المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين - الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 التفسير العلمي: تعريفه - كثرة القائلين به - مؤلفاته

- ‌معنى التفسير العلمي

- ‌التوسع في هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به

- ‌نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث

- ‌الدرس: 2 أهم الكتب التي عنيت بالتفسير العلمي

- ‌تتمة الحديث عن نماذج لمؤلفات التفسير العلمي في العصر الحديث

- ‌منهج الشيخ طنطاوي جوهري في كتاب (الجواهر)

- ‌الدرس: 3 تابع: أهم الكتب التي عنيت بالتفسير العلمي - المعارضون للتفسير العلمي

- ‌نماذج من تفسير الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر)

- ‌المعارضون والمنكرون للتفسير العلمي

- ‌الدرس: 4 التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين

- ‌تتمة الكلام عن المعارضين والمنكرين للتفسير العلمي

- ‌التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين

- ‌الدرس: 5 من قواعد التفسير العلمي - الإعجاز العلمي للقرآن الكريم

- ‌القواعد التي يجب أن تُراعى عند تفسير القرآن تفسيرًا علميًا

- ‌قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم

- ‌الإعجاز القرآني

- ‌وجوه إعجاز القرآن

- ‌الدرس: 6 الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي

- ‌معنى إعجاز القرآن الكريم

- ‌الضوابط اللازمة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم

- ‌الدرس: 7 الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي

- ‌بيان الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي

- ‌قضية توسيع الكون

- ‌الدرس: 8 انفجار الكون في بداية الخلق - خلق السموات والأرض

- ‌المفسرون وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السموات وَالْأَرْضَ كَانَتَا رتقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}

- ‌العلوم المكتسبة وعملية الانفجار العظيم

- ‌بقايا الإشعاع الكوني كدليل على الانفجار العظيم

- ‌تصور بقايا الدخان الكوني دليل على عملية الانفجار العظيم

- ‌القرآن الكريم وخلق السموات والأرض

- ‌الدرس: 9 شرح قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان

- ‌المفسرون وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ

- ‌دخانية السماء بعد الانفجار الكوني العظيم

- ‌الفيزياء الفلكية ودخانية الكون

- ‌تصوير الدخان الكوني

- ‌انتشار مختلف صور الطاقة بالكون، ووحدة القوى في الكون

- ‌الدرس: 10 شرح قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا

- ‌ذكر الآيات التي أجملت خلق السموات والأرض

- ‌المفسرون وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا

- ‌علوم الكون وخلق السموات والأرض

- ‌تخليق العناصر في الكون الابتدائي

- ‌مراحل خلق الكون عند كل من الفلكيين والفيزيائيين

- ‌دعوة قرآنية لإعادة التفكير

- ‌الدرس: 11 الإعجاز في ضرب المثل بالذباب

- ‌عرض موجز لسورة الحج التي ذكرت فيها الآية

- ‌من أسس العقيدة الإسلامية في سورة الحج

- ‌من العبادات المفروضة والإشارات الكونية في سورة الحج

- ‌أقوال المفسرين في تفسير الآية، والدلالات العلمية فيها

- ‌الدرس: 12 تابع الإعجاز في ضرب المثل بالذباب - ضرب المثل بالبعوضة

- ‌تتمة الحديث عن الدلالات العلمية لآية سورة الحج

- ‌عرض موجز لسورة البقرة التي ذكرت فيها آية البعوضة

- ‌من مكارم الأخلاق التي دعت إليها سورة البقرة

- ‌من القصص القرآني في سورة البقرة

- ‌الدرس: 13 تابع: الإعجاز في ضرب المثل بالبعوضة

- ‌من الإشارات الكونية في سورة البقرة

- ‌أقوال المفسرين في توجيه الآية، والدلالات العلمية فيها

- ‌الدرس: 14 شرح قوله تعالى: {والبحر المسجور}

- ‌عرض موجز لسورة الطور التي ذكرت فيها الآية

- ‌من شروح المفسرين لقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}

- ‌الدرس: 15 تابع: شرح قوله تعالى: {والبحر المسجور} - قوله: {ألم نجعل الأرض مهادا

- ‌تتمة الحديث عن شرح المفسرين لقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}

