الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
""فلما اختلف على أبي أسامة أحببنا أن نعلم من أتى بالصواب، فنظرنا في ذلك فوجدنا شعيب بن أيوب، قد رواه عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير على الوجهين جميعاً، عن محمد بن جعفر بن الزبير، ثم اتبعه عن محمد بن عباد بن جعفر، فصح القولان جميعا عن أبي أسامة وصح أن الوليد بن كثير رواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن محمد بن عباد بن جعفر جميعاً
…
"""1".
وذكر 28 طريقاً للحديث.
"1""سنن الدَّارَقُطْنِيّ": 1/17، وروايات حديث القلتين ذكرها في "السنن"، من 1/13 إلى 25.
المبحث الثاني
رسوخه في معرفة العلل
الإمام الدَّارَقُطْنِيّ واسع المعرفة بعلل الحديث، انتهت إليه فيها الإمامة في عصره، وكتابه في العلل لعله أجود الكتب السابقة واللاحقة في العلل.
وقد أثنى عليه الأئمة بذلك، كما أثنوا على كتابه، وقد تميز الدَّارَقُطْنِيّ بمعرفة العلل حفظاً وفهما، ويظهر هذا بوضوح لمن تأمّل كتابه "العلل" وعلم أنه أجود وأجمع كتب العلل، وأنه أملاه من حفظه، فقال الذهبي عن ذلك:
""قلت: إن كان كتاب العلل الموجود قد أملاه الدَّارَقُطْنِيّ من حفظه -كما دل عليه هذه الحكاية- فهذا أمر عظيم، يُقْضى به للدارقطني أنه
"1""سنن الدَّارَقُطْنِيّ": 1/17، وروايات حديث القلتين ذكرها في "السنن"، من 1/13 إلى 25.
أحفظ أهل الدنيا، وإن كان أملى بعضه من حفظه فهذا ممكن
…
"""1".
قلت: الذي تدل عليه الحكاية أنه أملى جميع كتاب العلل الموجود، كما هو الظاهر، وراويها إمام من الأئمة الثقات، وتلميذ من تلاميذ الدَّارَقُطْنِيّ، وهو أبو بكر البَرْقانِيّ"2".
قال القاضي أبو الطيب الطبري: ""وسألت البَرْقانِيّ: قلت له: كان أبو الحسن الدَّارَقُطْنِيّ يملي عليك العلل من حفظه؟ فقال: نعم
…
"""3".
والإمام الذهبي على هذا الرأي، إلا أنه قال هذا لِبيان عِظَم الأمر، ولذلك علّق على القصة في "تاريخ الإسلام" بقوله:
""قلت: وهذا شيء مدهش، كونه يملي العلل من حفظه، فمن أراد أن يعرف قدر ذلك فليطالع كتاب "العلل" للدارقطني ليعرف [كيف]"4" كان الحفاظ"""5".
والحديث عن كتاب الدَّارَقُطْنِيّ في العلل جزء من الحديث عن رسوخ الدَّارَقُطْنِيّ في معرفة العلل، وقد تحدثت عنه في مبحث مؤلفاته بما يَفِي بالغرض المطلوب هنا.
وفيما يلي بعض النقول، من كتاب "العلل" للدارقطني رحمه الله تعالى،
"1""سير أعلام النبلاء": جـ10 ق523.
"2" انظر: ترجمته في الفصل الأول، من الباب الأول.
"3""تاريخ دمشق": جـ22 ق262أ.
"4" زيادة من عندي ليستقيم الكلام.
"5""تاريخ الإسلام": جـ5 ق5.
نماذج لتأكيد المعنى المتقدم.
جاء في كتاب "العلل" ما يلي:
1-
"وسئل عن حديث قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في محجن.
فقال: يرويه ابن أبي عَروبة، وشعبة، وأبو هلال الراسبي، وأبان العطار، عن قتادة، واختلف فيه عنهم: فرواه عبيد بن الأسود، وسعيد بن عامر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في محجن.
وغيرهما عن شعبة أن أبا بكر قطع
…
ورواه يحيى بن أبي بُكير، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً أيضاً، وكذلك روي عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة، والمحفوظ: عنه موقوفاً.
وروي عن عبد الله بن الصباح العطار، عن أبي علي الحنفي، عن هشام، ورفعه أبو هلال، عن قتادة.
والصواب: عن قتادة، عن أنس أن أبا بكر قطع
…
-غير مرفوع-""1".
فانظر كيف جمع الطرق، وبيّن أن الراجح فيها الوقف لا الرفع، فأعلّ الحديث بذلك.
2-
"وسئل عن حديث يروى عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوليمة: "من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله".
فقال: يرويه أبو عون، واختلف عنه:
فرواه أبو صالح الفراء عن ابن الميول، عن ابن عون، عن مجاهد، عن ابن
"1""العلل"، للدارقطني: جـ4/ق30أ.
عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وغيره يرويه عن ابن عون، عن مجاهد، عن ابن عمر: "من دعي فأجاب
…
" ولم يرفعه.
والصحيح من الإسناد الموقوف"""1".
وهنا وَازَنَ بين طرق الحديث، فوجد بعضها ينتهي إلى رفعه، وبعضها إلى وقفه، فبين أن الصواب الوقف، فالحديث معلّ به.
3-
"وسئل عن حديث عروة، عن عائشة: سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغرابَ فاسقاً.
