الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما الذين بين حالهم في موضع من السنن دون موضع فكثير. ويحصل له أحياناً أنه يذكر الراوي الضعيف أو المتروك في أول الكتاب ويسكت عنه، ويذكره في آخر الكتاب ويبين حاله.
والدَّارَقُطْنِيّ في الحكم على الأحاديث في "السنن" له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يحكم على الحديث بالصحة أو الحسن، وهذا قليل جدا.
الحالة الثانية: أن يحكم على الحديث بالرّد، وهذا كثير جداً.
الحالة الثالثة: أن يورد الحديث ويسكت، وهذا كثيرا جداً أيضاً.
ثانياً: مقاصد الكتاب:
بما أن كتاب السنن قد أُلف لجمع غير المحتج به من السنن -في الغالب لأنه يخرج أحاديث محتجّاً بها أحيانا- فإن الإمام الدَّارَقُطْنِيّ قد عنى فيه بثلاثة أشياء هي:
أ - علل الحديث.
ب- الفقه.
جـ- الكلام عن الرجال جرحاً وتعديلاًً.
وسأتحدث عن هذه الأمور كلها على الترتيب:
1-
عنايته بعلل الحديث:
سنن الدَّارَقُطْنِيّ في حقيقته إذا نظرنا إليه من زاوية كشف علل الحديث، فإننا لا نشك أنه يقرب كثيرا من كتب "علل الحديث"، حتى لا أكاد أُنكر على من يُصنف هذا الكتاب ضمن كتب العلل ككتابه في العلل، والعلل
لابن المديني، والعلل لابن أبي حاتم.
وقد تبدو هذه دعوى عريضة ليس عليها حجة، ولكن إليك الدليل:
أولاً: لقد اجتمع في الكتاب كثير من صفات كتب العلل، وتمكنت منه تلك الصفات حتى لا تكاد تخلو صفة فيه من تلك الصفات منها نحو:
أ - جمع الطرق الكثيرة للحديث الواحد -وإن كان قد يجمعها أحيانا ليقوي الحديث بكثرة الطرق، كما في حديث شبرمة، وغيره-.
ب- بيان على الضعيف منها، من إرسال، أو انقطاع، أو وقف، أو غيره.
جـ- المقارنة بين تلك الطرق، إذا اقتضى الأمر ذلك.
ثانياً: بالنظر إلى نسبة الأحاديث التي أوضح عللها أو أبان ضعفها، في جنب الأحاديث التي حكم بصحتها أو حسنها يتبين أن النوع الأول من الأحاديث هو الأكثر جدا، بحيث أن الإنسان لا يتردد في أن الغرض الأساس من تأليف الكتاب لدى المؤلف هو كشف علل أحاديث الأحكام في أبوابها -وإن خرج عن هذا القصد أحيانا، لسبب أو آخر- كأن يورد أحاديث صحيحة تعارض الحديث الضعيف ليبين ضعفه"1". وإلا فما الذي يلجئ الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله تعالى -وهو الإمام الحافظ- إلى إيراد هذا النوع من الحديث -أي الأحاديث الضعيفة والواهية الساقطة- والعدول عن الأحاديث الصحيحة في كل باب تحت عنوان "السنن"؟ رغم أنه كان ذلك الرجل الذي انبري لنقد أحاديث صحيح
"1" ارجع إلى المبحث الثالث من هذا الباب.
البخاري، وصحيح مسلم اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله!!
ثالثاً: وبالنظر -أيضاً- إلى بعض الأبواب يتضح للمرء أن المؤلف لم يعقد ذلك الباب، ويورد ما فيه من الأحاديث إلا ليذكر عللها فقط، وها هي الأمثلة:
أ - قال الدَّارَقُطْنِيّ في "السنن" 1/161: "باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها" ثم أوردها، وذكر عللها في 16 صفحة تقريباً.
ب- وقال في "السنن" 1/97: "باب ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم "الأذنان من الرأس" ثم أورد الأحاديث في ذلك في أكثر من عشر صفحات وأبان عللها، وقال في أول حديث منها "هذا وهم، ولا يصح، وما بعده (أي كذلك) وقد بينت عللها".
ولم يورد حديثاً واحدا صحيحاً عنده في هذا الباب.