- ‌عرض موجز لسورة النبأ التي ذكرت فيها الآية

- ‌أقوال المفسرين في هذه الآية

- ‌الدرس: 16 تابع: شرح قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا…} - قوله: {والجبال أرساها

- ‌تتمة أقوال المفسرين في هذه الآية

- ‌من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين

- ‌من الدلالات العلمية لقوله تعالى:} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا

- ‌الدرس: 17 تابع: شرح قوله تعالى: {والجبال أرساها…} - قوله: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}

- ‌تتمة الحديث عن الدلالات العلمية لقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا

- ‌تثبيت الحبال لكوكب الأرض

- ‌عرض موجز لسورة الزمر التي ذكرت فيها الآية

- ‌الإشارات الكونية في سورة الزمر

- ‌الدلالة اللغوية لقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ}

- ‌من شروح المفسرين في تفسير الآية

- ‌الدرس: 18 تابع: شرح قوله تعالى: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} - قوله: {وأوحى ربك إلى النحل

- ‌أول من قال بكروية الأرض

- ‌كروية الأرض في القرآن الكريم

- ‌إعجاز القرآن في آية تكو ن الشراب الذي يخرج من بطون النحل

- ‌التحقيق العلمي

- ‌الدرس: 19 تابع: شرح قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل

- ‌عسل النحل، وغذاء الملكات، وشمع النحل، والعَكْبَر أو صمغ النحل

- ‌وجه الإعجاز في الآيتين الكريمتين

- ‌الدرس: 20 شرح قوله تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحابا

- ‌المعاني اللغوية وأقوال المفسرين حول الآية

- ‌التحقيق العلمي للآية

- ‌الدرس: 21 شرح قول الله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين

- ‌المعاني اللغوية وأقوال المفسرين حول الآية

- ‌التحقيق العلمي

- ‌وصف الحاجز بين البحرين

- ‌الدرس: 22 تابع: شرح قوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين…} - قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}

- ‌ما جاء في بحث الظواهر البحرية

- ‌أوجه الإعجاز في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}

- ‌شرح قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}

- ‌ذكر السمع قبل البصر في القرآن الكريم والحديث الشريف

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في السمع والبصر والفؤاد

الفصل: ‌التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين

‌التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين

التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين والمتساهلين الذين بالغوا في رفض التفسير العلمي قالوا: إن هذا تحميل لكتاب الله ما ليس من وظيفته خصوصًا بعد أن أعلن القرآن نفسه هذه الوظيفة، وحددها في مواضع كثيرة كقوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين} (البقرة: 2) وكقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15، 16). فوظيفة القرآن إذًا إنقاذ الإنسانية من الضلال لا بيان ما يتعلق بهذه العلوم الكونية. وقالوا: إن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد، وهناك أبحاث كثيرة لا تزال قلقة حائرة بين إثبات ونفي.

فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم، وما قرره علماء الطبيعة في الماضي يقرر غيره علماء الطبيعة في الحاضر، وما أثبته المؤرخون قديمًا ينفيه المؤرخون حديثًا، وما أنكره وأسرفوا في إنكاره باسم العلم أصبحوا يثبتونه ويسرفون في إثباته باسم العلم أيضًا، وقالوا: فهل يليق بعد ذلك كله أن نبقى مخدوعين مغرورين بعلمهم الذي اصطلحوا عليه، وتحاكموا إليه، وقد سجنوا أنفسهم معه في سجنٍ ضيقٍ هو دائرة المادة، تلك الدائرة المسجونة هي أيضًا في حدود ما تفهم عقولهم، وتصل تجاربهم. وقد تكون عقولهم خاطئة وتجاربهم فاشلة، وقالوا أيضًا: هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة، بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية الثابتة المتنزلة من أفق الحقِّ الأعلى الذي يعلم السر وأخفى. ذلك ما ذكره الزرقاني صاحب كتاب (مناهل العرفان في علوم القرآن) الجزء الثاني من صفحة 250 إلى 253.

