المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الحادي عشر - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٤

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌25 - باب الجمع بين الصلاتين بالسفر

- ‌26 - باب قصر الصلاة في السفر

- ‌27 - باب الجمعة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌29 - باب صلاة الكسوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث [الرابع]

- ‌30 - باب صلاة الاستسقاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌31 - باب صلاة الخوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الجنائز

- ‌32 - باب الجنائز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

الفصل: ‌الحديث الحادي عشر

‌الحديث الحادي عشر

167/ 11/ 32 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، وكانت أم سلمة، وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة -فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها- فرفع رأسه فقال:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"(1).

الكلام عليه من سبعة عشر وجهاً:

أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في الطهارة.

وأم سلمة: تقدمت ترجمتها في باب الجنابة، وأن اسمها هند. وقيل رملة.

وأم حبيبة: سيأتي التعريف بها في كتاب النكاح إن شاء الله، واسمها رملة على المشهور.

(1) البخاري (422، 434، 1341، 3878)، ومسلم (528)، والبغوي (509)، وأبو عوانة (1/ 400، 401)، وأحمد (6/ 121، 255)، وابن حبان (3181)، والبيهقي (4/ 80)، وابن أبي شيبة (4/ 140)، والنسائي (2/ 41).

ص: 486

وقولها: "ذكر بعض نسائه" المراد به أم حبيبة وأم سلمة كما بينته بعد.

ثانيها: "اشتكى" افتعل من الشكوى، ومعناه مرض وهو لفظ يستعمل في المرض على اختلاف أنواعه يقال: اشتكى عينه، واشتكى رأسه، واشتكى بطنه. ومنه الحديث (1) الآتي في بابه "أن ابنتي اشتكت عينها أفنكحلها".

ثالثها: هذا المرض، والله أعلم [مرض](2) موته الذي مات فيه، كما جاء مفسراً في الحديث الذي بعده وهو قولها:"في مرضه الذي لم يقم منه"(3)، وفي صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "ألا! فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك"(4).

رابعها: الكنيسة بفتح الكاف وكسر النون متعبد النصارى، وجمعها كنائس كصحيفة وصحائف.

وأما البيع: فقيل: كنائس النصارى.

(1) في كتاب العدة.

(2)

في ن ب ساقطة.

(3)

سيأتي في الحديث الذي بعده.

(4)

أخرجه مسلم (532)، وأبو عوانة (2/ 401)، والنسائي في التفسير في الكبرى، تحفة الأشراف (2/ 443).

ص: 487

وقيل: اليهود واحدتها بِيعَة بكسر الباء (1).

وأما الصوامع (2): فهي مواضع العبادة كانت قبل الإِسلام مختصة برهبان النصارى وعباد الصابئين. قاله قتادة، ثم استعمل في مأذنة المسلمين (3).

وأما الصلوات: فقيل إنها مشتركة لكل ملة (4).

قال ابن عطية (5): وذهبت طائفة إلى أن الصلوات اسم لشرائع

(1) انظر: المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب (78)، والمعرب للجواليقي (207).

(2)

الصوامع: بناء يتخذه النصارى للعبادة يكون رأسه دقيق. اهـ. القاموس المحيط، باب: العين فصل الصاد (2/ 53)، وبصائر ذوي التمييز (3/ 380)، والعمدة في غريب القرآن لمكي (213)، وتحفة الأريب لأبي حيان (199)، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى، يقال: صمّع الثريدة أي رفع رأسها وحدّده، ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة

إلخ. وهي منازل الرهبان وبيوتهم.

(3)

القرطبي (12/ 71)، والمحرر الوجيز لابن عطية (11/ 206).

(4)

غرائب التفسير للكرماني (761)، وغريب القرآن لابن الملقن (264)، والعمدة في غريب القرآن لمكي (213)، وتحفة الأريب لأبي حبان (202)، وتفسير المشكل من غريب القرآن لمكي (161)، والمعرب للجواليقي (419)، والمهذب فيما وقع في القرآن من المعرب (107). انظر: تعليق أحمد شاكر على المعرب للجواليقي (211)، حيث لم يرتضى هذا التفسير.

