الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: بيان الموقف الأول:
بعد أن يتتبع المرء كتابات الدَّارَقُطْنِيّ بإمعان، يسلِّم بيقين أنه معترف بصحة منهج الصحيحين، ومطابقتهما لأصول المحدّثين الصحيحة في قبول الأخبار وردِّها، بل تمكنها في ذلك.
وقد نخلْت كتاب "السنن" وأسئلة تلاميذ له، فاستخرجت منها ما يدل على موقفه هذا أو ذاك.
وإليك -فيما يلي- الأدلة على الموقف الأول:
1-
الدليل الأول:
إحالته في توثيق بعض الرواة عليهما، واعتباره إخراج الشيخين بعض الرواة في صحيحيهما غالباً، دليلاً على ثقتهم.
ومن الأمثلة على هذا:
أ - قال الحاكم: ""قلت "أي للدارقطني": فإسحاق بن راشد الجَزَري؟ قال: تكلموا في سماعه من الزهري، وقالوا إنه وَجَدَه في كتاب، والقول عندي قول مسلم بن الحجاج فيه"""1".
ب- وقال -أيضاً-: ""قلت: فمحمد بن عبد الرحمن الطفاوي؟ قال: احتج به البخاري"""2".
جـ- وقال: ""قلت: فميمون بن سِياه؟ قال: محتج به في الصحيح قلت:
"1""أسئلة الحاكم": ق10أ.
"2""أسئلة الحاكم": ق10ب.
فمنصور بن سعد؟ قال: كمثله"""1".
د- وقال: ""قلت: فيونس الإسْكاف عن قتادة؟ قال: قد خرّجه البخاري"""2".
هـ- وقال: ""قلت: فطلحة بن عبد الملك؟ قال: ثقة مخرّج في الصحيح"""3".
و وقال: ""قلت: فعبد الله بن عمر النميري؟ قال: ثقة محتج به في كتاب البخاري"""4".
ز - وقال: ""قلت: فعلى بن الحكم المروزي؟ قال: ثقة، يروي عنه البخاري"""5".
حـ- وقال: ""قلت: فمحمد بن إبراهيم بن دينار؟ قال: ثقة مخرّج في الصحيح"""6".
ط- وقال: ""قلت: فعمر بن يحيى بن سعيد بن العاص؟ فقال: مخرّج في الصحيح"""7".
ي- وقال السُّلَمِيّ: ""وسألته عن أبي حمزة السكري، فقال: ثقة أخرج عنه
"1""أسئلة الحاكم": ق10أ.
"2""أسئلة الحاكم": ق10ب.
"3""أسئلة الحاكم": ق9أ.
"4""أسئلة الحاكم": ق9أ.
"5""أسئلة الحاكم": ق9ب.
"6""أسئلة الحاكم": ق10أ.
"7""أسئلة الحاكم": ق9ب.
في الصحيح"""1".
قلت: فمن خلال النصوص السابقة، عن الإمام الدَّارَقُطْنِيّ، في توثيق الرواة، يتضح أنه يجلّ الصحيحين، ويعترف بصحة منهجهما ويعتبر إخراجهما للراوي في الجملة توثيقاً، ولهذا يقول في الرواة السابقين، الذين هم ثقات عنده، عند ما يسأله أحد تلاميذه عن واحد منهم: قد أخرجه البخاري، أو مسلم، أو أخرج في الصحيحين. وكأن هذا من الأدلة في نظره على ما يراه من توثيق الراوي، والله أعلم.
2-
الدليل الثاني:
إحالته في تصحيح الأحاديث -أحياناً- على الصحيحين أو أحدهما، كما حصل له هذا في مواضع كثيرة من كتاب "السنن" منها:
أ - في "السنن" 1/380 قال في حديث: "أخرجه البخاري".
ب- في "السنن" 2/162 قال في حديث: "أخرجه البخاري".
جـ- في "السنن" 2/283 قال في حديث: "إسناد ثابت صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد".
د- في "السنن" 3/65 قال في حديث: "أخرج في الصحيح".
هـ- في "السنن" 3/65 أيضاً قال في حديث: "هذا صحيح أخرجه البخاري".
و في "السنن" 3/90 قال في حديث: "أخرجه البخاري".
