الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمجموع هذه الأدلة الأربعة تؤكّد هذا الموقف -في نظري- والله أعلم.
ثالثاً: بيان الموقف الثاني:
الموقف الثاني هو نقد، للصحيحين، وذلك بتضعيف راوٍ فيهما، أو في أحدهما، أو بتضعيف حديثٍ فيهما، أو في أحدهما.
ويمثّل هذا الموقف كتابه: "التتبع، لما أخرج في الصحيحين، وله علّة"، إذ تتبع فيه كل حديث ينتقده على الصحيحين، وبلغ مجموعها 200 مائتي حديث، وليست كلها عنده بعلة قادحة.
وهذا لا يتعارض مع رأيه السابق -كما تقدم-، لأن هذا نقد للصحيحين ليس في منهجهما جملة بل في بعض الجزئيات التطبيقية.
والإمام الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله تعالى منتقد في أكثر آرائه في هذا الموقف.
والحث أن "كل حديث في الصحيحين متصل السند فهو حديث صحيح" وهذه قاعدة أُسلّم بها.
وقبول العلماء للصحيحين، وإجماعهم على ذلك على مرّ العصور يؤيدها، وأقوالهم كذلك تؤيدها، وإن كان هناك أقوال أخرى لبعض الأئمة -كالدَّارَقُطْنِيّ في موقفه هذا- تُعارِض عموم هذه القاعدة، إلا أنه لا معوّل عليها، وليست هي المعتمدة، لأن تلك الأقوال لا تخرج عن أمرين:
الأول: إما أن تكون مبنيّة على سبب أو أسباب مسلّم بها، ولكنها لا تضرّ بصحة الحديث في منهج المحدثين.
الثاني: وإما أن تكون مبنيّة على سبب أو أسباب غير مسلّم بوجودها في
الحديث أو الأحاديث فتُردّ أصلا.
فتكون هذه الأقوال على كلا الحالين غير مقبولة وغير مؤثرة في مكانة الصحيحين وفي صحة جميع ما فيهما من الأحاديث المتصلة.
ولست أرى حاجة لسرد أقوال الأئمة في الثناء على الصحيحين ومنهجهما، والاعتراف بصحتهما، لأن أقوالهم في ذلك معروفة، موجودة في الكتب، فنقْلها من جديد لن يفيد بل هو عَبَث. ولأن السامع أو القارئ سيقول إذا قرأها: إن هناك أقوالا تعارضها.
ولديّ قناعة بمطابقة الصحيحين في منهجهما لأصول المحدثين في قبول الأخبار وردِّها وأن كل ما فيهما من الحديث المتصل صحيح.
وأرى أن يكتب في هذا الموضوع على ضوء دراسة تطبيقية موضوعية وستؤكد هذه الدراسة -إذا خرجت بعلم ومنهج سليم- قاعدَة: "كل حديث في الصحيحين متصل السند فهو حديث صحيح""1".
وقد درس العلماء انتقادات الناقدين للصحيحين بعامّة، وانتقادات الدَّارَقُطْنِيّ بخاصة، فردوا عليها.
"1" وقد كنت أردتُ تسجيل بحثي في هذا الموضوع، لقناعتي الشديدة بما ذكرت، ولكن لم يقدر الله تعالى ذلك، وفي تقديري أن الموضوع يحتاج إلى دقة، وسعة اطلاع، وسداد منهج.
ولا يمكن أن يبحث الموضوع هنا على أنه جزئية في موضوع آخر، لأن هذه الأحاديث، يحتاج -على أقل تقدير- كل حديث منها ثلاث صفحات، فيكون المجموع ستمائة صفحة، ولو تجاوزْتُ هذا كله فكتبت فيه بهذا الحجم لخرجت عن الموضوع.
ومن ذلك -على سبيل المثال-:
1-
جوابات أبي مسعود الدمشقي "إبراهيم بن محمد بن عبيد الحافظ" لانتقادات الدَّارَقُطْنِيّ لصحيح مسلم.
