الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال".
واعلم أنه وقع في "سنن أبي داود" أحاديث ظاهرة الضعف لم يُبَيِّنْها، مع أنها مُتفقٌ على ضَعْفها عند المحدثين: كالمرسل والمنقطع، وروايته عن مجهول: كشيخ ورجلٍ ونحوه. فقد يقال: إن هذا مخالف لقوله: "ما كان فيه وهن شديد بَيَّنْتُه"!
وجوابه: أنه لمَّا كان ضعف هذا النوع ظاهرًا، استغنى بظهوره عن التصريح ببيانه
(1)
.
2 - فصل
ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء بـ"سنن أبي داود"، وبمعرفته التامة، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتجُّ بها فيه، مع سهولة متناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مُصَنَّفِهِ، واعتنائه بتهذيبه
(2)
.
(1)
قال النووي في "خلاصة الأحكام"(1/ 60): "واعلم أن "سنن أبي داود والترمذي والنسائي" فيها الصحيح والحسن والضعيف، لكن ضعفُها يسير".
ونقل ابن الملقن في "البدر المنير"(1/ 301 - 302) جل هذا الفصل عن النووي وعزاه له، وقال بعد ذكره لأجوبة أخرى غير المذكورة هنا وختم بجواب النووي هذا، وقال:"قلت: فعلى كل حال لا بد من تأويل كلام أبي داود، والحق فيه ما قرره النووي".
(2)
قال أبو داود في "رسالته"(ص 46): "ولا أعلم بعد القرآن ألزمَ للناس أن يتعلّموا من هذا الكتاب، ولا يضر رجلا أن لا يكتب من العلم -بعدما يكتب هذا الكتاب- شيئًا، وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذٍ يعلم مقداره".
وقال (ص 54): "ولم أصنف في "كتاب السنن" إلا الأحكام، ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها، فهذه الاربعة الآلاف والثمان مائة، كلها في الأحكام". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال ابن القيام في "تهذيب السنن"(1/ 23) عنه: "صار حكمًا بين أهل الإسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون".
ونقله السخاوي في "بذل المجهود"(37 - 38) وقال على إثره: "بل كان جماعة من فقهاء المذاهب يحفظونه ويعتمدون مُحَصَّله ومضمونه، وخصوصًا وقد قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتاب "المُستصفى": إن المجتهد لا يحتاج إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له أصلٌ مصححٌ وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كـ"سنن أبي داود"
…
".
قلت: نصّ كلام الغزالي في "المستصفى"(2/ 348) -وهو في "روضة الطالبين" للنووي (11/ 95) - قال: "وزاد الغزالي
…
" فذكره، وأشار الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 491) أنه قاله الغزالي وجماعة من المحققين
…
وتبعه على ذلك الرافعي ونقله الإسنوي في "المهمات" عن النووي ونصه: "وزاد المصنف
…
" أي الرافعي. والنص عينُه عزاه السيوطي في "البحر الذي زخر" (3/ 1204)، والبصري في "ختمه لأبي داود" (ق 4/ أ) إلى الرافعي، ونقل السخاوي في "بذل المجهود" (38 - 39) كلام النووي من قوله: "ينبغي للمشتغل .. " إلى هنا وعزاه لـ "شرحه على سنن أبي داود".
ونقله عن النووي أيضًا السخاوي في "فتح المغيث"(1/ 88)، والسيوطي في "مرقاة الصعود على سنن أبي داود"، (ق 5) وفي "البحر الذي زخر" (3/ 1205) والبصري في "ختم سنن أبي داود" (ق 4/ أ) وصديق حسن خان في "الحطة" (213). وقال السخاوي في "البذل" على إثره:
"لكنه قد تعقب في "الروضة" كلام الغزالي، حيث قال: "إنه لا يصح التمثيل "بسنن أبي داود"؛ فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمه، وذلك ظاهر بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطلاع، وكم في "صحيحي البخاري ومسلم" من حديث حُكْمي ليس في "سنن أبي داود"، أما ما في "كتاب الترمذي والنسائي" وغيرهما من الكتب المعتمدة، فكثرته وشهرته غنية عن التصريح بها" [انتهى ما في "روضة الطالبين" (11/ 95)]. =
رُوِّينا عن الإمام أبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي رحمه الله قال
(1)
: "كتاب السنن" لأبي داود رحمه الله كتابٌ شريفٌ، لم يُصَنَّف في علم
(2)
الدين كتاب مثله، وقد رُزق القبول من الناس كافة،
= قال السخاوي: "وكذا قال التقي ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" له: "التمثيل بسنن أبي داود ليس بجيد عندنا لوجهين: أحدهما: أنه لا يحوي السنن المحتاج إليها، والثاني: أن في بعضه ما لا يحتج به في الأحكام" اهـ.