ص: 56

والزرقاني يعتبر عد العلوم الكونية من موضوعات علوم القرآن، ومعارفه خطأ جسيمًا، وإسرافا خطيرًا، فيقول:"ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه، فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون، وهم في ذلك مخطئون ومسرفون". هذا يعني ملخص مذهب الرافضين، وأدلة الرافضين لقبول التفسير العلمي للقرآن. فإذا ما جئنا إلى الصنف الثاني والذي يقف على طرف النقيض الآخر، وجدناهم يتساهلون في تفسير القرآن بتلك العلوم الحديثة لدرجة هي غاية في العجب كما رأينا في كتاب (الجواهر) حتى ليكاد أمرهم يصل إلى تلمس أي كلام في مجال العلوم الحديثة ليفسروا به أي آية قرآنية، ظانين أنهم بهذا المسلك يخدمون القرآن لسبقه العلماء فيما قالوا بأكثر من أربعة عشر قرنًا.

وإذا كان هؤلاء قد تساهلوا في قبول أيِّ كلامٍ ليفسروا به نصًّا قرآنيًّا بحجة إضافة براهين جديدة؛ للتدليل على صدقِ القرآن الكريم حتى ينكشف للناس أمجادٌ جديدةٌ للقرآن، ومعجزاتٌ حديثة له فيؤمنوا به، وبمن أنزله وبمن نزل عليه، إذا كان هؤلاء قد تساهلوا كل هذا التساهل؛ فإن ذلك مرفوضٌ منهم؛ فالأدلة على صدق القرآن أقوى من تلمس أيِّ كلامٍ ساقطٍ لا وزنَ له؛ لنقيم به دليلا على صحة القرآن؛ فإعجاز القرآن واضحٌ، وحجة هذا الإعجاز قوية، وهي غنيةٌ عن هذه التَّفَاهَات التي لا تصل إلى مجردِ نظرياتٍ علمية، فضلا عن استحالة أن تكون حقائق علمية ثابتة لا تقبل النقد.

الترجيح في هذه المسألة: نحن أمام رأيين وقَفَا على طرفِي نقيض في قضية التفسير العلمي، وقبل أن نرجح أي الرأيين أفضل نود أن نشير إلى عدة أمور:

الأمر الأول: هو أن التفسير العلمي ليس بدعة عصرية، فقد سلك الأقدمون من المفسرين في تفاسيرهم هذا النهج حيث فسروا القرآن بعلوم عصرهم كما يفعل

ص: 57

البعض الآن، ومن ينظر في التفاسير ابتداءً من تفسير ابن جرير الطبري ومرورًا بتفاسير الزمخشري والفخر الرازي ثم البيضاوي ثم محمد عبده يجد فيها نماذج لهذا اللون من التفسير، ومن بعد الإمام محمد عبده اتسع المجال بصورة ظاهرة للغاية، ولنضرب لذلك ثلاثة أمثلة من تفاسير ابن جرير الطبري، والزمخشري، والفخر الرازي.

يقول ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} (التكوير: 15، 16) يقول: "اختلف أهل التأويل في الخنس الجوار الكنس، فقال بعضهم: هي النجوم الدراري الخمسة تخنس في مجراها فترجع وتُكنس، يعني: تُحبس في مجراها فتستتر في بيوتها كما تُكنس الظباء في المغارة. والنجوم الخمسة -كما يقولون- هي زحل، وعطارد، والزهري والمشتري وغير ذلك، وقال آخرون: هي بقر الوحش التي تُكنس في كُنَاسِها، وقال آخرون: هي الظباء، ثم عقب ابن جرير على هذه الأقوال بقوله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بأشياء تخنس أحيانًا، أي: تغيب وتجري أحيانًا وتُكنس أخرى، وكنوسها هو الإيواء في مكانها، والمكانس عند العرب هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء، وغير منكر أن يُستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء؛ فالصواب أن يعم بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحيانًا والجري أخرى".

ويقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (يس: 38): "أي لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شُبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب؛ لأنها تتقصاها مشرقًا

ص: 58

مشرقًا، ومغربًا مغربًا حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها؛ لأنها لا تعدوه ولا تتجاوزه، أو لحدٍّ لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا، وهو المغرب وقيل: مستقرها، أي: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه، وهو آخر السنة، وقيل: الوقت الذي يستقر فيه، وينقطع جريها، وهو يوم القيامة".