(5)

العبارة كما هي في المحرر الوجيز (11/ 206): وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم "لشرائع" في المطبوع تحرفت إلى "شفاعة"، فليتنبه، وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجمع صلاة. وقال أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. اهـ.

ص: 488

اليهود وأن اللفظة عربت صلاة.

وقال أبو العالية: إنها مساجد الصابئين كالمساجد للمسلمين. قال ابن عطية (1): وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلَّا البيعة، فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب، والمساجد للمسلمين.

خامسها: "مارية" بكسر الراء وفتح الياء المثناة تحت مخففة الكنيسة المذكورة، وممن نص على تخفيف الياء صاحب المشارق (2).

قال ابن العطار في "شرحه": "مارية": -بكسر الراء وفتح المثناة- تحت، الخفيفة الكسر والفتح فيهما.

سادسها: في الحديث دليل على تحريم تصوير الحيوان خصوصاً الآدمي الصالح، سواء كان التصوير في حائط أو ثوب أو ورق أو مجسداً قائماً بذاته. والأحاديث في الصحيح تدل لما ذكرناه: منها "لعن الله المصورين"(3)، ومنها "أشد الناس عذاباً يوم

(1) قال ابن عطية -رحمنا الله وإياه- في المحرر (11/ 206): قال القاضي: وذهب خصيف إلى أن هذه. الأسماء قصد بها متعبدات الأمم، والصوامع للرهبان، وقيل: للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين.

(2)

مشارق الأنوار (1/ 397).

(3)

البخاري (2086، 2238، 5347، 5945، 5962)، وأبو داود (3/ 338) في البيوع، باب: في أثمان الكلب، وأبو يعلى (890)، وأحمد (4/ 308، 309)، والطيالسي (1043، 1045)، وابن حبان (5852)، والبغوي (8/ 25).

ص: 489

القيامة المصورون" (1)، وفي الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين" (2). قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح (3). وقال -تعالى-: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} (4). ولقد غلط من حمل التحريم على المسجد القائم بذاته حيث إنه شبهت الأصنام، وأبعد من ذلك حمل الأحاديث على كراهة التنزيه (5) وأن التشديد الوارد في التصوير إنما

(1) عن عائشة البخاري (5954. 5955، 2479، 6109)، ومسلم (2107)، والنسائي (8/ 213)، وابن ماجه (3653)، والبيهقي (4/ 283، 284)(7/ 269، 270)، والدارمي (2/ 284)، وأبو يعلى (4404، 2438، 4468، 4469)، والبغوي (12/ 128)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 283، 284)، وعبد الرزاق (19484)، وأحمد (6/ 199، 229)، ومن رواية ابن مسعود عند أحمد (1/ 375، 407، 426)، والحميدي (251)، والطيالسي (1848) عن عائشة.

(2)

أحمد (8411)، والترمذي (4/ 702).

(3)

فيه اختلاف في اللفظ بين تحفة الأشراف (9/ 363)، والسنن.

(4)

سورة النمل: آية 60.

(5)

قد تواترت الأدلة الكثيرة على تحريم التصوير والأمر بطمسها والنهي عن اتخاذها والوعيد الشديد على المصورين وعدم دخول الملائكه بيتاً فيه صورة، لأن فيه مضاهاة لخلق الله. قال البخاري رحمه الله بعد سياق الإسناد: قال أبو زرعة: دخلت مع أبي هريرة داراً بالمدينة، فرأى في أعلاها مصوراً يصور، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله =

ص: 490

كان في ذلك لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان. وهذا الزمان انتشر الإِسلام وتمهدت قواعده فلا تساويه في المعنى ولا في التشديد في التحريم (1) وكل من القولين باطل حيث أخبر الشارع بعذاب المصورين يوم القيامة: "وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"(2) وذلك مخالفاً لمقالتهم، كيف وقد صرح بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام في وصف المصورين: إنهم لمشبوهون لخلق الله. وهذه علة عامة مستقلة [شاملة](3) مناسبة لا تخص زمناً دون زمن، وليس لنا التصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة الصريحة بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون مراداً مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبيه بخلق الله، وقد يؤخذ من قوله عليه الصلاة والسلام والمشبهون بخلق الله: تحريم تصوير غير الحيوان مطلقاً، إذ الكل