فقال: يرويه هشام بن عروة، واختلف عنه:
فرواه أبو أويس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
وخالفه شريك: رواه عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكلاهما وَهَمٌ، والصحيح ما رواه ليث بن سعد، وحماد بن سلمة، وأبو معاوية، والمحاربي، رووه عن هشام،
عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً""2".
فانظر كيف استوعب الطرق، وأبان أوجه الاختلاف بينها، ورجح رواية الأوثق، والأكثر عددا، وبيّن أن ما عداه وَهَم، فالحديث عنده معلّ بالإرسال.
4-
"وسئل عن حديث القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أَعلِنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال".
"1""العلل": جـ4 ق48ب.
"2" العلل": جـ5ق125أ.
فقال: حدّث به ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فروى حديثه عيسى بن يونس، واختلف عنه فيه:
فرواه جماعة من الحفاظ عنه، منهم: نصر بن علي، وعلي بن خَشْرم، وأبو همام، والحسين بن حريث أبو عمار المروزي، ومخلد بن مالك. رووه عن يونس، عن خالد بن إلياس، عن ربيعة.
وخالفهم أبو خيثمة مصعب بن سعيد، فرواه عن عيسى، عن حسين المعلم، عن ربيعة، ووهم في ذلك، وإنما هو: خالد بن إلياس.
وكذلك رواه المعافى بن عمران الموصلي، عن خالد بن إلْياس، عن ربيعة، وهو الصواب""1".
وهنا -أيضا بعد جمع الطرق- رجّح رواية العدد الكثير من الثقات، وعلى هذا الرأي جمهور المحدثين.
5-
"وسئل عن حديث قتادة، عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
فقال: تفرد به أبو هلال الراسبي عنه.
وغيره يرويه عن قتادة، عن الحسن مرسلا، والمرسل أصح""2".
وهنا أعلّ الحديث بالإرسال.
6-
"وسئل عن حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أم سلمة: "كان رسول
"1""العلل": جـ5ق143ب.
"2""العلل": جـ4/ق28ب.
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
فقال: يرويه شعبة، واختلف عنه:
فرواه أحمد بن الصباح بن أبي سريج، عن شبابة، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن أم سلمة.
وعن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى مرسلا، وكذلك قال أصحاب شعبة عن شعبة، وهو الصواب""1".
أيضاً أعلّه بالإرسال.
وينبغي أن يُعلم هنا، أن الإمام الدَّارَقُطْنِيّ، قد أعلّ الأحاديث في الأمثلة السابقة بالوقف أو بالإرسال، وللعلماء في ذلك خلاف معلوم، لكن الراجح من أقوالهم: أن زيادة الثقة مقبولة إذا لم يخالِف من هو أوثق منه.
ولذلك اختلفوا هل إسناد المرسل أو الموقوف يكون هو الراجح أو العكس؟.
والصواب أنه لا يعتبر إسناد المرسل أو الموقوف زيادة ثقة مقبولة إلا إذا لم يخالِف من هو أوثق منه.
قال ابن رجب: ""
…
وكذلك قال الدَّارَقُطْنِيّ: المرسل لا تقوم به حجة"""2".
وقال أيضاً: ""وهكذا الدَّارَقُطْنِيّ يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يردّ في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات، ويرجّح الإرسال على الإسناد، فدّل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك المواضع الخاصة، وهي إذا كان الثقة مبرّزا في الحفظ.
"1""العلل"، للدارقطني: جـ5 ق172ب.
"2""شرح علل الترمذي": ص 220.
وقال الدَّارَقُطْنِيّ في حديث زاد في إسناده رجلان ثقتان رجلا، وخالفهما الثوري فلم يذكره، قال: لولا أن الثوري خالف لكان القول قولَ من زاد فيه، لأن زيادة الثقة مقبولة.
وهذا تصريح بأنه إنما تقبل زيادة الثقة إلى لم يخالِف من هو أحفظ منه""1".
قلت: وهذا التفصيل ينزّل على الأمثلة السابقة، وبناء عليه يؤخذ بالمسند أو المرسل والموقوف.
ومن خلال هذه النصوص -المتقدمة القليلة- عن الإمام الدَّارَقُطْنِيّ، في تعليل الأحاديث من حفظه، يظهر للناظر مدى تمكّن هذا الإمام من معرفة العلل، وتبصره بالأحاديث، وأن الأئمة النقاد لم يبالغوا حين قالوا عنه:
""انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله
…
"""2".
""وحيد عصره، وبه خُتم معرفة العلل
…
"""3".
""انتهى الحفظ إلى أبي الحسن الدَّارَقُطْنِيّ
…
"""4".
وقال الحاكم:
""وسألته عن العلل والشيوخ، ودوّنت أجوبته في سؤالاتي، وقد سمعها مني أصحابي"""5". إلى آخر ما قاله عنه الأئمة في هذا الشأن.
"1""شرح علل الترمذي": ص312.
"2" الذهبي في "سير أعلام النبلاء": جـ10 ق520.
"3" الذهبي في "من يعتبر قوله في الجرح والتعديل": ق15.
"4" الحافظ الخطيب الغدادي، قاله لمن قال له:"أنت الشيخ الحافظ أبو بكر؟ ". "تاريخ دمشق": جـ22 ق261ب.
"5""تاريخ دمشق": جـ22 ق240ب.