الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقلته هنا عن الإمام الحافظ الذهبي، وكما نقل ذلك القاضي أبو الطيب طاهر
ابن عبد الله الطبري بقوله:
""
…
وما رأيت حافظاً ورد بغداد إلا مضى إليه، وسلّم له. يعني فسلّم له التقدمة في الحفظ، وعلو المنزلة في العلم"""1".
أو بالنظر إلى مؤلفاته التي تعتمد على الفهم والحفظ، ككتاب: العلل الأفراد، والسنن، وغيرها.
و قولة الإمام الدَّارقُطنيّ: "يا أهل بغداد: لا تظُنّوا أن أحداً يقدر أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حيٌّ""2".
فلقد عبَّر الإمام الدَّارقُطْني، نفسه، بهذه اللفظة، تعبيراً غير مباشرٍ عن مقدار ما وصل إليه من الحفظ، ومقدار ما وصل إليه مِن الشفافية والحِسّ الإيمانيّ في الدفاع عن السّنة-رحمه الله تعالى-.
"1""تاريخ بغداد": 12/36.
"2""فتح المغيث"، للسخاوي: 1/241. وقد علّق على هذا القول فضيلة الشيخ: عبد الرزاق عفيفي-رحمه الله تعالى- في المناقشة، قائلاً: هذه مبالغة. قلتُ: لا يُراد مِن هذا القول الحرفية، وإنما تأكيد تجلُّدِ الإمام الدارقطني لمهمته هذه، وتأكيد أهليته لها، وذلك، في نظري، شفافية في هذا الباب تُعَدُّ مفخرةً مِن مفاخر الإسلام وعلمائه؛ فالحمد لله على ذلك وعلى سائر نِعِمِه!.
أمّا
إمامته
في الحديث وعلومه وفي غيره فلا منازع فيها، وقد تقدم طَرَف
من أقوال الأئمة في إمامته في الحديث خاصة، وفي غيره عامة.
وسيكون الكلام هنا على إمامته في ثلاث نواح:
أ - في القراءات. ب- في الفقه. جـ- في اللغة والأدب والتاريخ.
هذا بالإضافة إلى إمامته في الحديث وعلومه الذي سيأتي بحثه تفصيلاً في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.
أ- إمامته في القراءات:
1-
الإمام الدَّارَقُطْنِيّ كان مرشَّحا أن يكون مقرئا منذ وقت الطلب، كما تقدم في قوله:"كنت أنا والكَتَّاني نطلب الحديث، فكانوا يقولون: يخرج الكتاني محدّث البلد، ويخرج الدَّارَقُطْنِيّ مقرئ البلد، فخرجت أنا محدثاً، والكَتَّاني مقرئا"""1".
فالدَّارَقُطْنِيّ وإن كان محدثاً إلا أنه كان أيضاً مقرئا، وقد كان مرشحا للإقراء منذ الصغر، وهذا الترشيح لابد أن يكون له سبب أو أسباب.
وقد أخذ القراءات عن أهلها -كما سيأتي- وألّف فيها كتاباً فريداً في بابه. وتصدّر للإقراء في آخر حياته ببغداد. وذكره بعض أصحاب طبقات القراء. وذكر أيضاً غالب من ترجم له أنه كان إماما في هذا الشأن.
وقال صاحب "المختصر في أخبار البشر": ""وكان متقناً في علوم كثيرة، إماماً في علوم القرآن"""2".
"1""المنتظم": 7/184.
"2""المختصر في أخبار البشر"، لأبي الفداء - 732هـ: 2/130.
2-
ذكر شيوخه في القراءات:
""
…
عرض القراءات على أبي بكر النقاش، وأبي الحسن أحمد بن جعفر
ابن المنادي، ومحمد بن الحسين الطبري، ومحمد بن عبد الله الحربي، وأبيه عمر بن أحمد، وأبي القاسم علي بن محمد النخعي، وأبي بكر محمد بن عمران التمّار، ومحمد بن أحمد بن قَطَن، وأبي بكر محمد بن الحسين بن محمد الديبني، وأبي الحسن بن بُويان، وأحمد بن محمد الديباجي، وعلي بن سعيد ذؤابة.
وسمع كتاب السبعة من ابن مجاهد"1"، وهو صغير، وأخذ القراءة عن محمد بن الحسن النقاش عَرْضا وسماعاً"""2".
3-
جلوسه للإقراء:
ذكرت المصادر أن الإمام الدَّارَقُطْنِيّ بعد رجوعه من مصر إلى بغداد جلس للإقراء في آخر عمره، واستمر على ذلك حتى توفي رحمه الله تعالى.