ويقول الفخر الرازي في تفسيرِ قوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} (الأعلى: 4، 5): "فيه مسألتان، المسألة الأولى: الغثاء ما يبس من النبت، فحملته الأودية والمياه، وألوت به الرياح. والمسألة الثانية: الحوة السواد، وقال بعضهم: الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة، وفي أحوى قولان: أحدهما: أنه نعت لغثاء، أي صار بعد الخضرة يابسًا فتغير إلى السواد؛ وسبب ذلك السواد أمور أحدها: أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء، ومن شدة البرودة أنها تبيض الرطب، وتسود اليابس. وثانيًا: أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسود، وثالثها: أن يحملها الرياح؛ فتلصق بها الغبار الكثير فتسود. القول الثاني: وهو اختيار الفراء، وأبي عبيدة، وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته، كما قيل في:{مُدْهَامَّتَان} (الرحمن: 64) أي سوداوان لشدة خضرتهما، والتقدير: الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء كقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} (الكهف: 1، 2) أي: أنزله قيمًا ولم يجعل له عوجًا.

الأمر الثاني: أسلوب القرآن في حديثه عن العلوم الكونية: فقد جاء هذا الأسلوب بطريقة عجيبة؛ بحيث توائم فكر الناس أيًّا كانت ثقافتهم، وتناسب علومهم ومعارفهم مهما تطورت وتقدمت، فإذا قرأَهُ العامة؛ وجدوا فيه

ص: 59

هدايتهم، وإذا اطَّلَعَ عليه الخاصة في ضوء الاكتشافات الحديثة لم يجدوه متعارضًا معها؛ فيكون ذلك أدعى إلى تصديقه، واليقين بأنَّهُ من عند الله سبحانه وتعالى وقد اقتضَت الحكمة الإلهية في آياته الكونية أن ينزل القرآن بأسلوبٍ لا يصدم البدهي المسلَّم به عند الناس فيكذبوه، ولا ينافي الحقيقة الكونية؛ فيكون ذلك داعيًا إلى تكذيبه، إذ يسر الله سبيل الكشف لأولي العلم في مستقبل العصور.

وهذا من أعجب عجائب القرآن التي لا تنقضي، ومن أدل الدلائل على أن القرآن حقًّا من عند الله، فإن التعبير عن الحقيقة الكونية بأسلوبٍ يطابقُهَا تمامًا، أو يدل عليها أولو العلم، ثم لا يصدم الناس فيما يعتقدون، ولو كان ما يعتقدونه مخالفًا تلك الحقيقة، هذا الأسلوب القرآني في التعبير عن الحقائق الكونية، أو في دلالة أولي العلم عليها أمر يعجز عنه البشر، ولا يقدر عليه إلا الله الذي أنزل القرآن بالحق هدى للناس".

هذه الخاصةُ لأسلوب القرآن في الحديث عن العلوم الكونية لم يستطع الرافضون للتفسير العلمي، أو المتشددون فيه إنكارها، من هؤلاء الذين أنكروا التفسير العلمي الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني رحمه الله أيَّدَ أن خاصية أسلوب القرآن في الحديث عن العلوم الكونية أمر موجود ومعهود فيقول رحمه الله: "إن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات الله الكونية أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال؛ حيث يمر النظم القرآني على سامعيه في كل جيل وقبيل، فإذا هو واضح فيما سيق له من دلالة الإنسان وهدايته إلى الله، ثم إذا هو مجمل التفاصيل يختلف الخلق في معرفة تفاريعه، ودقائقه باختلاف ما لديهم من مواهب، ووسائل، وعلوم وفنون.

ص: 60

ثم قال: "ولنضرب لذلك مثلا تلك الآية الحكيمة وهي قوله عز وجل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} (الذاريات: 49) فإنها مرت على بني الإنسان منذ نزلت إلى الآن، ففهموا منها جميعا أن الله يدل على قدرته وإبداعه وكماله بأنه خلق من الأشياء متنوعات مختلفة الأشكال والخصائص، لكنهم اختلفوا بعد ذلك؛ فالأوائل يُكثر عنهم أن الزوجين في الآية الكريمة هما الأمران المتقابلان معًا لا بخصوص الذكورة والأنوثة، روي عن الحسن: أنه فسر الزوجين بالليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، والحياة والموت، وهكذا. عدد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثيل له، أما المتأخرون: ففهموا أن الزوجين في الآية هما الأمران المتقابلان للذكورة والأنوثة، ويقولون: إنه ما من شيء في الوجود إلا منه الذكر والأنثى، سواء في ذلك الإنسان والحيوان والجماد وغيرها مما لا نعلمه.

ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُون} (يس: 36) ويقولون: إن أحدث نظرية في أصول الأكوان تقرر أن أصول جميع الكائنات تتكون من زوجين اثنين، وبلسان العلم الحديث: إلكترون وبروتون، فإذا عُلم أن التفسير العلمي للقرآن ليس بدعة عصرية، وأنه موجود منذ أن فسر العلماء هذا القرآن الكريم، وإذا عُلم أسلوب القرآن في حديثه عن الكونيات إذا عُلم كل ذلك، وتقرر في الأذهان نقول لهؤلاء الرافضين للتفسير العلمي: إن وظيفة القرآن هي هداية الناس، واستدلالهم على ذلك بقوله:{هُدًى لِلْمُتَّقِين} (البقرة: 2) هو هداية للمتقين. نقول لهؤلاء الرافضين والرد على احتجاجهم: بأن وظيفة القرآن متمثلة في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} هل العلوم الكونية تعتبر إضلالا للناس؟ وهل يعدو الأخذ بالثابت منها إلا وسائل لفهم القرآن واليقين بأنه الحق من الله، كما قال عز وجل:

ص: 61

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} (فصلت: 53). إن لله كتابين بهما يهدي خلقه إليه؛ الكتاب الأول: هو الكتاب المسطور وهو القرآن، والكتاب الثاني: هو الكتاب المنظور وهو الكون العظيم، فلا تعارض بين الكتابين بل كل منهما يفسر الآخر.

أما قوله: إن العلوم الكونية خاضعة للمد والجزر، ولا تثبت على حال فما ثبت بالأمس ينقض اليوم، وما كان باطلا بالأمس يصير حقًا اليوم ويترتب على ذلك إن فسرنا القرآن بهذه العلوم المتقلبة تعريض القرآن لتلك التقلبات، والاضطرابات".

هذه دعوى المعارضين للتفسير العلمي لكن للرد على هؤلاء يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي أشهر البارزين في هذا المجال في كتابه (الإسلام في عصر العلم) 264 إلى 265 يقول: "إن بعض المعترضين على أهل التفسير العلمي لكونيات القرآن يتهمونهم بأنهم يبنون تفسيراتهم على نظريات علمية لم تثبت. وهذا إذا صدق على بعضهم فليس يصدق على جميعه وأغلبهم لا يفسرون النص القرآني وهو الحق إلا بالحقيقة الثابتة في العلم، مدركين أن الدقة والاحتياط لازمان في كل بحث، وأنهما في البحوث القرآنية ألزم منهما حتى في العلوم التجريبية؛ لأن أهل هذه العلوم بعضهم رقيبٌ على بعض، وهي رقابة تكاد تكون معدومة بين الباحثين في القرآن والحديث.

ثم إن أهل العلوم التجريبية عندهم الحكم بينهم الذي لا يخطئُ عند الاختلاف ألا وهو التجربة العلمية، والتحاكم إليها". يعني: هذا المؤلف يقول: إننا نفسر القرآن، أو النص القرآني بالحقيقة الثابتة في العلم وملتزمين بالدقة، والاحتياط ما لم يلتزمه الباحثون في القرآن والحديث، هذا خطأ من هذا المؤلف. ومن هذا

ص: 62

الدكتور؛ لأن الدقة في أبحاث القرآن والحديث موجودة على مدى الحياة، وليس هناك توثيق علمي أدق من التوثيق العلمي في أبحاث القرآن والحديث.

