الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يدل دلالة قوية -عندي- على اعتماد قوله في هذا الشأن لدى الأئمة سؤالات الأئمة له، وتدوينها، وتدوين أجوبته عليها، فلولا اعتمادهم لأجوبته لَمَا وجَّه الإمام الحاكم النيسابوري أسئلة إليه، ولَمَا دوّن أجوبته، وكذا الإمام البَرْقانِيّ، وكذا السهْمي، وكذا السُّلَمِيّ، ولما تناقلها الرواة"1".
"1" وقد وقفت على عبارة لطيفة أثناء أسئلة الإمام البَرْقانِيّ للدارقطني، ونصها: "سألت أبا الحسن الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله، ونضّر وجهه، وغفر لنا، وله، ولجميع المسلمين، عن
…
".
"البَرْقانِيّ": ق6أ.
ثانياً: اعتداله فيه:
وكان الدَّارَقُطْنِيّ -رحمه الله تعالى- معتدلا في الجرح والتعديل، فليس هو بالمتشدد ولا بالمتساهل في ذلك.
ولم أعلم له قاعدة في الجرح والتعديل أو في التصحيح والتضعيف معلومة الفساد، لأنه كان بصيراً بالأمور الجارحة والمعدّلة للراوي، فكان يميز بين الجرح المطلق والجرح المقيد في كلامه في الرواة دائماً، فلم يقع فيما وقع فيه بعض المحدِّثين.
ولهذا كان قوله معتبرا في هذا الشأن عند الأئمة، وعدّوه في جملة أئمة الجرح والتعديل المعتدلين.
وأَستدلّ على أن الأئمة قد اعتبروا الدَّارَقُطْنِيّ معتدلا في الجرح والتعديل بثلاثة أمور هي:
الأمر الأول: اعتمادهم لأقواله في الرواة، ونقلهم لها، وعدم استدراكهم عليه بإنكار تشدّد أو تعصّب أو نحو ذلك.
ولم أر أحدا منهم حكم عليه بالتشدد أو التساهل في ذلك، سوى أقوال متأخرة ذكرت فيه من غير دليل، قيلت فيه لأسباب تسقط حكم قائليها في هذا الإمام الجليل، وقد ذكرتها، وناقشتها في مبحث:"أقوال الأئمة فيه".
الأمر الثاني: ذكر بعضهم له في المعتدلين، وممن عدّ الدَّارَقُطْنِيّ في المعتدلين في الجرح والتعديل الإمام الذهبي، إذ قسّم المتكلمين في الجرح والتعديل إلى ثلاثة أقسام:
1-
قسم متعنت في الجرح متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث
…
2-
وقسم منهم متسمّح كالترمذي والحاكم
…
3-
وقسم معتدل كأحمد والدَّارَقُطْنِيّ وابن عدي
…
""1".
الأمر الثالث: نتيجة موازنة أقواله في الرواة بأقوال غيره، وقد جعلتها في فصل مستقل"2".
ويُلمح اعتداله في الجرح والتعديل في الثلاثة الأمور الآتية:
1-
في مسلكه في الجرح والتعديل مع من يخالفه في المعتقد، أو ضُعّف بسبب المعتقد:
إذ أنه أنصف في هذا الجانب أيما إنصاف، وإليك الأمثلة على ذلك، من
"1""فتح المغيث"، للسخاوي: 3/325، و"الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ": 167-168.
"2" الفصل الثالث، من الباب الرابع.
خلال النصوص الثابتة عن الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله تعالى:
أ - قال السُّلَمِيّ: ""وسألته عن أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي. فقال: "ثقة""1". فمن إنصافه واعتداله -وهو سلفي كما تقدم في ترجمته- أن يقول هذا الحكم في أحمد الصوفيّ.
ب- وقال السُّلَمِيّ -أيضاً-: ""وسألته عن إبراهيم بن أَدْهم. فقال: ""إذا حدّث عنه ثقة فهو صحيح الحديث"""2". ومعلوم ما يقوله بعض المتعنتين في إبراهيم بن أدهم ممن هو على مذهب الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله تعالى.
