الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
149/ 2/ 29 - عن أبي مسعود -عقبة بن عمرو- الأنصاري البدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئًا فصلوا، وادعوا، حتى ينكشف ما بكم"(1).
الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في باب الإِمامة.
والآية: العلامة.
والخوف: غم على ما سيكون.
والحزن: غم على ما مضى (2).
الوجه الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس
(1) البخاري (1041، 1057، 3204)، ومسلم (911)، والشافعي (1/ 180)، وابن ماجه (1261) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الكسوف، والنسائي (3/ 126).
(2)
المغرب (2/ 389).
والقمر آيتان من آيات الله" معناه إنهما علامتان كما قدمناه دالتان على عِظم قدرة الله وقهره، وكمال إلاهيته، وإنما خصهما بالذكر لما وقع للجاهلية من أنهما لا يخسفان إلَّا لموت عظيم، أو ضرر أو نقص ونحوها، لأن بعضهم كان يعظمهما وهذا لا يصدر إلَّا ممن لا علم له ضعيف العقل، مختل الفهم، فرد عليه الصلاة والسلام جهالتهم، وبين أنهما مخلوقان لا صنع لهما كسائر المخلوقات، يطرأ عليهما النقص والتغيير كغيرهما، وتضمن ذلك الرد على من قال بتأثيرات النجوم، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان، فقال: "يخوّف الله بهما عباده" أي أنه ينبغي للعباد الخوف عند وقوع التغيرات العلوية قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} (1).
فإن قيل: وأي تخويف من ذلك والكسوف أمر عادي، بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض، وذلك يجري مجرى
حجب الجسم الكثيف نور الشمس عما تقابله من الأرض وذلك لا يحصل به تخويف (2).
فالجواب: ما ذكره القرطبي (3) وغيره: أنّا لا نسلم أن سبب
(1) سورة الإِسراء: آية 59.
(2)
قال ابن العربي -رحمنا الله وإياه- في القبس (1/ 380): قلنا طلوع الشمس وغروبها آية، والسموات والأرض كلها آيات، إلَّا أن الآيات على ضربين منها مستمر عادةً فيشق أن يحدث لها عبادة، ومنها ما يأتي نادرًا فشرع للنفس البطّالة الآمنة التعبد والرهبة عند جريان ما يخالف الاعتياد ذكرى لها وصقلًا لصريرها. إهـ.
(3)
المفهم (3/ 1519).
الكسوف ما ادعوه، ومن أين عرفوا ذلك، أبالعقل أو بالنقل؟ وكل واحد منهما إما بواسطة نظر أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة، وغايتهم أن يقولوا. ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية تفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع أيضًا ما ذكروه إلى القطع وهو أوّل المسألة، ولئن سلمنا ذلك جدلًا لكنا نقول يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة،
أوضحها: أن ذلك مُذَكِّرٌ بالكسوفات التي تقع بين يدي الساعة، ويمكن أن [يكون](1) ذلك الكسوف منها، ولذلك قام عليه الصلاة والسلام فزعًا يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا؟ وقد قال تعالى:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} (2) قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما. وقيل: غير ذلك وأيضًا فإن كل ما في العالم علويه وسفليه دليل على تفرد قدرة الله وتمام قهره باستغنائه، وعدم مبالاته، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3). فاصحاب المراقبة له ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعظيم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن اسبابها إذا وقع عندهم شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى على ما يشاء، وذلك لا يمتنع أن يكون ثم أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
سورة القيامة: آيات 7 - 9.
(3)
سورة فاطر: آية 28. إلى هنا ينتهي نقله من المفهم.
خرقها (1). ولهذا كان عليه الصلاة والسلام عند اشتداد هبوب الريح يتغير، ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد (2) وإن كان
(1) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (24/ 259): وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنهما سبب لنزول عذاب الله بالناس، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه، وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفًا، قال تعالى:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} وأمر صلى الله عليه وسلم بما يزيل الخوف أمر بالصلاة والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق، حتى يكشف ما بالناس وصلى بالمسلمين صلاة طويلة.
(2)
البخاري في تفسير سورة الأحقاف، باب: فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم، وفي الأدب، باب: التبسم والضحك، ومسلم (899) في الاستسقاء، باب: التعوذ عبد رؤية الريح والغيم، والبغوي (4/ 389) من حديث عائشة، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ "كان إذا هاجت الريح استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه ومد يديه"
…
إلخ الحديث.