= -تعالى-: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة"، وقال: بعد سياقه لإسناد حديث: أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاوير إلَّا نقضه، وعنها قالت: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر وعلقت درنوكاً فيه تماثيل، فأمرني أن أنزعه فنزعته"، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون"، قال البخاري: باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة: وفيه حديث ابن عمر: فقال: "إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب".

(1)

انظر: كلام الشيخ صالح الفوزان في كتابه الإِعلام بنقد كتاب الحلال والحرام (47)، وكلام الشيخ أحمد شاكر في المسند (7166).

(2)

انظر التعليق ت (5) ص (490).

(3)

زيادة من ن ب د.

ص: 491

خلق الله -تعالى- (1).

(1) وقد نقل ابن حجر رحمه الله وجهاً بالمنع من تصوير الأشجار عن أبي محمد الجويني، لأن من الكفار من عبدها، قلت: ولا يلزم من تعذيب من صور ما فيه روح بما ذكر تجويز تصوير ما لا روح فيه، فإن عموم قوله:"الذين يضاهون بخلق الله" وقوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"، يتناول ما فيه روح وما لا روح فيه، فإن خص ما فيه روح بالمعنى من جهة أنه مما لم تجر عادة الآدميين بضعته وجرت عادتهم بغرس الأشجار مثلاً امتنع ذلك في مثل تصوير الشمس والقمر، ويتأكد المنع بما عبد من دون الله، فإنه يضاهي صورة الأصنام التي هي الأصل في منع التصوير، وقد قيد مجاهد صاحب ابن عباس جواز تصوير الشجر بما لا يثمر وأما ما يثمر فألحقه بما له روح، قال عياض: لم يقله أحد غير مجاهد، ورده الطحاوي بأن الصورة لما أبيحت بعد قطع رأسها التي لو قطعت من ذي الروح لما عاش دل على إباحة ما لا روح له أولاً قلت: وقضيته أن تجويز تصوير ما له روح بجميع أعضائه إلَّا الرأس فيه نظر لا يخفى، وأظن مجاهداً سمع حديث أبي هريرة الماضي ففيه:"فليخلقوا ذرة، وليخلقوا شعيرة" فإن في ذكر الذرة إشارة إلى ماله روح وفي ذكر الشعيرة إشارة إلى ما ينبت مما يؤكل، وأما لا روح فيه ولا يثمر فلا تقع الإِشارة إليه. اهـ، من فتح الباري (10/ 394).

وأيد الصنعاني رحمه الله في حاشيته على الأحكام (3/ 256)، وتفسير القرطبي (13/ 221، 222)(14/ 238)، ما ذهب إليه مجاهد قال: والحق مع مجاهد لعموم الدليل، ولا نسلم خصوص:"أحيوا ما خلقتم" بذوات الروح، وأي روح في الشعيرة فلا بد أن يراد ما لحياة ما أسلفناه، وفتيا ابن عباس اجتهاد منه

إلخ. اهـ. وقد ورد في حديث عند ابن ماجه (3652) ولفظه عن أبي أمامة: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن زوجها في بعض المغازي فاستأذنته أن تصور في بيتها نخلة، =

ص: 492

ولنبين الحكم في مسألة التصوير فنقول:

مذهب مالك: إن الصور إن كانت تماثيل على صفة الإِنسان أو غيره من الحيوان فلا يحل فعلها ولا استعمالها في شيء أصلاً، وإن كانت رسماً في حائط أو رقماً في ثوب (1) ينشر ويبسط أو وسائد

= فمنعها أو نهاها"، قال في الزوائد (4/ 94): هذا إسناد فيه عفير بن معدان وهو ضعيف.