وأجاب الجمال الإسنوي، شيخ شيوخنا في "المهمات": بأنه لم يَدَّع الاستيعاب، وإنما قال فيه:"الاعتناء بالجميع".
قيل: "وهذا لا يدفع السؤال؛ لأنه إذا علم إهماله لكثير من الأحاديث فلا يكفي في نفي الحديث عدم وجوده فيه؛ لاحتمال وجوده في غيره، فلا تقعُ الكفاية" انتهى.
وكل هذا منهم بناء على أن الغزالي عبر بـ "الجميع" أما حيث عبر بـ "الجمع" على ما هو الواقع في نسخ "المستصفى" حسبما جَزَمَ به البدر الزركشي [في "البحر"(6/ 201)، فلا. ويساعده أنه لم يقع لأحد جمع جميع أحاديث الأحكام في تصنيف لعدم إمكانه، على أن أبا داود نفسه ممن صرّح -كما تقدم- بالحصر فيما يعلم ويتعين حمله على المعظم.
وممن صرح بكونه جمعَ المعظم خاصة البندنيجي من الأئمة المتقدمين، والولي العراقي من المتأخرين، فإنه قال:"لا نسلم أنه لم يستوعب معظم أحاديث الأحكام، فالحق أنه ذكر معظمها، وما لم يذكره منها فهو يسير بالنسبة لما ذكره" انتهى كلام السخاوي.
وما أحسن قول ابن حجر رحمه الله في "ديوانه"(104 - 105) في قصيدته التي امتدح فيه النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها ختم هذا الكتاب:
فَاقَ التصانيف الكبار بجمعِه ال
…
أحكامَ فيها يبذل المجهودا
قد كان أقوى من رأى في بابه
…
يأتي به ويحرر التجويدا
فجزاه عنا الله أفضل ما جزى
…
من في الديانة أبطل الترديدا
(1)
"معالم السنن"(1/ 6)، ونقله عنه المصنف في تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 227)، والسخاوي في "بذل المجهود" (ص 45).
(2)
في "تهذيب الأسماء واللغات": "حكم".
فصار حَكَمًا بين
(1)
فرق العلماء، وطبقات الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم
(2)
، وعليه مَعَوَّلُ أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من أهل الأرض
(3)
، وأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بصحيحي البخاري ومسلم
(4)
، ومن نحَا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما
(5)
، إلاَّ أن كتاب أبي داود أحسنُ رَصْفًا وأكثر فِقْهًا
(6)
. قال: "وكتاب أبي عيسى أيضًا كتاب حَسَنٌ"، قال:"والحديث ثلاثة أقسام: صحيح وحَسَنٌ وضعيفٌ"
(7)
، وعلى أبو الحسن مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله
(1)
كلمة "بين" مكررة في الأصل مرتين.
(2)
بعدها في "المعالم": "فلكل فيه وِرْدٌ ومنه شِرب". وسقط من "تهذيب الأسماء واللغات" أيضًا.
(3)
في "معالم السنن": "وكثير من مدن أقطار الأرض". وفي "تهذيب الأسماء واللغات": "وكثير من أقطار الأرض".
(4)
في "معالم السنن": "بكتاب محمد بن إسماعيل، ومسلم بن الحجاج".
(5)
بعدها في "معالم السنن": "في السبك والانتقاد".
(6)
سئل أبو أبو القاسم خلف بن أبو القاسم الحافظ، فقيل له:"أي كتاب أحبّ إليك في السنن، كتاب النسائي أو كتاب البخاري؟ فقال: كتاب البخاري. فقيل له: أيهما أحب إليك كتاب البخاري أو كتاب أبي داود؟ قال: كتاب أبي داود أحسنهما وأصلحهما"، ذكره ابن خير في "فهرسته"(107) والسخاوي في "بذل المجهود"(ص 107). ونَقظغل ابنُ خير عن أبي محمد بن يربوع إيباءه هذا القول، ورده، فانظر كلامه.