جـ- وقال السُّلَمِيّ: ""وسألته عن عدي بن ثابت:
فقال: "ثقة إلا أنه كان رافضيا غالياً فيه"""3"!!.
ومعلوم ما يقوله كثير من المحدثين في من هذا حاله من الرواة، رحم الله الإمام الدَّارَقُطْنِيّ لقد كان معتدلاً منصفاً في الجرح والتعديل.
د- وقال: ""وسألته عن إبراهيم بن طَهْمان.
فقال: ثقة، وإنما تُكُلِّم فيه بسبب الإرجاء"""4"!!.
هـ- وقال السُّلَمِيّ أيضاً: ""وسألته عن ابن عقدة.
فقال: حافظ، محدث، لم يكن في الدين بالقويّ، ولا أَزِيدُ على هذا"""5".
"1""سؤالات السُّلَمِيّ": ق1أ.
"2""سؤالات السُّلَمِيّ": ق1أ.
"3""السُّلَمِيّ": ق6ب.
"4" السُّلَمِيّ: ق1أ.
"5""السُّلَمِيّ": ق2أ.
فاعترف له بما له من فضيلة رغم ما جرحه به!.
و وقال السُّلَمِيّ: ""وسمعته يقول: منع أحمد بن حنبل عبد الله ابنه أن يحدث عن علي بن الجعد، فسألته: ما سبب ذلك؟ فقال: لأنه وقف في حديث القرآن. وعلي بن الجعد ثقة، قد أخرج عنه البخاري. قال: وسئل علي
ابن المديني: أيهما أحب إليك في شعبة: علي بن الجعد أو شَبابه؟ فقال: خَرَّب الله بيت علي إن كان في شعبة مثل شَبابة. سمعت أبا طالب الحافظ يقول: سمعت عثمان بن خرزاذ يقول: سألت يحيى بن معين عمن أكتب حديث شعبة؟. فقال: عن علي بن الجعد، وضرب على جنبه.
قلت: وإن كان الدَّارَقُطْنِيّ يطريه، وثبت عن يحيى هذا. فقد جعل"1" علي بن المديني في طبقات أصحاب شعبة علي بن الجعد في آخرهم، وجعله في الطبقة السابعة.
ولا يقبل من يحيى هذا، ويدع أصحاب شعبة مثل: يحيى بن سعيد، وغُنْدَر، وابن أبي عدي، وأمثالهم"""2".
فانظر كيف وقف الدَّارَقُطْنِيّ من علي بن الجعد هذا الموقف العدل، فلم يتركه لما صار منه في تلك المسألة -وإن خالفه فيها- إنما وثّقه -أداء للأمانة- لما عُلِمَ من عدالته وضبطه للحديث، حتى اشتهر بروايته للحديث بنصه بالحرف.
والدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله أنصف -أيضاً، إلى جانب هذا- في الجرح والتعديل
"1" في الأصل: جعله.
"2""السُّلَمِيّ": ق7ب.
في حق من يخالفه في المذهب الفقهي، كما يظهر من التمثيل الذي سبق"1" على ذلك بقوله، في أبي حماد الحنفي، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف القاضي.
2-
في مسلكه فيمن هو ضعيف بسبب غير الاعتقاد، كسوء الحفظ ونحوه، فإنه لا يردّه دائماً، بل يردّه حين لا يأمن منه عاقبة سوء الحفظ، ويقبله حين يأمن عاقبته، كما لو وافقه على حديثه عدد من الحفاظ الثقات.
وهذا هو المعمول به عند المحدثين.
فالدَّارَقُطْنِيّ يفرّق بين الضعف الشديد، والضعف غير الشديد، في تضعيفه للراوي، فهو يقول أحياناً: ضعيف لا يعتبر به. وأحيانا يقول: ضعيف يعتبر به.
وعلماء المصطلح يستشهدون بمسلكه هذا، للتدليل على التفريق بين ضَعْف وضَعْف.
ومن ذلك قول ابن الصلاح فيمن يصلح للمتابعات والشواهد من الضعفاء.
"وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدَّارَقُطْنِيّ وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به""2".
ويقول أحياناً: فلان ضعيف لا يستحق الترك، أو ليس بمتروك، أو مقبول حيث يتابع، أو يكتب حديثه، أو لا يكتب حديثه، ونحو ذلك من العبارات الدالة على تضعيف الراوي مع عدم طرحه بِمَرَّة أو تضعيفه بِمَرة.
"1" في "ما قيل فيه من المثالب: رقم 4، الفقرة الثالثة من المناقشة".
"2""علوم الحديث"، لابن الصلاح: ص183، "نسخة المحاسن".
وإليك الأمثلة على هذا:
أ - قال البَرْقانِيّ في أسئلته: ""سألته عن قابوس بن أبي ظبيان.
فقال: ضعيف، ولكن لا يترك"""1".
ب- وقال: ""وسألته عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار.
فقال: أخرج عنه البخاري، وهو عند غيره ضعيف، فيعتبر به"""2".
جـ- وسأله البَرْقانِيّ عن شخص. فقال: ""ضعيف يعتبر به"""3".
د- وقال الدَّارَقُطْنِيّ في راو: ""صويلح، يعتبر به"""4".
هـ- وقال السُّلَمِيّ: ""وسألته عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار فقال: خالف محمد بن إسماعيل البخاري الناس فيه، وليس هو بمتروك"""5".
ولهذا المسلك فإن الدَّارَقُطْنِيّ ضعّف "محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى" في حفظه فقال فيه: ""ضعيف الحديث، سييء الحفظ
…
"""6".
وقال فيه في موضع آخر: ""ثقة في حفظه شيء"""7".
وضَعّف الحجاج بن أرطاة -أيضاً- في مواضع كثيرة من سننه، ومع
"1""البَرْقانِيّ": ق9ب.
"2""البَرْقانِيّ": ق7أ.
"3" انظر: "أسئلة البَرْقانِيّ": ق8أ.
"4""البَرْقانِيّ": ق11ب.
"5""أسئلة السُّلَمِيّ": ق7أ.
"6""سنن الدَّارَقُطْنِيّ": 1/241.
"7""سنن الدَّارَقُطْنِيّ": 1/124.
ذلك فقد قَبِل حديثه في موضع من سننه، فقال فيه:""حسن صحيح"""1".
وكذا قَبِل حديثه في موضع آخر لموافقة الثقات له.
والسبب أنه يقدّر ضعف الحفظ هذا، هل هو شديد بمرة، بحيث لا ينجبر؟ أو أنه ضعف يحتمل
…
والأمثلة على هذا كثيرة من كلام الدَّارَقُطْنِيّ وسائر أئمة الحديث المعتدلين في الجرح والتعديل. والله الموفق.
3-
في اقتصاده في ألفاظ الجرح فيقتصر على ما يؤدي الغرض من ذلك:
كقوله السابق في شيخه ابن عُقدة: ""حافظ، محدث، لم يكن في الدين بالقوي، ولا أزِيدُ على هذا"""2". فلا يزيد على العبارة المؤدية للغرض.
ولهذا نجده رحمه الله لا يجيب -غالباً- في بيان حال الراوي إلا بكلمات مختصرة نحو: متروك، لا يعتبر به، لا يكتب حديثه، ولا يبين حال المجروح بالتفصيل إلا إذا دعت إلى ذلك حاجة.
ومن شاء أن يقف على هذا فلينظر سؤالات تلاميذه له وأجوبته لهم، وكذا فهرس أقواله في الرواة المتكلم فيهم في "السنن".
وكان إذا سئل عن راو لا يعلم حاله يقول: لا أدري، أولا أعرفه
…
1-
ومن ذلك: ما قال السهمي في أسئلته:
""وسألت الدَّارَقُطْنِيّ عن تمّام بن الليث بن إسماعيل الصايغ بالرملة. فقال: ما أعرفه"""3".
"1""سنن الدَّارَقُطْنِيّ": 1/342.
"2""السُّلَمِيّ": ق2أ.
"3""السهمي": ق11أ.