(1)

قال النووي في شرح مسلم (14/ 85)، حيث قال بالاستثناء الوارد في الحديث:"إلَّا رقماً في ثوب"، ورده على المستدلين به، قال: هذا يحتج به من يقول: بإباحة ما كان رقماً مطلقاً، وجوابنا وجواب الجمهور عنه، أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس بحيوان وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا. اهـ.

وقال ابن حجر في الفتح (10/ 391): ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي، كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن، وسأذكره في الباب الذي يليه، وقال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإِجماع، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب "إلَّا رقماً في ثوب". الثاني: المنع مطلقاً حتى الرقم. الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح. الرابع: إن كان مما يمتهن جازوا وإن كان معلقاً لم يجز.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في كتابه: الجواب المفيد في حكم التصوير: "وأما قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف: "إلا رقماً في ثوب" فهذا استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصوير، وذلك واضح من سياق الحديث والمراد بذلك إذا كان الرقم في =

ص: 493

يرتفق بها للاتكاء عليها فهي مكروهة.

وقيل: محرمة.

قال القاضي أبو بكر: وقد قيل: إن الذي يمتهن من الصور يجوز وما لا يمتهن لا يجوز، لأن الجاهلية كانت تعظم الصور فما يبقى فيه جزء من التعظيم والارتفاع يمنع، وما يمتهن فهو مباح، لأنه ليس مما كانوا فيه (1).

وحكى القرطبي عن بعضهم تفصيلاً: إن التصوير على صفة غير الحيوان جائز: كالأشجار ونحوها، وعلى صفته حرام إن كان له ظل بشروط أربعة: أن يكون قائماً بنفسه، وأن يكون على صفة ما يحيي، وأن يكون كامل الخلقة، وأن يكون مما يسرع إليه الفساد.

= ثوب ونحوه يبسط ويمتهن، ومثله الوسادة الممتهنة كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر وجعله وسادة أو وسادتين. وحديث أبي هريرة وقول جبربل للنبي صلى الله عليه وسلم: فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة لشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان" إلخ، ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار، أو نحو ذلك لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر ووجوب إزالته أو هتكه، كما تقدم ذكرها الفاكهي. وحديث أبي هريرة صريح في منع دخول الملائكة في مثل هذا الستر حتى يبسط أو يقطع رأس التمثال فيكون كهيئة الشجرة

إلخ. وانظر: كتاب الأعلام بنقد كتاب الحلال والحرام للشيخ صالح الفوزان.

(1)

انظر: شرح مسلم للنووي، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان (14/ 75)، وفتح الباري (10/ 388، 390)، والجواب المفيد في حكم التصوير للشيخ عبد العزيز بن باز.

ص: 494

وقال أصبغ: يجوز مثل الحلوى ونحوها.

قال ابن رشد: وهو بعيد عن القياس والنظر فإن كان له ظل فثلاثة أقوال: ثالثها إباحة ما عدا المرسوم منها في الجدر.

وقيل: في الجدر والستور.

ومذهب الشافعي رضي الله عنه: أنه يحرم تصوير حيوان على حائط وبيت، ولا أجرة لفاعله. وكذا في ثياب على الأصح، وطرد المتولي الخلاف في الأرض ونحوها. وقد بسطت المسألة بفروعها والخلاف فيها في شرحي "المنهاج والتنبيه" فليراجع منهما.

قال القرطبي: وقد استثنى من هذا الباب لعب البنات لقصة عائشة (1) في الصحيح.

(1) قال الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه (1/ 180): ومن زعم أن لعب عائشة رضي الله عنها صور حقيقية لذوات الأرواح فعليه إقامة الدليل ولن يجد إلى ذلك سبيلاً، فإنها ليست منقوشة ولا منحوتة ولا مطبوعة من المعادن المنطبقة ولا نحو ذلك، بل الظاهر أنها من عهن أو قطن أو خرق أو قصبة، أو عظم مربوط في عرضه عوداً معترضاً بشكل يشبه الموجود في اللعب في أيدي البنات الآن في البلدان العربية البعيدة عن التمدن والحضارة مما لا يشبه الصورة المحرمة إلَّا بنسبة بعيدة جدًّا لما في صحيح البخاري من أن الصحابة يُصَوِّمُون أولادهم. فإذا طلبوا الطعام أعطوهم اللعب من العهن يعللونهم بذلك

إلخ.