(7)
العبارة في "معالم السنن" هكذا: "ثم اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم". وبعدها: "فالصحيح عندهم ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، والحسن منه ما عرف مخرجه واثشهر رجاله، وعليه مدار .. " وتكلمت على (الحسن) وأنه بالحد المذكور لا يفرق عن (الصحيح)! في شرحي "نظم الاقتراح" للعراقي، وسمّيتُه "البيان والإيضاح"(رقم 14)، وكذا في تعليقي على "الكافي" للتبريزي.
عامة الفقهاء". وقال: "وكتاب أبي داود جامعٌ لهذين النوعين
(1)
، وأما الضعيف فكتاب أبي داود خلي منه
(2)
، وإن وقع فيه شيءٌ منه
(3)
لضربٍ من الحاجة
(4)
فإنه لا يألو أن يبيِّن أمره، ويذكرَ علَّته، ويخرج من عهدته"
(5)
.
(1)
بعدها في "معالم السنن""من الحديث".
(2)
عبارة "معالم السنن" هكذا: "فأما السقيم منه فعلى طبقات؛ شرها الموضوع، ثم المقلوب، أعني ما قلب إسناده، ثم المجهول، وكتاب أبي داود خَليٌّ منها، بريء من جملة وجوههما، فإن
…
".
(3)
بدل "منه" في "معالم السنن": "من بعض أقسامها".
(4)
بعدها في "معالم السنن": "تدعوه إلى ذكره".
(5)
قال الذهبي في "السير"(13/ 214 - 215) على إثره:
"قلتُ: فقد وفى رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبيّن ما ضعفه شديد، ووهنه غير محتمل، وكاسر عن ما ضعفه خفيفٌ مُحتمل، فلا يلزم من سكوته -والحالة هذه- عن الحديث أن يكون حسنًا عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد أبو الحسن باصطلاحنا المولد الحادث، الذي هو في عُرف السلَفِ يعودُ إلى قسمٍ من أقسام الصحيح، الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري، ويمشّيه مسلم، وبالعكس، فهو داخل في أداني مراتب الصحة، فإنه لو انحط عن ذلك لخرج عن الاحتجاج، ولبقي متجاذبًا بين الضعف والحسن، فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب (أ)، ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين، ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسناده جيدًا، سَالمًا من علّة وشذوذ، ثم يليه ما كان إسناده صالحًا، وقِبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعدًا، يعضد كل إسنادٍ منهما الآخر، ثم يليه ما ضُعفَ =
_________
(أ) ليس كذلك حتى لو دخل فيه ما انفرد به البخاري أو مسلم، فعند أبي داود من المتفق عليه نحو (850) حديثاً، وعنده من انفرادات البخاري نحو (200) حديثًا، ومن انفرادات مسلم نحو (600) حديثاً، فالمجموع ألف وست مئة وخمسون (1650) حديثًا، وهذا نحو الثلث من أحاديث الكتاب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إسناده لنقصِ حفظ راويه، فمثل هذا يمشِّيه أبو داود، ويسكتُ عنه غالبًا، ثم يليه ما كان بيِّن الضعفِ من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه، بل يوهنه غالبًا، وقد يسكتُ عنه بحسب شهرته ونكارته، والله أعلم" انتهى.
ونقل العلامة ابن الأمير الصنعاني -رحمه الله تعالى-: في "توضيح الأفكار"(1/ 198) عن النجم الطوفي أنه حكى عن العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال: "اعتبرت "مسند أحمد" فوجدته موافقًا لشرط أبى داود، ومن هنا تظهر لك طريقة من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل ابن لهيعة، وصالح مولى التوءمة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن وردان، وسلمة بن أبو الفضل، ودلهم بن صالح، وغيرهم، فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه في الاحتجاج بهم؛ بل طريقه أن ينظر: هل لذلك الحديث متابع يعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؛ لا سيما إن كان مخالفًا لرواية من هو أوثق منه؛ فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن دحية، وصدقة الدقيقي، وعمرو بن واقد العمري، ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني، وأبي حيان الكلبي، وسليمان بن أرقم، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وأمثالهم في المتروكين، وكذلك ما فيه من الأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاءً بما تقدم من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه، وتارة يكون لذهول منه، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته، كأبي الحويرث، ويحيى بن العلاء، وغيرهما، وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر فإن في رواية أبي الحسن ابن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته عنه أشهر". ثم عدَّ أمثلة من أحاديث "السنن" فيها ما يؤكد ما قاله، ثم قال:"والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بإلاحاديث الضعيفة، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه، والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى ذلك، فكيف يقلده فيه هذا جميعه إن حملنا قوله: "وما لم أقل فيه شيء =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فهو صالح" على أن مراده صالح للحجية وللاستشهاد والمتابعة، فلا يلزم منه أن يحتج بالضعيف، ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة، هل منها أفراد أو لا، إن وجد فيها أفراد تعين الحمل على الأول وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عنه للاحتجاج مطلقًا" اهـ، وقال -رحمه الله تعالى- أيضًا (1/ 201):
"وتحقيق عبارته: أن الذي سكت عنه ليس فيه وهن شديد، وهو يحتمل أن لا وهن فيه أصلاً، فيكون صحيحًا أو حسنًا، ويحتمل أن فيه وهنًا لكنه غير شديد، وحينئذٍ فالصواب أن يحتمل الثلاثة: أبو الحسن والصحة، والوهن غير الشديد، لا كما قاله ابن الصلاح، ولا كما قاله ابن رشيد" اهـ ـ (أ).
