الذي يحفظه من الزوال والانهيار، وهو القادر على كل شيء، والجزء المدرك لنا من هذا الكون شاسع الاتساع بصورة لا يكاد عقل الإنسان إدراكها؛ إذ المسافات فيه تقدر ببلايين السنين الضوئية، وهو مستمر في الاتساع اليوم وإلى ما شاء الله. والتعبير القرآني {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} يشير إلى تلك السعة المذهلة. كما يشير إلى حقيقة توسع هذا الكون باستمرار إلى ما شاء الله، وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، حيث ثبت لعلماء كل من الفيزياء النظرية والفلك أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تتزايد بتزايد بعدها عن مجرتنا، وتقترب أحيانا من سرعة الضوء المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، والمجرات من حولنا تتراجع متباعدة عنا، وقد أدرك العلماء تلك الحقيقة من ظاهرة انزياح الموجات الطيفية للضوء الصادر عن نجوم المجرات الخارجة عنا في اتجاه الطيف الأحمر، وقد أمكن قياس سرعة تحرك تلك المجرات في تراجعها عنا من خلال قياس خطوط الطيف لعدد من النجوم في تلك المجرات، وثبت أنها تتراوح ما بين 60 ألف كيلو متر في الثانية و 272 ألف كيلو متر في الثانية. وقد وجد العلماء أن مقدار الحيود في أطياف النجوم إلى الطيف الأحمر يعبر عن سرعة ابتعاد تلك النجوم عنا، وأن هذه السرعة ذاتها يمكن استخدامها مقياسا لأبعاد تلك النجوم عنا.
رابعًا: تشير ظاهرة توسع الكون إلى تخلق كل من المادة والطاقة لتملأ المساحات الناتجة عن هذا التوسع، وذلك لأن كوننا تنتشر المادة فيه بكثافات متفاوتة ولكنها متصلة بغير انقطاع، فلا يوجد فيه مكان بلا زمان كما لا يوجد فيه مكان وزمان بغير مادة وطاقة، ولا يستطيع العلم حتى يومنا هذا أن يحدد مصدر كل من المادة والطاقة اللتين تملآن المساحات الناتجة عن تمدد الكون بتلك السرعات المذهلة، ولا تفسير لها إلا الخلق من العدم.
خامسًا: أدى إثبات توسع الكون إلى التصور الصحيح بأننا إذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن، فلابد وأن تلتقي كل صور المادة والطاقة كما يلتقي كل من المكان والزمان في نقطة واحدة. وأدى ذلك إلى الاستنتاج الصحيح بأن الكون قد بدأ من هذه النقطة الواحدة بعملية انفجار عظيم، وهو مما يؤكد أن الكون مخلوق له بداية، وكل ما له بداية فلابد وأن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، كما يؤكد حقيقة الخلق من العدم لأن عملية تمدد الكون تقتضي خلق كل من المادة والطاقة بطريقة مستمرة من حيث لا يدرك العلماء، وذلك ليملأ في التو والحال المسافات الناشئة عن تباعد المجرات بسرعات مذهلة، وذلك لكي يحتفظ الكون بمستوى متوسط لكثافته التي نراه بها اليوم، وقد أجبرت هذه الملاحظات علماء الغرب على هجر معتقداتهم الخاطئة عن ثبات الكون، والتي دافعوا عنها طويلا انطلاقا من ظنهم الباطل بأزلية الكون وأبديته لكي يبالغوا في كفرهم بالخلق وجحودهم للخالق.
هذه الاستنتاجات الكلية المهمة عن أصل الكون وكيفية خلقه وإبداع صنعه وحتمية نهايته؛ أمكن الوصول إليها من ملاحظة توسع الكون، وهي حقيقة من أهم حقائق علم الفلك لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين، ودار حولها الجدل حتى سلم بها أهل العلم أخيرا، وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق سبحانه، فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته، والذي أنزل لنا في خاتم كتبه وعلى خاتم أنبيائه ورسله عددا من حقائق الكون الثابتة، ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال سبحانه:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) لتبقى هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية شهادة صدق بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم أنبياء الله ورسله
وأنه صلى الله عليه وسلم كان موصولا بالوحي ومعلما من قِبل خالق السموات والأرض، وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة.