جـ- عُنى الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله تعالى في سننه بجمع طرق الحديث، وبيان اختلاف الروايات، وهو -أي اختلاف الروايات- إحدى دلالات العلة في الحديث، إذا أفضى ذلك إلى الحكم على الحديث بالاضطراب- سواء تطرق لبيان اختلاف الروايات تحت عنوان: "ما ورد في كذا
…
واختلاف الروايات في ذلك" أو تطرق إليه من غير عنوان، وفيما يلي بعض العناوين التي ذكرها لاختلاف الروايات- أذكرها للتمثيل لا للحصر:
1-
قال في 1/194: "باب الرخصة في المسح على الخفين وما فيه، واختلاف الروايات".
2-
وقال في 1/233: "باب ذكر أذان أبي محذورة، واختلاف الروايات فيه".
3-
وقال في 1/236: "باب ذكر الإقامة، واختلاف الروايات فيها".
4-
وقال في 1/250: "باب ذكر المواقيت، واختلاف الروايات فيها".
5-
وقال في 1/264: "باب الحث على الركوع بين الأذانين في كل صلاة، والركعتين قبل المغرب، والاختلاف فيه".
6-
وقال في 1/287: "باب ذكر التكبير، ورفع اليدين عند الافتتاح والركوع والرفع منه، وقدر ذلك، واختلاف الروايات".
7-
وقال في 1/302: "باب وجوب قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" في الصلاة والجهر بها، واختلاف الروايات في ذلك". وذكر فيها 40 حديثاً.
8-
وقال في 1/314: "باب ذكر اختلاف الرواية في الجهر بـ"بسم الله الرحمن الرحيم، وأورد فيه نحو 10 أحاديث، مع أنه لما سئل هل صح في الجهر بالبسملة حديث؟ قال "أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف
…
""1".
2-
عنايته بالفقه:
حوى كتاب الدَّارَقُطْنِيّ جل الكتب والأبواب الفقهية، التي تدخل في "كتب السنن"، مبتدئا من "كتاب الطهارة"، ومنتهيا بباب "الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك"، أو بباب "السبق بين الخيل" على الرواية في بعض النسخ.
وقد جاءت هذه العناية بالأبواب الفقهية، حتى ليشعر من يتصفح الكتاب
"1""الفتاوى الكبرى": 22/416، وانظر:"نصب الراية": 1/358-359.
أن مؤلف الكتاب من كبار أئمة الفقه، الذين يعنون بالمسائل الفقهية أكثر من عنايتهم بالحديث.
المقصود أن هذا التبويب الفقهي، والترتيب -في الجملة- والعناية الواضحة بالفقه في "سنن الدَّارَقُطْنِيّ" لا يقوم به في عصر الدَّارَقُطْنِيّ إلا من كان من الأئمة الفقهاء كالدَّارَقُطْنِيّ وأمثاله.
وشاركه في هذه الصفة السنن الأربعة الباقية، وباقي كتب السنن قبله وبعده كسنن الكبرى، لأن مؤلفيها كانوا من الفقه بمكان رحمهم الله تعالى.
على أن الإمام الدَّارَقُطْنِيّ لم يتكلم على فقه الحديث في كتاب السنن بحال من الأحوال إلا نادراً"1" جدا كما في 4/217 حديث 49.
وكذلك قد ترك بعض الأبواب الفقهية القليلة.
لكن لا يتنافى هذا مع ما ذكرت من العناية بالفقه الظاهرة في الترتيب والتبويب.
وإليك استعراضا لبعض العناوين التي ساقها تحت "كتاب الطهارة" لتدرك ما قلته:
كتاب الطهارة:
باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة.
باب الماء المتغير.
باب الوضوء بماء أهل الكتاب.
باب البئر إذا وقع فيها الحيوان.
"1" ولكن تعليقه الفقهي الموجز على الحديث، إذا جاء يكون "كالمسمار في الساج" يدل على فقهه وحصافته، كما في السنن: 1/322 في حديث: "الإمام ضامن، فما صنع فاصنعوا "علق عليه بقوله "قال أبو حاتم" هذا تصحيح لمن قال بالقراءة خلف الإمام"!!
باب في ماء البحر.
باب كل طعام وقعت فيه دابة ليس لها دَمٌ.