قال الصنعاني في حاشيته على أحكام الأحكام (3/ 187): أقول: فرق بين المشبّه والمشبه به، فإن الله -تعالى- قد عرفنا بالأمرين في الريح بأنها تكون رحمة وقد تكون عذابًا، فتحصل الخشية عند هبوبها، بخلاف الكسوف فإنه لم يعرفنا إلَّا أنه يكون تخويفًا، ولم يعرفنا أنه يكون لأجل الحساب، نعم لو ثبت عن الشارع ما ثبت في الريح وقلنا به وحملناه عليه، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ريح يفزع عند هيجانها "اللهم اجعلها ريح رحمة ولا تجعلها عذابًا" لأنها قد عرفت بالأمرين، وأما الكسوف فإنه أخبر بأنه تخويف لا غير وأمر العباد أنهم إذا رأوه صلوا ودعوا حتى ينكشف ما بهم في كل كسوف اتفق.
هبوب الريح موجودًا في العادة، فيكون لله تعالى أفعال خارجة عن كل الأسباب، وأفعال جارية على الأسباب، وقدرته سبحانه وتعالى حاكمة على كل سبب، فيقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وخص خسوفهما بالتخويف، لأنهما أمران علويان نادران طارئان [عظيمان، والنادر العظيم مخيف موجع، بخلاف ما يكثر وقوعه فإنه](1) لا يحصل منه ذلك غالبًا، وأيضًا [لما] (2) وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدهما ولما وقع للجهال من المنجمين وغيرهم من اعتقاد تأثيرها حتى قالوا: كسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة والسلام: هذا الكلام ردًّا عليهم.
الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا رأيتم منها شيئًا" الضمير في "منها" عائد على الآيات في قوله: "من آيات الله".
ومعنى "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" بادروا بالصلاة والدعاء، وأسرعوا إليهما حتى يزول عنكم هذا العارض، الذي يخاف كونه مقدمة عذاب أو وجود عذاب، ولا شك أن الله -تعالى- امتن على البشر بالشمس والقمر ونورهما، ووصف القمر بالنور، والشمس بالسراج. فإذا زال ذلك أو تغير فهو عذاب حاضر، سواء عاد نورهما أو لم يعد، لكن عدم عودهما أشد عذابًا لما يدل
على قرب الساعة وأهوالها. فالإِسراع إلى الصلاة والدعاء سبب رفع البلاء غالبًا.
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
في الأصل ون د (فلما).
الثالث: في أمره عليه الصلاة والسلام بالصلاة والدعاء جميعًا ما يدل على أن المراد بالصلاة: الصلاة الشرعية للكسوف، لجمعه في الأمر بينهما، فلو كان المراد بالصلاة الدعاء الذي به سميت الصلاة لما حسن [ذلك](1)، فدل على ما ذكرنا، وإذا كان كذلك فيقتضي الأمر بهما أن يكون غاية فعلهما إلى الانجلاء.
[وقال](2) الفقهاء: إذا صليت صلاة الكسوف على الوجه المشروع، ولم يقع [الانجلاء](3) أنها لا تصلى ثانيًا، بخلاف صلاة
الاستسقاء فانهم إذا لم يسقوا صلوا ثانيًا وثالثًا.
قال الشيخ تقي الدين (4): وليس في الحديث ما يدل على خلاف ما ذكره الفقهاء من عدم إعادة صلاة الكسوف إذا صليت ولم
تَنْجَلِ لوجهين.
أحدهما: أنه أمر بمطلق الصلاة، لا بالصلاة على هذا الوجه المخصوص. ومطلق الصلاة سائغ إلى حين الانجلاء.
الثاني: لو سلمنا أن المراد الصلاة الموصوفة بالوصف المذكور لكان لنا أن نجعل هذه الغاية لمجموع الأمرين (5) أعني
(1) زيادة من ن ب د.
(2)
في الأصل (وقالت)، وما أثبت من ن ب د.
(3)
في ن ب (انجلاء).
(4)
إحكام الأحكام (3/ 188).
(5)
قال الصنعاني في حاشيته (3/ 188): قوله "لمجموع الأمرين" أقول: الاحتمالات ثلاثة: أن يكون غاية لهما معًا، غاية للصلاة على انفرادها، غاية لله على انفراده، والأظهر عودة إلى الكل وتخصيص أحد الأمرين =
الصلاة والدعاء، ولا يلزم من كونها غاية لمجموع الأمرين أن تكون غاية لكل واحد منهما على انفراده، فجاز أن يكون الدعاء ممتدًا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة على الوجه المخصوص مرة واحدة [ويكون](1) غايةً [للمجموع](2).
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا رأيتم منها شيئًا" إلى آخره فيه دليل للشافعي وأحمد وجميع فقهاء أصحاب الحديث في استحباب الصلاة لكسوف القمر على هيئة صلاة كسوف الشمس. وروي ذلك عن جماعة من الصحابة وغيرهم.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يسن لكسوف القمر هكذا، وإنما يسن ركعتان كسائر الصلوات فرادى (3).
وقال أشهب من المالكية: بجواز الجمع لها وكرهه بعضهم إذ لم يستمر العمل عليه.
وقال عبد العزيز (4) بن أبي [سلمة](5) يصلي على هيئة كسوف الشمس.