وقد أورد فيه أوهاما للدارقطني -رحمه الله تعالى- في تتبعاته.
2-
"هَدْيُ الساري مقدمة فتح الباري" لابن حجر، فقد أجاب فيه ابن حجر رحمه الله تعالى عن تلك الانتقادات، على وجه الإجمال ثم على وجه التفصيل.
3-
"فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لابن حجر أيضاً، تعرّض فيه للردّ على تلك الانتقادات في مواضعها.
4-
"شرح صحيح مسلم" للإمام النووي، تعرّض فيه للردّ على الانتقادات الموجهة لمسلم أو للشيخين أحيانا.
وكذا غالب شروح الصحيحين.
5-
"المدخل" الكبير للحاكم أبي عبد الله النيسابوري صاحب المستدرك وأحد تلاميذ الدَّارَقُطْنِيّ، عقد فيه بابا طويلا خاصا بالدفاع عن البخاري ومسلم في إخراجهما لبعض المنتقدين عليهما.
وسواها من المؤلفات التي تولَّت الدفاع عن الصحيحين إجمالاً أو تفصيلاً، على وجه الشمول أو الاقتصار على بعض المواضع، مما يفيد بمجموعه مكانة عظيمة للصحيحين.
ودرس هذا الموضوع بعض الباحثين المعاصرين، منهم الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، في رسالته للدكتوراه، بعنوان:"بين الإمامين: مسلم والدَّارَقُطْنِيّ".
وتوصَّل الشيخ ربيع -بعد دراسةٍ نَقْدية تطبيقية، أَجْراها على الأحاديث المنتقدة على الإمام مسلم من قِبل الدَّارَقُطْنِيّ -إلى نتائج لا تختلف- في الجملة- مع الحقيقة التي ذكرتها تجاه أحاديث الصحيحين بل تؤيدها، ولخص ما توصّل إليه بقوله:""يمكن إرجاع انتقادات الدَّارَقُطْنِيّ وتتبعاته للإمام مسلم إلى الأقسام الآتية:
1-
انتقاد موجّه إلى أسانيد"1" معينة، فيبدي لها عللا من إرسال، أو انقطاع، أو ضعف راو، أو عدم سماعه، أو مخالفته للثقات في أمرٍ ما. ويتبين في ضوء الدراسة والبحث أنه غير مصيب فيما أبداه من علة. وهذا النوع من الانتقادات لا يكون له تأثير في متون تلك الأسانيد لعدم ثبوت العلل التي أبداها.
2-
انتقاد موجّه إلى الأسانيد، فيبدي لها عللا من انقطاع، أو عدم سماع،
…
إلخ، ويكون مصيبا فيما أبداه من علّة، لكن تأثيره قاصر على ذلك الإسناد المعين. والمتن يكون صحيحاً من طريق أو طرق أخرى، وله من المتابعات والشواهد ما يزيده قوة.
3-
انتقاد موجّه إلى المتن، كأن يدعي في حديثٍ ما أنه لا يصح إلا موقوفا ولم يثبت رفعه، أو يدعي أنه من قول أحد التابعين، ولا يصح رفعه أو يدعي أن جملة معينة قد زِيدت في متنٍ بسبب وهم أحد الرواة.
ويكون مصيبا في ذلك، ويكون لهذا الانتقاد أثره، لثبوت دعواه، ولعدم
"1" في الأصل: "أسناد".
المتابعات والشواهد لذلك المتن. وهذا النوع قليل جداً لا يجاوز خمسة أحاديث.
4-
انتقاد موجَّه إلى المتن، كأن يدعي في حديثٍ ما أنه لا يصح إلا موقوفاً على"1" صحابي معين، أو مرسلاً من قول فلان، ويبين في ضوء الدراسة أن دعواه لا تثبت. وهذا يكون بالبداهة لا أثر له في ذلك المتن الذي ادعى فيه تلك العلة""2".
"1" في الأصل: "عن".
"2""بين الإمامين: مسلم والدَّارَقُطْنِيّ"، للشيخ ربيع مدخلي: 2/233.