ز- في "السنن" 3/92 قال في حديث: "صحيح أخرجه مسلم".
"1""السُّلَمِيّ": ق11ب.
فكأن الدَّارَقُطْنِيّ في هذه المواضع يصحح الأحاديث، ويعتبر من الأدلة على صحتها إخراج الصحيحين أو أحدهما لها.
3-
الدليل الثالث:
كتاب "الإلزامات" الذي ألّفه لإِلزام صاحبي الصحيحين بإخراج أحاديث يرى صحتها، مثل ما أخرجاه -في الجملة- في صحيحيهما.
فموضوع الكتاب من لازمه تصويب منهج الصحيحين -في الجملة-، ولهذا فإنه يقول في الكتاب:""يلزم مسلما إخراج حديث كذا
…
""، أو ""يلزم البخاري إخراج حديث كذا
…
""، أو ""يلزمهما إخراج حديث كذا
…
"". وقال في مقدمة الكتاب:
"ذِكْرُ ما حضرني ذكره، مما أخرجه البخاري ومسلم، أو أحدهما، من حديث بعض التابعين، وتركا من حديثه شبيها به، ولم يخرجاه أو من حديث نظير له من التابعين الثقات ما يلزم إخراجه على شرطهما ومذهبهما فيما نذكره إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق"""1".
ومضمون الكتاب يؤكد -أيضاً- رأي الدَّارَقُطْنِيّ هذا -تصريحا لا تلميحا- زيادة على الذي مرّ آنفاً.
ومن ذلك قوله: ""واتفقا على إخراج حديث معيقيب، ولم يَرْوِ عنه غير أبي سلمة من وجه يصح مثله.
وانفرد البخاري بحديث سنين بن جميلة، ولم يرو عنه غير الزهري من
"1""الإلزامات" للدارقطني: ص73-74.
وجه يصح مثله
…
وانفرد البخاري بحديث شيبة بن عثمان، ولم يرو عنه غير أبي وائل من وجه يصح مثله
…
وانفرد مسلم بحديث الأغر المزني، ولم يروه عنه غير أبي بردة بن أبي موسى، من وجه يصح مثله.
وانفرد مسلم بحديث أبي رفاعة العدوي، ولم يرو عنه غير حميد بن هلال العدوي، من وجه يصح مثله.
وانفرد مسلم برافع بن عمرو الغفاري أخي الحكم بن عمرو، ولم يرو عنه غير عبد الله بن الصامت، من وجه يصح مثله،
…
إلخ"""1".
ومن ذلك قول الدَّارَقُطْنِيّ -بعد أن ذكر أحاديث لبعض الصحابة، فلخصهم بقوله:
ذِكْر أحاديث رجال من الصحابة رضي الله عنه رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم، رُويت أحاديثهم من وجوه لا مطعن في ناقلهما، ولم يخرجا من أحاديثهم شيئاً، فيلزم إخراجها على مذهبهما، وعلى ما قدّمنا ذكره ما أخرجاه أو أحدهما، وبالله التوفيق.
1-
"2" قد بدأنا في أول الورقة"3" بحديث قيس بن أبي حازم عن دُكين ابن سعيد.
"1""الإلزامات" للدارقطني: ص92-94.
"2" الأرقام من وضعي.
"3" يعني: أول "الإلزامات".
2-
وحديثه عن الصنابح بن الأَعسر.
3-
وحديثه عن أبيه أبي حازم.
4-
وحديثه عن أبي شهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
5-
وحديث نبيط بن شريط، من رواية أبي مالك الأشجعي.
6-
وحديث محمد بن حاطب، من رواية سماك بن حرب.
7-
وحديثه أيضاً من رواية أبي مالك الأشجعي.
8-
وحديث قتادة، عن أبي المليح بن أسامة بن عمير، عن أبيه.
9-
وحديث أبي المليح عن أبي عزة يسار بن عبد، رواه أيوب عنه.
10-
وحديث أبي الأحوص الجشمي، عن أبيه، من رواية ابن إسحاق، وأبي الزعراء، وعبد الملك بن عمير، عنه.
11-
وحديث الحسن بن أحمر بن جزء السدوسي، من رواية عباد بن راشد، عنه"""1".