= دون الآخر لا بد له من دليل، وقوله صلى الله عليه وسلم "فصلوا" مطلق يصدق على الكسوف وهي الأقرب هنا وعلى غيرها من النوافل.
(1)
في ن ب ساقطة.
(2)
زيادة من ن ب د، و"إحكام الأحكام".
(3)
انظر: الاستذكار (7/ 107).
(4)
انظر: الاستذكار (7/ 107).
(5)
في الأصل (مسلمة)، وما أثبت من ن ب د.
[وقد اختلف عندهم في أقوال عبد العزيز هل تضاف إلى المذهب أم لا؟](1).
واختلف قول مالك في الخروج لصلاة [خسوف](2) القمر إلى المسجد والمعروف عندهم كما قال الفاكهي: سقوط ذلك للمشقة، وعلله غيره بأنه لم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام جمع له، وهو عجيب، ففي "صحيح ابن حبان" (3) من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا انكسف أحدهما فافزعوا إلى المساجد".
الخامس: فيه استحباب المبادرة إلى الخير وأعمال البر والتضرع إذا حدثت آية، وروت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم "بالعتاقة في كسوف الشمس". رواه البخاري (4). قال الحاكم: وهو على شرط مسلم أيضًا. وروى ابن
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
في ن ب (كسوف).
(3)
ابن حبان (2829، 2838)، وابن خزيمة (1389، 1392، 1393)، والحاكم (1/ 329)، وأبو داود (1194)، وأحمد (2/ 159)، والنسائي (3/ 137، 139). قال أبو حاتم في الإِحسان في تقريب صحيح ابن حبان (7/ 69): أمر في هذا الخبر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر، وهو المقصود، فأطلق هذا المقصود على سببه، وهو المساجد، لأن الصلاة تتصل فيها، لا أن المساجد يستغنى بحضورها عند كسوف الشمس أو القمر دون الصلاة، قال ابن حجر في فتح الباري (2/ 548).
(4)
البخاري (86، 184، 922، 1053، 1054، 1061، 1235، 1373، =
عباس مرفوعًا "إذا رأيتم آية فاسجدوا". رواه أبو (1) داود وهذا يشمل الكسوف وغيره كالزلزلة ونحوها، وبمقتضاه قال راويه وابن مسعود وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم. وكذلك الصلاة عند الصواعق والرياح الشديدة، والظلمة المنتشرة في الأفق نهارًا (2). ونص الشافعي ومالك على استحباب الصلاة فرادى لغير الكسوفين (3). وروي عن علي أنه صلى في زلزلة جماعة (4). قال الشافعي (5) إن صح قلت به فمن أصحابنا من قال هذا قول آخر له في
= 2519، 2520، 2287)، والحاكم (1/ 331)، وأبو عوانة (2/ 369)، وأبو داود (1192)، وأحمد (6/ 345)، وابن خزيمة (2/ 329)، والبيهقي (3/ 340)، والبغوي في شرح السنة (4/ 384).
(1)
أبو داود (1197) في الصلاة، باب: السجود عند الآيات، والترمذي (3889) في المناقب، في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحسنه، والبغوي (1156).
(2)
انظر الأم (1/ 218)، وكشف الصلصلة عن وصف الزلزلة للسيوطي (52).
(3)
قال الشافعي: ولا آمر بصلاة جماعة في آية سواهما -يعني: سوى خسوف الشمس والقمر- وآمر بالصلاة منفردين. اهـ، من شرح السنة للبغوي (4/ 284)، والبيهقي في السن (3/ 343)، وفي المعرفة (5/ 157)، والشافعي في الأم (7/ 168)،
(4)
الشافعي في الأم (7/ 168)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 472)، والبيهقي في السنن (3/ 343)، وفي المعرفة (5/ 157)، والمغني (3/ 332).
(5)
الأم (7/ 168).
الزلزلة وحدها، ومنهم من عممه في جميع الآيات، ولم يصح ذلك عن علي، [ولو ثبت](1) فهو محمول على الصلاة منفردًا، وكذا كل ما جاء عن غير علي من نحو هذا.
السادس: فيه أيضًا دليل على التنبيه بالاعتبار بآيات الله وحدوث ظهورها، وعلى عظيم قدرته وإلهيته سبحانه وتعالى وعلى أن الكواكب لا فعل لها ولا تأثير، كما سلف، وإنما هي علامات، وعلى الرجوع إلى الله -تعالى- عند الحوادث المخالفة للعادة بالصلاة والدعاء كما سلف، خصوصًا إذا خشي زوال نعم الله فيها، وعلى شرعية صلاة الكسوف كما سلف، والتوجه إلى الله -تعالى- عنده، وعلى وجوب البيان للأمور خصوصًا إذا اعتقد خلاف الصواب فيها، وعلى الاجتهاد في السؤال لله -تعالى-، والعبادة حال وجود الحوادث حتى تزول.
(1) في ن ب (ولم يثبت).