ولم تذكر تلك المصادر مَنْ أخذ عنه القراءات، يقول الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى:
""وتصدّر في آخر أيامه للإقراء، لكن لم يبلغنا ذكر من قرأ عليه وسأفحص عن ذلك إن شاء الله تعالى"""3".
قلت: وذكر ابن الجزري -كما سيأتي- أن "محمد بن إبراهيم بن أحمد" أخذ عنه الحروف.
"1""غاية النهاية في طبقات القراء"، لابن الجزري: 1/558-559.
"2" انظر: "وفيات الأعيان": 3/297.
"3""سير أعلام النبلاء": جـ10 ق520.
4-
تأليفه في القراءات:
يقول ابن الجَزَري:
""وألّف في القراءات كتاباً جليلا لم يؤلّف مثله، وهو أول من وضع أبواب الأصول قبل الفَرْش، ولم يَعرف مقدار هذا الكتاب إلا من وقف عليه، ولم يكمل حسن كتاب:"جامع البيان""1" إلا لكونه نُسخ على منواله.
وروى عنه الحروف من كتابه هذا محمد بن إبراهيم بن أحمد"2". قال الحافظ أبو بكر الخطيب: ""وسمعت بعض من يعتني بعلوم القرآن يقول: لم يُسْبَق أبو الحسن إلى طريقته التي سلكها في عقد الأبواب المقدمة في أول القراءات، وصار القراء بعده يسلكون طريقته في تصانيفهم، ويحذون حذوه"""3".
ب- إمامته في الفقه، ومذهبه فيه:
لست أعني بإمامته في الفقه أنه كان صاحب مذهب متبوع، إنما أعني أنه كان فقيها إلى جانب كونه محدّثا، فجمع بين الرواية والدراية، ولم ينازع في ذلك أخذ ممن ترجم للدارقطني.
وقد أخذ الفقه عن أهله، بخلاف طريقة بعض المحدِّثين، فدرس الفقه على مذهب الإمام الشافعي ?، وكان شيخه فيه أبو سعيد الاصطخري –وكتب
"1""كتاب في القراءات"، صنَّفه الداني.
"2""طبقات القراء"، لابن الجزري: 1/559.
"3""تاريخ بغداد": 12/34،35.
عنه الحديث أيضاً"1"- وقيل: بل أخذه عن صاحبٍ لأبي سعيد.
فهو معدود في الفقه من أصحاب الشافعي، فذكره بعض أصحاب طبقات الشافعية، وفيما يلي عدّهم وبيان مواضع ترجمتهم له:
1-
الإمام ابن الصلاح، فإنه ترجم له في "ورقة 67ب-68أ".
2-
تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" 2/310-312.
3-
الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي - 772هـ في "طبقات الشافعية" 1/508-509.
4-
أبو بكر بن هداية الله الحسيبي الملقب بالمصنّف، المتوفى سنة 1014هـ في "طبقات الشافعية"33.
وكان له خبرة ودراية بمذاهب الفقهاء، ويظهر ذلك في بعض مؤلفاته، قال ابن خِلِّكان:""وكان عارفا باختلاف الفقهاء"""2".
وقال الحافظ الخطيب البغدادي عن العلوم التي أتقنها الدَّارَقُطْنِيّ وأصبح فيها إماما:
""
…
ومنها المعرفة بمذاهب الفقهاء، فإن كتاب "السنن" الذي صنفه يدل على أنه كان ممن اعتنى بالفقه، لأنه لا يقدر على جمع ما تضمن ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف في الأحكام، وبلغني أنه درس فقه الشافعي على أبي سعيد الاصطخري، وقيل: بل درس الفقه على صاحب
"1" حدّث عنه في سننه في: 1/317.
"2""وفيات الأعيان": 3/297.
لأبي سعيد"""1".
وقد ادعى إسماعيل باشا البغدادي مؤلف "هدية العارفين" أن للدارقطني كتاب اسمه "معرفة مذاهب الفقهاء""2".
ولا أظن الأمر كما قال، بل لعله فهم ذلك خطأً من كلام الأئمة عليه بأن له معرفة بمذاهب الفقهاء، كما في عبارة الخطيب وغيره.
ولم أجد اسم هذا الكتاب في مؤلفات الدَّارَقُطْنِيّ في جميع المراجع التي بين يدي إلا ما ذكره صاحب "هدية العارفين".