وإذا كان صدق القرآن الكريم جليا في إشاراته إلى بعض أشياء الكون وظواهره؛ فلابد وأن يكون صدقه في رسالته الأساسية؛ وهي الدين بركائزه الأربع: العقيدة العبادة الأخلاق المعاملات جليا كذلك، وهنا يتضح جانب من أهم جوانب الإعجاز في كتاب الله وما أكثر جوانبه المعجزة، ألا وهو الإعجاز العلمي، وهو خطاب العصر ومنطقه وما أحوج الأمة الإسلامية بل ما أحوج الإنسانية كلها إلى هذا الخطاب في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه، وزمن العولمة الذي تحاول فيه القوى الكبرى على ضلالها فرض قيمها الدينية والأخلاقية والاجتماعية المنهارة على دول العالم الثالث، وفي زمرتها الدول الإسلامية بحكم غلبتها العلمية والتقنية وهيمنتها الاقتصادية والعسكرية، وقد عانت الدول الغربية ذاتها ولا تزال من الإغراق المادي الذي دمر مجتمعاتها، وأدى إلى تحللها الأسري والاجتماعي والأخلاقي والسلوكي والديني، وإلى ارتفاع معدلات كل من الجريمة والإدمان والانتحار، وإلى الحيود عن كل قوانين الفطرة السوية التي فطر الله سبحانه خلقه عليها، وإلى العديد من المشاكل والأزمات النفسية، والمظالم الاجتماعية والسياسية على المستويين المحلي والدولي لا يتسع المقام لسردها.
وما أحوج علماء المسلمين إلى إدراك قيمة الآيات الكونية في كتاب الله، فيقبلوا عليها بالتحقيق العلمي المنهجي الدقيق بعد فهم عميق لدلالة اللغة وضوابطها وقواعدها، ولأساليب التعبير فيها وفهم لأسباب النزول ومعرفة بالمأثور من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم وجهود السابقين من المفسرين، ثم تقديم ذلك الإعجاز العلمي إلى الناس كافة مسلمين وغير مسلمين، مما يعد دليلا ماديا ملموسا على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وعلى أن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم أنبيائه ورسله في غير تكلف ولا اعتساف؛ لأن القرآن الكريم غني عن ذلك وهو
أعز علينا وأكرم من أن نتكلف له. وهذا المنهج في الاهتمام بالآيات الكونية في كتاب الله وشرح الإشارات العلمية فيها من قبل المتخصصين كل في حقل تخصصه، هو من أكثر وسائل الدعوة إلى دين الله قبولا في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه". إذن الآية قررت بوضوح اتساع الكون وهذا ما كان ينكره الباحثون الغربيون، إلا أنهم أمام الحقائق العلمية التي تم اكتشافها منهم أقروا بأن الكون متمدد ومتسع، وهذا ما نطق به القرآن الكريم:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) وهذا يدل دلالة صادقة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما قاله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4).
وهذا الذي أقر به علماء الغرب يشهد للقرآن بأنه لا يمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق، كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- بأنه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السموات والأرض، حيث إنه لم يكن لأحد من الخلق علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي ولا لقرون جاءت من بعد نزوله وتشهد هذه الآية {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله وشمولها وكمالها وصياغتها صياغة معجزة، يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني يتناسب مع المستوى العلمي للعصر، وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله. وقول الله:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47) يشهد بأن هذا الكون من صنع الله سبحانه وتعالى وأن حكمة الله سبحانه وتعالى دائمة ومستمرة وستظل معروفة للموحدين المؤمنين وستظل برهانا للكافرين المشككين، حتى يهديهم الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.