وينبغي أن يتنبه المسلم للفرق بين اللعب المذكورة في الحديث مع ما تطرق دليل الجواز من الاحتمالات التي قيل إنها قيل التحريم وأنه منسوخ -فقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم في الموضع السابق بعد سؤال وجه =

ص: 495

قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك، والتدريب على تربية الأولاد، ثم إنه [لا بقاء] (1) لذلك قال: وكذلك ما يصنع من الحلوى والعجين لا بقاء له فرخص في ذلك.

قال القرطبي: ولم يختلفوا في أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة، وكذا ما كان خرطاً أو نقشاً في البناء، واستثنى ما كان رقماً في ثوب، كما جاء في الحديث.

قلت: وحمل على ثوب عليه صورة غير ذات روح جمعاً بين الأحاديث.

وقال ابن العربي: خص الرقم من جملة التصوير بالحديث المذكور. ثم ثبتت الكراهة فيه بقوله لعائشة: "أخريه عني" فقطعته

= إليه عن لعب البنات الموجودة في هذا الوقت: نعم يختلف حكم هذه الحادثة الجديدة عن حكم لعب عائشة رضي الله عنها، لما في هذه الحادثة الجديدة من حقيقة التمثيل والمضاهاة والمشابهة بخلق الله -تعالى- لكونها صوراً تامة بكل اعتبار، ولها من المنظر الأنيق والصنع الدقيق والرونق الرائع ما لا يوجد مثله، ولا قريب منه في الصور التي حرَّمتها الشريعة المطهرة، وتسميتها لعباً وصغر أجسامها لا يخرجها عن أن تكون صوراً، إذا العبرة بحقائقها لا بأسمائها، فكما أن الشرك شرك وإن سماه صاحبه استشفاعاً وتوسلاً، والخمر خمر وإن سماها صاحبها نبيذاً، فهذه صور حقيقة وإن سماها صانعوها لعب أطفال، وفي الحديث:"يجيء في آخر الزمان أقوام يستحلون الخمر ويسمونها بغير اسمها"

إلخ. انظر: مبحث في مجلة البحوث العلمية والإِفتاء (11/ 263).

(1)

في ن ب (يقال).

ص: 496

وسادتين حتى تغيرت الصور، وخرجت عن هيئتها. فتبين جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب، ثم نسخه المنع منه، وهكذا استقر الأمر فيه.

خاتمة: قال القرطبي في تفسير (1) قوله -تعالى-: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} أن التماثيل جمع تمثال وحكى فيها أقوالاً.

أحدها: أنها كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان وهو كل ما صور على مثل صورة غيره من حيوان أو غيره، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء وكانت تصور في المساجد ليراها الناس ليزدادوا عبادة واجتهاداً. ومنه الحديث الذي نحن فيه:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور" أي ليذكروا عبادتهم فيجتهدوا.

قلت: فلما جاء من بعدهم لم يفهموا أغراضهم فعبدوها. فهذا أصل عبادة الأصنام كما نبه عليه القاضي وما أسلفناه يدل على أن التصوير كان مباحاً في ذلك الزمان، وبه صرح أبو العالية، ونسخ ذلك بشرعنا (2).

(1) تفسير القرطبي (14/ 238).

(2)

قال ابن حجر في الفتح (10/ 382)، بعد سياقه قريباً من كلام المؤلف قال بعده: ويحتمل أن يقال: إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملاً لم يتعين الحمل على المعنى =

ص: 497

ثانيها: أنها طلسمات كانت تعمل ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها، فيعمل تمثالاً للذباب والبعوض [والتماسيح](1) في مكان ويأمرهم أن لا يتجاوزه [فلا يتجاوزه](2) أبداً ما دام ذلك التمثال قائماً.

