الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة، لكن حديثنا كما يقول الدكتور زغلول النجار سوف يقتصر على النقطة التاسعة؛ وهي قوله تعالى:{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73).
أقوال المفسرين في تفسير الآية، والدلالات العلمية فيها
أ- أقوال المفسرين في تفسير الآية:
ماذا قال المفسرون في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ؟
ذكر ابن كثير رحمه الله ما مختصره: يقول تعالى منبه ً اعلى حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها: يا أيها الناس ضرب مثل لما يعبده الجاهلون بالله والمشركون به فاستمعوا له؛ أي أنصتوا وتفهموا، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباب ًا ولو اجتمعوا له؛ أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك.
ثم قال تعالى أيضا: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومت هـ والانتصار منه، ولو سلبها شيئا من الذي عليها من الطيب أو من الطعام ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال تعالى:{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .
قال ابن عباس: "الطالب الصنم والمطلوب الذباب ". واختاره ابن جرير وقال السدي وغيره: "الطالب العابد والمطلوب الصنم ". وجاء في (الظلال) رحم الله كاتبها برحمته الواسعة جزاء ما قدم ما مختصره يقول صاحب (الظلال): "إنه النداء العام والنفير البعيد الصدى يا أيها الناس، فإذا اجتمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة ".
ضرب مثل فاستمعوا له، هذا المثل يضع قاعدة ويقرر حقيقة: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، كل من تدعون من دون الله من آلهة مدعاة من أصنام وأوثان ومن أشخاص وقيم وأوضاع، تستنصرون بها من دون الله وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه كلهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، والذباب صغير حقير.
ولكن هؤلاء الذين ي دعونه آلهة لا يقدرون ولو اجتمعوا وتساندوا على خلق هذا الذباب الصغير الحقير، وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل؛ لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل، لكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير؛ لأن العجز عن خلقه يلقي في هذا الحس ذل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير، وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب.
ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} والآلهة المدع اة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه؛ سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا، وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس ف لا يملكون رده.
وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير وهو في الوقت نفسه يحمل أخطر الأمراض، ويسلب أغلى النفائس؛ يسلب العيون والجوارح، وقد يسلب الحياة والأرواح. إنه يحمل ميكروبات السل والتيفود والديسونتاريا والرمد، ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير، وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها، لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب، لكنه الأسلوب القرآني العجيب.
ويختم ذلك بالمثل المصور الموحى ب هذا التعقيب {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب.
وذكر أصحاب (المنتخب في تفسير القرآن الكريم) جزاهم الله خيرا ما نصه: يا أيها الناس إنا نبرز أمامكم حقيقة عجيبة في شأنها فاستمعوا إليها وتدبروها. إن هذه الأصنام لن تستطيع أبدا خلق شيء مهما يكن حقيرا تافها كالذباب، وإن تضافروا جميعا على خلقه، بل إن هذا المخلوق التافه لو سلب من الأصنام شيئا من القرابين التي تقدم إليها؛ فإنها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تمنعه عنه أو تسترده منه، وما أضعف الذي يهزم أمام الذباب عن استرداد ما سلبه منه، وما أضعف الذباب نفسه كلاهما شديد الضعف، بل الأصنام كما ترون أشد ضعفا؛ فكيف يليق بإنسان عاقل أن يعبدها ويلتمس النفع منها.
وجاء في (صفوة التفاسير) جزى الله كاتبها خيرا ما نصه: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له؛ أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلا لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر، واعقلوا ما يقال لكم. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له؛ أي أن هذه الأصنام التي عبدتموها
من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها، وإن اجتمعت على ذلك فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله.
قال القرطبي: "وخص الذباب لأربعة أمور؛ لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته؛ فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين؟! وهذا من أقوى الحجج وأوضح البراهين؛ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه؛ أي لو اختطف الذباب وسلب شيئا من الطيب الذي كانوا يضعونه على الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم؛ فكل منهما حقير ضعيف".
ب- من الدلالات العلمية للنص الكريم:
أولًا في قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} الاستلاب في اللغة هو الاختلاس، والسلب هو نزع الشيء من الغير على القهر، والسلب والسليب هو الشخص المسلوب والناقة التي سلب ولدها، والسلب أيض ً اهو الشيء المسلوب، ويقال للحاء الشجر المنزوع منه.
وفي استخدام القرآن الكريم تعبير {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} ومضة معجزة؛ لأن الذباب يختلس ما يأخذه من أشربة وأطعمة الناس اختلاسا، وينزعها منهم نزعا على القهر لعجزهم عن مقاومته في أغلب الأحوال. فحركات الذبابة المنزلية على درجة عالية من التعقيد؛ إذ تبدأ في الاستعداد للطيران بتحديد العضلات التي سوف تستخدمها، ثم تأخذ وضع التأهب للطيران؛ وذلك
بتعديل وضع أعضاء التوازن في الجهة الأمامية من الجسم حسب زاوية الإقلاع واتجاه وسرعة الريح، وذلك بواسطة خلايا حسية خاصة موجودة على قرون الاستشعار في مقدمة الرأس.
وهذه العمليات المعقدة لا تستغرق أكثر من 1 من مائة من الثانية، ومن الغريب أن الذبابة لها قدرة على الإقلاع عموديا من المكان الذي تقف عليه، كما أن لها القدرة على المناورة بالحركات الأمامية والخلفية والجانبية بسرعة فائقة لتغيير مواقعها، وبعد طيرانها تستطيع الذبابة زيادة سرعتها إلى عشرة كيلو مترات في الساعة، وهي تسلك في ذلك مسارا متعرجا، ثم تحط بكفاءة عالية على أي سطح بغض النظر عن شكله وارتفاعه واستقامته أو انحدا ر هـ وملائمته أو عدم ملائمته لنزول شيء عليه.
ويساعد الذبابة على هذه القدرة الفائقة في المناورة جناحان مل ت صقان مباشرة بصدرها، بواسطة غشاء رقيق جدا مندمج مع الجناح، ويمكن لأي من هذين الجناحين أن يعمل بشكل مستقل عن الآخر، وإن كان ايعملان معا في أثناء الطيران على محور واحد إلى الأمام أو إلى الخلف، يدعمهما نظام معقد من العضلات، يعين هذين الجناحين ع لى أن يتم اإلى مائ تي خفقة في الثانية الواحدة كما هو الحال في الذباب الأزرق، وعليها أن تستمر على ذلك لمدة نصف الساعة وأن تتحرك لمسافة ميل كامل على هذه الحالة.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.