قلت: وقد بلغت الأحاديث في الإلزامات نحو سبعين حديثاً. وأظن هذا الرأي واضحاً في الكتاب، لا يحتاج إلى توضيح أكثر من هذا.
وهو موقف من الصحيحين يقابل موقفه رحمه الله من الصحيحين في كتاب: "التتبع
…
" ظاهراً.
ولكن الذي أعجب منه هنا شهرة موقفه منهما في "التتبع
…
" عند عامة طلاب العلم، وعند المعاصرين بخاصة، بحيث إنه عند إطلاق رأي الدَّارَقُطْنِيّ
"1""الإلزامات": ص97-98.
في الصحيحين، لا يتبادر إلى الذهن سوى هذا، ولا يخطر بالبال أن له "كتاب الإلزامات" وغيره من الأمور التي تدل على الرأي المقابل. وموقفه هذا شبيه بموقف الحاكم تماما.
لكن الحاكم رحمه الله، يعذر الشيخين في ترك ما تركاه من الحديث الصحيح كما هو معلوم عنه، وكما يدل عليه قوله في مقدمة "المستدرك":""
…
ولم يحكما "يعني الشيخين"، ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه
…
"""1".
في حين أن الدَّارَقُطْنِيّ -فيما يبدو لي- لا يعذرهما في ترك ما تركاه من الأحاديث على شرطهما أو مثله، ويدل على هذا اسم كتابه "الإلزامات"، ومقدمته، وما نقلته منه قريباً، وغيره كثير من الكتاب. والله أعلم.
وقد صرّح الدَّارَقُطْنِيّ نفسه بذلك في النصوص السابقة على أن رأي الدَّارَقُطْنِيّ هذا مردود عند الأئمة بالنصوص المأثورة عن الشيخين رحمهما الله تعالى في أنهما لم يقصد كلٌ منهما جمع كل حديث صحيح في كتابه.
وفوق ذلك فإن الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله تعالى قد أورد بعض الأحاديث في "الإلزامات" مدعيا أنها على شرط الشيخين، وليست كذلك، كما في حديث رقم 35،و36، و52، و56، و64، وغيرها من الإلزامات.
وأيضاً فإنه ليس كل رجل أخرج له الشيخان يكون من شرطهما على الإطلاق، لأنه قد يكون على شرطهما في بعض شيوخه، وليس على
"1""المستدرك" للحاكم: 1/2.
شرطهما في بعض شيوخه الآخرين، ونحو ذلك.
وعلماء الحديث بعامة على هذا الرأي، ولم يقبلوا ما ادعاه الدَّارَقُطْنِيّ أو غيره.
قال السخاوي: ""
…
فإلزام الدَّارَقُطْنِيّ لهما، في جزء أفرده بالتصنيف بأحاديث رجال من الصحابة رويت عنهم من وجوه صحاح، تركاهما مع كونهما على شرطهما، وكذا قول ابن حبان: ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما. ليس بلازم"""1".
ثم إن الأحاديث التي ينطبق عليها شرط الشيخين أو أحدهما كثيرة إذا تتبعها الحافظ المحدث واستقصاها، فلا معنى لذكر سبعين حديثاً وإلزام الشيخين بها.
إلا أن عذر الدَّارَقُطْنِيّ في هذا أنه أَراد ضربَ الأمثلة فقط، لا سيما أنه أورد في كتاب "الإلزامات" ما جال بخاطره وَقْتَ الكتابة، ولذلك قال في مقدمته:""ذِكْر ما حضرني ذكره
…
إلخ"".
4-
الدليل الرابع:
رسالته في "ذِكْر أقوام أخرج لهما الشيخان في صحيحيهما، وضعفهم النسائي في كتابه: "الضعفاء
…
"، وسئل عنهم الدَّارَقُطْنِيّ، فأجاب في أكثرهم بالتوثيق، فخالف النسائيَّ فيهم.
وهذه الرسالة دليل قوي على هذا المسلك من الإمام الدَّارَقُطْنِيّ تجاه الصحيحين، وقد ضربت أمثلة من هذه الرسالة في المبحث الرابع من هذا الفصل.
"1""فتح المغيث": 1/31