ثالثها: أنها رجال اتخذوهم من نحاس، وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله فلا يحتك فيهم السلاح، ويقال: إن اسفنديار كان منهم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان إليه ذراعيهما وإذا قعد ظلله النسران بأجنحتهما.

= المثسكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة الكنيسة التي بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:"كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئِك شرار الخلق عند الله"، فإن ذلك يشعر بأنه لو كان جائزاً في ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدل على أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عباد الصور، والله أعلم.

قال أبو بكر بن العربي: "والذي أوجب النهي في شريعتنا -والله أعلم- ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون فقطع الله الذريعة، وحمى الباب".

وكلام الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (277)، فإن فيه ما يشفي ويكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع، وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن (229).

(1)

في ن ب د (أو للتماسيح).

(2)

زيادة من ن ب د.

ص: 498

وحكى مكي في الهداية: أن فرقة تجوّز الصور، وتحتج بهذه الآية، وقد تقدم وهن ذلك.

الوجه السابع: في الحديث دليل أيضاً على منع بناء المساجد على القبور، وهو منع يقتضي التحريم، كيف وقد ثبت في الحديث الآتي (1) "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقوله:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد"(2)، وقد استجاب الله دعاءه فله الحمد والمنة.

وأما الشافعي والأصحاب فصرحوا بالكراهة قال البندنيجي: والمراد أن يسوي القبر مسجداً فيصلى فوقه وقال: إنه يكره أن يبنى عنده مسجداً فيصلي فيه إلى القبر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"(3). رواه مسلم في صحيحه.

(1) سيأتي تخريجه بعد هذا الحديث.

(2)

مالك في الموطأ (1/ 172)، وعبد الرزاق (1/ 406)، وابن أبي شيبة (3/ 345)، وأحمد (2/ 246)، والحميدي (1025)، وصححه البزار وابن عبد البر كما في تنوير الحوالك (1/ 186)، والزرقاني (1/ 351)، وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة (6/ 283، 7/ 317)، وابن سعد في الطبقات (2/ 240، 241)، مرسلاً عن عطاء. وانظر المسند برقم (7352)، تحقيق أحمد شاكر. وانظر كلام الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (294)، وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن (229)، كما قال ابن القيم -رحمة الله تعالى- علينا وعليه:

فأجاب رب العالمين دعاءه

وأحاطه بثلاثة الجدران

حتى غدت أرجاؤه بدعائه

في غزة وحماية وصيان

(3)

مسلم (972) في الجنائز، والترمذي (1050، 1051) في الجنائز، =

ص: 499

وخالف أبو حنيفة فقال: يباح البناء على القبور وتجصيصها. وقيل لمحمد بن عبد الحكم: في الرجل يوصي أن يبنى على قبره فقال: لا، ولا كرامة.

قال [(1)] القاسم في العتبية: كره مالك أن يرصص على القبور بالحجارة والطين، وأن يبنى عليها بطوب أو أحجار. قال: وكره المساجد المتخذة على القبور (2).

= باب: ما جاء في كراهية المشي على القبور والجلوس عليها والصلاة إليها، وأبو داود (3229) في الجنائز، باب: في كراهة القعود على القبور (2/ 67)، وابن خزيمة (793، 794)، والحاكم (3/ 220، 221)، وأحمد (4/ 135)، وابن حبان (2320، 2324)، والبيهقي (2/ 425).

(1)

في ن ب (أبو)، وفي د (ابن).

(2)

للإطلاع تفسير سورة الإِخلاص (192)، اقتضاء الصراط المستقيم، الرد على البكري (233)، قال شيخ الإِسلام: أما بناء المساجد على القبور: فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه، قال: ولا ريب في القطع بتحريمه"، ثم ذكر الأحاديث في ذلك -إلى أن قال- وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين، وقال ابن القيم: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم ابن الجميزي، والظهير التزمنتي وغيرهما. وانظر كلام علماء المذاهب كافة في تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد في فتح المجيد (240).

ص: 500

وأما مقبرة داثرة: يبنى فيها مسجد يصلى فيه فلم أر به بأساً (1).