باب الماء المسخن.
باب الماء يبل فيه الخبز.
......................
باب الأسآر.
باب ولوغ الكلب في الإناء.
باب سؤر الهرة.
باب التسمية على الوضوء.
باب الحث على التسمية ابتداء الطهارة.
باب وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب ما روي في الحث على المضمضة والاستنشاق والبداءة بهما أول الوضوء.
باب المسح بفضل اليدين.
باب ما روي في جواز تقديم غسل اليد اليسرى على اليمنى.
باب صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب تجديد الماء للمسح.
باب دليل تثليث المسح.
باب ما يستحب للمتوضيء والمغتسل أن يستعمله من الماء.
باب السنن في الرأس والجسد.
..................... إلخ.
وكأني بمن يرى هذه العناوين ينصرف ذهنه أول ما ينصرف إلى أنها
منقولة من أحد كتب الفقه في الفروع.
وزيادة على ما تقدم فقد اعتنى الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله في كتابه بذكر أقوال وفتاوى الفقهاء من كبار الصحابة والتابعين ومن بعدهم بالأسانيد إلى أصحابها في صورة حديث موقوف أو مقطوع.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
أ - المثال الأول: "باب الوضوء بماء أهل الكتاب" في السنن 1/32 فإنه لم يذكر فيه حديثاً مرفوعا واحدا.
ب- المثال الثاني: "باب البئر إذا وقع فيها حيوان" 1/33، وهو يلي الباب السابق ذكره مباشرة، ولم يذكر فيه حديثاً مرفوعا واحداً.
جـ- المثال الثالث: "باب الماء الذي يبل فيه الخبز" 1/39 كسابقيه.
د- المثال الرابع: "باب تأويل: {ِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} " 1/39 كالأبواب السابقة أيضاً.
هـ- المثال الخامس: "باب الوضوء بفضل السواك" 1/39، ذكر فيه أثرين عن جرير "هو ابن حازم"، وذكر فيه أيضاً حديثين مرفوعين والأبواب التي يورد فيها الدَّارَقُطْنِيّ الآثار إلى جنب الأحاديث المرفوعة كثيرة جدا في السنن تمثل أغلبية الأبواب.
و المثال السادس: "باب السواك" 1/58، ذكر فيه حديثاً واحداً فقط عن ابن عباس مرفوعاً.
ز- المثال السابع: "باب ما روي في مس الإبط" 1/150، لم يورد فيه
حديث مرفوعا واحداً.
وهكذا
…
إلخ هذا النوع من الأبواب.
حقا، إن الدَّارَقُطْنِيّ قد اعتنى في سننه بالمسائل الفقهية، وجعلها الغاية الأولى من تصنيفه هذا الكتاب، لذلك نراه يتفنن في تسمية الأبواب وتنويعها وسرد طرق الأحاديث وبيان وجوه اختلافها والتعقيب عليها ليصل في النهاية إلى غرضه.
وهو إفهام القارئ أن هذا الحكم الفقهي صحيح أو ليس بصحيح.
وما أجدر أن يعتني بالكتاب الفقيه الذي يروم التثبت في صحة السنن والآثار إلى جانب الفهم الاجتهاد.
ولكل ما تقدم رأيت بعض الباحثين يذكرون أن للدارقطني كتاباً في فقه المذاهب، وما أظنهم يعنون إلا كتاب "السنن""1".
ولا أظن أن له كتاباً في الفقه غيره.
فالخلاصة أن كتاب "السنن" للدارقطني وإن كان كتاب حديث إلا أنه في تبويبه وترتيبه وإلماحه إلى آراء العلماء وفتاويهم، يدل على فقه مؤلفه وعنايته بالفقه.
3-
عنايته بالرجال جرحاً وتعديلاً:
إن عناية الإمام الدَّارَقُطْنِيّ في سننه بالرجال جرحاً وتعديلاً أمر واضح جداً في كل صفحة تقريباً، وفي كثير من الأحاديث التي ذكرها.
وإن أكبر دافع لي في اختيار البحث هو الثروة الكبيرة في كلامه على الرواة توثيقاً وتجريحاً.
"1" انظر: بحث "المصنفات المنسوبة له خطأ"، في "الباب الثاني".