وللدارقطني اهتمام بالإمام الشافعي، فقد ألّف بعض المؤلفات التي لها تعلقٌ به، قال الشيرازي في "طبقات الشافعية":""وأما من روى عنه"3" الحديث فخلق كثير ذكرهم الدَّارَقُطْنِيّ في جزأين"""4".
وقال الشيرازي في ترجمة "عبد الرحمن بن الوليد بن المغيرة المصري": ""ذكره الدَّارَقُطْنِيّ في كتابه في ذكر من روى عن الشافعي"""5".
وفي ترجمته للدارقطني في كتابه "طبقات الشافعية" ما يحتمل أيضاً أن له مؤلفا في المذهب، لأنه قال في المقدمة:""
…
فها أنا أكتب أوراقاً بالتماس بعض الإخوان مبتدئا بذكر الشافعي رحمه الله تعالى ومن كان في عصره،
"1""تاريخ بغداد": 12/35.
"2" انظر: "هدية العارفين": 5/683.
"3" أي عن الإمام الشافعي.
"4""طبقات الشافعية"، للشيرازي:104.
"5""طبقات الشافعية"، للشيرازي:103.
ومن كان في المائة التي توفى فيها، وهي المائة الثالثة، ثم الذين يلونهم، هكذا إلى عصرنا ممن أحاط به علمي وكان له تصنيف في المذهب"""1".
فقوله: ""وكان له تصنيف في المذهب""، يحتمل أنه عنى به من كان له ذكر في المذهب، ويحتمل أنه قصد به من كان له تأليف في المذهب.
جـ- إمامته في اللغة والنحو والأدب والتاريخ:
لست أعني بإمامته هنا أنه كان صاحب مذهب متبوع، إنما عنيت به ما عنيته في الفقرة السابقة.
وقد جمع الحافظ الدَّارَقُطْنِيّ -إلى ما سبق- التمكن في اللغة والنحو والأدب، والمغازي والسير، وذَكَر الخطيب في العلوم التي اضطلع فيها أبو الحسن "المعرفة بالشعر والأدب، وقيل: إنه كان يحفظ دواوين جماعة من الشعراء"""2". وقال: ""وسمعت حمزة بن محمد بن طاهر الدَّقاق يقول: "كان أبو الحسن يحفظ ديوان السيد الحِمْيري"3" في جملة ما يحفظ من الشعر فنسب إلى التشيع لذلك"""4".
ومما يدل على تمكنه في اللغة ما حكاه الخطيب، قال:""وحدثني الأزهري أن أبا الحسن لمّا دخل مصر كان بها شيخ علوي من أهل مدينة رسول الله
"1""طبقات الشافعية": ص:1.
"2""تاريخ بغداد": 12/35.
"3" هو إسماعيل بن محمد بن يزيد الحميري، شيعي غالٍ.
"4""تاريخ بغداد": 12/35.
صلى الله عليه وسلم، يقال له مسلم بن عبيد الله، وكان عنده كتاب النَّسب عن الخضر بن داود عن الزبير بن بَكَّار، وكان مسلم أحد الموصوفين بالفصاحة المطبوعين على العربية.
فسأل الناس أبا الحسن أن يقرأ عليه كتاب النسب، ورغبوا في سماعه بقراءته، فأجابهم إلى ذلك.
واجتمع في المجلس من كان بمصر من أهل العلم والأدب والفضل، فحرصوا على أن يحفظوا على أبي الحسن لحنة، أو يظفروا منه بسقطة، فلم يقدروا على ذلك، حتى جعل مسلم يعجب ويقول له: وعربية أيضاً!! """1".
وقال عبد العزيز الكَّتاني: ""سمعت بعضهم يقول: إنه قرأ كتاب النسب على مسلم العلوي فقال له بعد القراءة المعيطي الأديب: يا أبا الحسن، أنت أَجْرأُ من خاصِي الأسد، تقرأ مثل هذا الكتاب مع ما فيه من الشعر والأدب فلا يؤخذ عليك فيه لحنة وأنت رجل من أصحاب الحديث؟! وتعجب منه"""2".
وقال الذهبي: ""انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله مع التقدم في القراءات وطرقها، وقوة المشاركة في الفقه والاختلاف، والمغازي وأيام الناس، وغير ذلك.
قال أبو عبد الله الحاكم في كتاب "مزكّي الأخبار": ""أبو الحسن صار واحد عصره في الحفظ، والفهم، والورع، وإماما في القرَّاء، والنحويين
…
"""3".
"1" المصدر السابق.
"2""تاريخ دمشق": جـ22 ق241ب.
"3""سير أعلام النبلاء": جـ10 ق520.