وكره ابن القاسم: أن يجعل على القبر بلاطة ويكتب فيها ولم ير بالحجر والعود بأساً يعرف به الرجل قبر وليه ما لم يكتب فيه (2).

الثامن: فيه دليل أيضاً على جواز حكاية الإِنسان ما رآه من البناء والتصاوير وأنه لا حرج في ذلك.

التاسع: فيه دليل أيضاً على وجوب البيان عند حكاية ما

(1) قال شيخ الإِسلام: وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتيقة، انقلبت تربتها أو لم تنقلب، ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا، لعموم الاسم وعموم العلة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس، وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم

إلخ كلامه.

(2)

قال النووي في شرح المهذب (5/ 298): قال أصحابنا: وسواء كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه كما جرت عادة بعض الناس، أم في غيره، فكله مكروه لعموم الحديث". اهـ.

أما التعليم بحجر ونحوه ليدفن إليه من يموت من أهله وأقاربه فجائز لحديث المطلب بن أبي وداعة قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني انظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنها، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". انظر: أبو داود (2/ 69)، والبيهقي (3/ 412)، وسنده حسن كما قال ابن حجر.

ص: 501

يقتضي مخالفة الشرع، وأن المرض ليس عذراً من البيان والإِنكار.

العاشر: فيه دليل أيضاً على تحريم التعظيم بما لا يحل فعله وقوله.

الحادي عشر: فيه دليل أيضاً على وصف فاعل المحرمات المضاهية لخلق الله -تعالى- والآمر بها ومرتضيها بأقبح وصف فإنه عليه الصلاة والسلام وصفهم بشرار الخلق عند الله.

الثاني عشر: فيه دليل أيضاً على أن الاعتبار في الأحكام والأوصاف وغيرها إنما هو بما عند الله لا بما عند الخلق.

الثالث عشر: فيه دليل أيضاً على جواز الكلام عند المريض والشاكي.

الرابع عشر: فيه أيضاً أن الكلام عنده إنما يكون بما يناسب حال الشاكي ومقامه حيث ذكرتا أماكن العبادة وتعظيم النصارى لها بما ذكرتا فبين صلى الله عليه وسلم ذلك ودليل جميعه.

الخامس عشر: فيه دليل أيضاً على كراهة الصلاة في القبور، وعلل الشافعي ذلك بأنها مدفن النجاسات ودل كلام القاضي أن الكراهة لحرمة الموتى، ولا فرق في الكراهة في المقبرة بين أن يصلى على القبر أو بجانبه أو إليه (1).

(1) قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد (244): بعد كلام سبق -انظر ما بعده- والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله كلام باطل من وجوه:

منها: أنه من القول على الله بلا علم، وحرام بنص الكتاب، ومنها أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول من صلَّى =

ص: 502

السادس عشر: بناء غير المساجد على القبور إن كان لمعنى مقصود شرعي فهو جائز إجماعاً، بشرط أن لا يكون في بقعة محرمة من غصب أو تسبيل على المسلمين. وقد نص الشافعي وأصحابه على تحريم البناء في المقبرة المسبلة للمسلمين (1).

= في بقعة نجسة فعليه لعنة الله، ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده صلى الله عليه وسلم بعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعاً وعقلاً وشرعاً، لما يلزم عليه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم ويقال أيضاً: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، عُلم أن العلة ما ذكره هؤلاء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وعلة ما يؤدي إليه ذلك: من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع، والله المستعان.

(1)

وقال أيضاً: وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس في أبواب العلم بالله اضطرابهم وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنَّة بقيود أوهنت الانقياد، وغيّروا بها ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي وأراد، فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل -ثم ساق ما ذكرناه بأعلاه-.

ص: 503

قال الشافعي: ورأيت الولاة عندنا بمكة يأمرون بهدم ما بني منها، ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك عليهم.

قلت: ومن ذلك القرافة ببلدنا مصر -حماها الله وصانها وسائر بلاد الإِسلام وأهله- فإنها مسبلة على المسلمين لدفنهم خاصة، وقد جرى فيها بسبب البناء أمور منكرة شنيعة.