وأيضًا يقول الأستاذ محمد كامل عبد الصمد: "ليس صحيحًا أن النظريات العلمية متغيرة دائمًا إلى الأبد، فلم تصبح نظرية كروية الأرض نظرية متغيرة مؤداها أنها مربعة، أو مثلثة، أو مسطحة، فكل الحقائق الفلكية التي تأكدت بالرصد والتصوير، ومثلها الحقائق الخاصة بالتشريح والفسيولوجيا كل هذه ثوابت، واكتشاف المفسر أنها تتوافق مع القرآن الكريم هو تأييد للقرآن وهو تثبيت للإيمان". يقول هذا في كتابه (الإعجاز العلمي في الإسلام) صفحة 25. ويقول أيضًا: "التفسير العلمي لا يؤثر في ثبات النص القرآني وإعجازه؛ لأن النص الكريم ثابت لا يعتريه تغيير ولا تبديل؛ لأنه محفوظ من الله مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} (الحجر: 9)، فإن بدا عند التحقيق أن مفسرًا قد خرج بالتفسير عن إطارِ مدلولِ الحقيقة القرآنية؛ فإن النقض سيوجه حينئذ إلى هذه التفسيرات عينها، والذي سيرفضه الآخرون هو هذه الآراء البشرية ذاتها، ويبقى للنص القرآني قدسيتُهُ ومهابته، وروعته، وإعجازه دون أن يتأثر شيءٌ من ذلك بتأويل المفسرين العصريين".

أيضًا من الردود على الرافضين للتفسير العلمي أن هناك مبادئ معينة للبحث العلمي بينها لنا القرآن، كما أن هناك قواعد خاصة لقبول هذا النوع من التفسير، فليس الأمر عبثًا، وليس الباب مفتوحًا لمن هبَّ ودَبَّ. وقال كلامًا يريد به تفسير أعظم كتاب عرفه أهل السموات والأرض، هذه القواعد، ومبادئ البحث العلمي التي وضعها القرآن موجودة في قول الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36) هذه الآية تضع للبحث، والباحث ثلاثة أسس:

ص: 63

الأساس الأول: صدق الخبر الذي يستند إليه الباحث، فلا يعتمد على كاذب، أو مضلل، وإلى هذا الأساس يشير قوله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ} . فعلى الباحث إذا استمع يجب أن يكون مصدر سمعه أهل الثقة والصدق وإلا فهو مسئول عما سمع، واعتمد عليه.

الأساس الثاني: التجارب المعملية والمشاهدات المرئية؛ ليتأكد الباحث من سلامة نتائج بحثه، وإلى هذا الأساس يشير قوله:{وَالْبَصَرَ} .

الأساس الثالث: ما يتوصل إليه العقل البشري من خلال التفكير والتدبر فيما ليس فيه خبر عن ثقة، أو تجربة متاحة، وإلى هذا الأساس يشير قوله:{وَالْفُؤَادَ} . وإلى جانب هذه الأسس وضع الإسلام مبادئ عامة لا بد من توافرها لتؤدي الأبحاث دورها المنشود منها وتؤتي الثمار المرجوة لها، من هذه المبادئ: حرية التفكير، وعدم التقليد الأعمى.

أما المبدأ الأول: وهو حرية التفكير، فقد وسع الإسلام دائرتها؛ بحيث لا تقتصر على البحث العلمي فقط، بل جعلها شاملة لكل شيء حتى في اعتناق الإسلام ذاته قال تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة: 256). وحينما شرع الإسلام للإنسان حرية التفكير؛ فإنه راعى في ذلك ناحيتين، الناحية الأولى: تكوين عقول الناس فهذا التكوين مكرم من الله عز وجل، الناحية الثانية: عدم إيجاد مؤثرات، وضغوط خارجية تؤثر على عقل الإنسان أيًا كانت تلك المؤثرات، وأيًّا كانت تلك الضغوط، فبعض الناس قد تقف أمامهم عقائد معينة، أو أنظمة خاصة تؤثر على تفكيرهم، وطريقة اختيارهم فأراد الله عز وجل ألا يجعل لذلك كله ميزانًا في اختيار ما يراه الإنسان صوابًا بعد مراعاة أسس البحث العلمي.

ص: 64

أما المبدأ الثاني: عدم التقليد الأعمى؛ فإن هذا التقليد ينافي الوصول إلى الحقيقة، ولقد نعى الله على الكفار هذا التقليد حيث قال:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 170، 171). واعتبر القرآن التقليد الأعمى للغير إنما يقود للخطأ، وربما يهوي بالإنسان إلى أسوأ مآل. قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان: 21). إن حرية التفكير وتقدير الإنسان لعقله وذاته هي التي تميزه عن كائن آخر ألقى قياده لآخر يسخره كيفما شاء ويستخدمه كيفما يشاء.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 65