ونقل الشوكاني -رحمه الله تعالى- في مقدمة "نيل الأوطار"(1/ 15) ط. دار الفكر) كلام الصنعاني هذا، وضمّنه أيضا كلام النووي، ونسوقه بحروفه، لزيادة البيان السابق، قال رحمه الله تعالى:"ومن هذا القبيل ما سكت عنه أبو داود، وذلك لما رواه ابن الصلاح عن أبي داود أنه قال: "ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح وبعضها أصح من بعض".
قال: "روينا عنه أنه قال: ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه".
قال الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير أنه أجاز ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الحفَّاظ العمل بما سكت عنه أبو داود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله مما روي عنه.
قال النووي: إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب ترك ذلك.
قال ابن الصلاح: وعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورًا مطلقًا ولم نعلم صحته؛ عرفنا أنه من أبو الحسن عند أبي داود؛ لأن ما سكت عنه يحتمل عند أبي داود الصحة والحسن، انتهى.
وقد اعتنى المنذري رحمه الله في نقد الأحاديث المذكورة في "سنن =
_________
(أ) تقدم قوله مع موافقة ابن سيد الناس له.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أبي داود"، وبيَّن ضعف كثير مما سكت عنه، فيكون ذلك خارجًا عما يجوز العمل به وما سكتا عليه جميعًا، فلا شك أنه صالح للاحتجاج إلا في مواضع يسيرة قد نبهت على بعضها في هذا الشرح". انتهى كلامه.
وممن نحى منحى التفصيل والتقعيد، والوقوف على منشأ خطأ فهم عبارة أبي داود الحافظ البقاعي -رحمه الله تعالى- (تلميذ ابن حجر).
قال رحمه الله تعالى في كتابه "النكت الوفية"(ق 72/ ب-73/ أ) ما نصّه:
"
…
فليس بمسلم أن كل ما سكت عليه أبو داود يكون حسنًا؛ بل هو وهم أتى من جهة أن أبا داود يريد بقوله "صالح" صلاحيّة الاحتجاج.
ومن فهم أن "أصح" في قوله: "وبعضها أصح من بعض" تقتضي اشتراكًا في الصحة، وكذا قوله:"أنه يذكر في كل باب أصح ما عرف فيه" وليس الأمر في ذلك كذلك، أما من جهة قوله:"صالح" فلأنه كما يحتمل أن يريد صلاحيته للاحتجاج، فكذا يحتمل أن يريد صلاحيته للاعتبار، فإن أبا داود قال في الرسالة التي أرسلها إلى من سأله عن اصطلاحه في كتابه:"ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما فيه وهن شديد بيَّنته، وما لا، فصالح، وبعضها أصح من بعض".
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "واشتمل هذا الكلام على خمسة أنواع:
الأول: الصحيح، ويجوز أن يريد به الصحيح لذاته.
الثاني: شبهه ويمكن أن يريد به الصحيح لغيره.
الثالث: مقاربه ويحتمل أن يريد أبو الحسن لذاته.
والرابع: الذي فيه وهن شديد.