وقد ذكر ابن الرفعة (1) رحمه الله عن شيخه الظهير التزمنتي (2)، عن الشيخ بهاء الدين بن الجميزي (3) قال: جهدت مع الملك الصالح في هدم ما أحدث بقرافة مصر من البناء فقال: أمر

(1) أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع، أبو العباس، البخاري، ابن الرفعة، ولد بمصر سنة خمس وأربعين وستمائة. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (220)، وشذرات الذهب (6/ 22)، والطبقات الكبرى للسبكي (5/ 177)، وطبقات الشافعية للنووي (372)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 211).

(2)

هو جعفر بن يحيى بن جعفر ظهير الدين التزمنتي المخزومي، توفي في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين وستمائة. انظر: هدية العارفين (1/ 254)، وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 54)، وطبقات الأسنوي (113)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 171).

(3)

علي بن هبة الله بن سلامة بن المسلم المعروف بابن الجميزي، ولد يوم عيد الأضحى سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وتوفي في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وستمائة. انظر: البداية والنهاية (13/ 181)، ومرآة الجنان (4/ 119)، والنجوم الزاهرة (7/ 24)، وشذرات الذهب (5/ 246)، وطبقات الشافعية للأسنوي (133)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 118).

ص: 504

فعله والدي لا [أزيله](1). قال: ودخل الظهير التزمنتي إلى صورة مسجد بناه بعض الناس بقرافة مصر الصغرى، فجلس فيه من غير أن يصلي له تحية، فقال له:[الباني](2) لم لا صليت التحية؟ قال: لأنه غير مسجد، فإن المسجد هو الأرض، والأرض مسبلة لدفن المسلمين. أو كما قال.

ومن المقصود الشرعي فعل الصحابة -رصي الله عنهم- بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه حيث دفنوا في بيت عائشة وأخفيت قبورهم بالبناء كي لا تتخذ مسجداً كما ذكرته عائشة في الحديث الآتي. أما البناء على القبر في ملكه فهو مكروه، وعموم النهي [عنه](3) في الأحاديث الصحيحة تقتضي التحريم.

قال القاضي الماوردي في "حاويه": البناء على القبور كالبيوت والقباب إن كان في غير ملكه لم يجز للنهي والتضييق على الناس، وإن كان في ملكه فإن لم يكن محظوراً لم يكن [مختاراً](4).

فرع: المظلة ونحوها ملحقة بالبناء عليه في الكراهة. قاله البغوي من الشافعية وغيره.

وقال ابن حبيب: ضرب الفسطاط على قبر المرأة أفضل من ضربه على قبر الرجل لما يستر منها عند إقبارها، وقد ضربه عمر على قبر زينب بنت جحش.

(1) في ن د ساقطة.

(2)

في ن ب (الثاني).

(3)

زيادة من ن ب د.

(4)

في ن د (مجتازاً).

ص: 505

وكره ابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن المسيب: ضربه على قبر الرجل.

وضربته عائشة: على قبر أخيها عبد الرحمن.

وضربه محمد ابن الحنفية: على قبر ابن عباس، وروى أنه بات على قبره شهراً.

وروى البخاري: أنه لما مات الحسن بن الحسين بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة، ثم رجعت فسمعوا صائحاً يقول: الأهل وجدوا ما فقدوا. فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا (1).

قال ابن حبيب: وأراه واسعاً في اليومين والثلاثة وإنما كرهه من كرهه لمن ضربه على وجه السمعة والمباهاة.

فرع: عقد القبر بالحجر ونحوه الذي يظهر أنه في معنى البناء لما فيه من الزينة بخلاف التطيين.

وقال الحضرمي في "شرح المهذب": كأن المراد بقولهم: لا تبنى القبور أن لا تبنى القبور في نفسها بأجُر ولبن.

(1) ذكره البخاري معلقاً (3/ 200) في الفتح. انظر: تغليق التعليق (2/ 482) لابن حجر.

ص: 506