وقوله: "وما لا" يفهم منه: أن الذي فيه وهن ليس بشديد فهو قسم خامس، فإن لم يعتضد كان صالحًا للاعتبار فقط، وإن اعتضد صار حسنًا لغيره، أي الهيئة المجموعة وصلح للاحتجاج وكان قسمًا سادسًا. وعلى تقدير تسليم أن مراده صالح للاحتجاج لا يستلزم الحكم بتحسين ما سكت عليه، فإنه يرى الاحتجاج بالضعيف إذا لم يوجد في الباب غيره
…
اقتداء بأحمد رضي الله عنه اهـ. وممَّن حرر المسألة وفصلها السخاوي في "فتح المغيث"(1/ 78 - 79) ونسوق كلامه بطوله، وقد جمع فيه الأقوال السابقة ونقحها وهذبها وحررها، فقال: =
قال
(1)
: "وُيحكى لنا عن أبي داود أنه قال: "ما ذكرتُ في كتابي حديثًا اجتمع الناس على تركه"، قال
(2)
: "وكان تصنيف علماء الحديث قبل
(3)
أبي داود: الجوامع والمسانيد ونحوهما، فَتَجمَعُ تلك الكتبُ
= "فالمسكوت عليه إما صحيح أو أصح إلا أن الواقع خلافه، ولا مانع من استعمال أصح بالمعنى اللغوي، أي، التشبيه؛ بل قد استعمله كذلك غير واحد، منهم: الترمذي، فإنه يورد الحديث من جهة الضعيف ثم من جهة غيره، ويقول عقب الثاني: إنه أصح من حديث فلان الضعيف، وصنيع أبي داود يقتضيه لما في المسكوت عليه من الضعيف بالاستقراء، وكذا هو واضح من حصره التبيين بالوهن الشديد، إذ مفهومه أن غير الشديد لا يبينه.
وحينئذٍ فالصلاحية في كلامه أعم من أن تكون للاحتجاج أو الاستشهاد، فما ارتقى إلى الصحة ثم أبو الحسن فهو بالمعنى الأول، وما عداها فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو الذي فيه وهن شديد، وقد التزم بيانه، وقد تكون الصلاحية على ظاهرها في الاحتجاج ولا ينافيه وجود الضعيف؛ لأنه كما سيأتي يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وهو أقوى عنده من رأي الرجال، ولذلك قال ابن عبد البر:"إن كل ما سكت عليه صحيح عنده، لا سيما إن لم يكن في الباب غيره". على أن في قول ابن الصلاح: "وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره". ما يوحي إلى التنبيه لما أشار إليه ابن رشيد كما نبه عليه ابن سيد الناس؛ لأنه جوز أن يخالف حكمه حكم غيره في طرف، فكذلك يجوِّز أن يخالفه في طرف آخر، وفيه نظر لاستلزامه نقض ما قرره.
وبالجملة: فالمسكوت عنه أقسام، منه ما هو في "الصحيحين"، أو على شرط الصحة، أو حسن لذاته، أو مع الاعتضاد، وهما كثير في كتابه جدًا، ومنه ما هو ضعيف، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه".
(1)
"معالم السنن"(1/ 6)، وفيه:"وَحُكيَ".
(2)
"معالم السنن"(1/ 7)، ونقله عنه المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 227).
(3)
في "معالم السنن": "قبل زمان".
مع
(1)
السنن والأحكام أخبارًا وقصصًا ومواعظَ وآدابًا، فأمّا السنن المحضة فلم يقصد أَحَدٌ
(2)
منهم جمعها واستيفاءها
(3)
على حسب ما اتَّفَقَ لأبي داود، ولذلك حَلَّ هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر مَحَلَّ العجب، فَضُربت فيه أكباد الإبل، ودامت إليه الرَّحلُ "
(4)
. ثم رَوَى الخطابيُّ بإسناده عن إبراهيم الحربي
(5)
قال: "لما صَنَّفَ أبو داود هذا الكتاب، أُلين له الحديث كما أُلين لداود صلى الله عليه وسلم الحديد". قال الخطابي
(6)
: "وسمعتُ ابن الأعرابي يقول -ونحن نسمع منه هذا الكتاب
(7)
-: "لو أنَّ رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف
(8)
ثم
(1)
بدل (مع) في "معالم السنن": "إلى ما فيها من".
(2)
في "معالم السنن": "واحد".
(3)
بعدها في "معالم السنن": "ولم يقدر على تخليصها (تلخيصها) واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة، ومن أدلة سياقها" ونقله المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 227) عدا "ومن أدلة سياقها".
(4)
في الأصل: "الرجل"! وفي "معالم السنن": "الرحل"، جمع رحلة وهو الصواب، وكذا عند المصنِّف في "تهذيب الأسماء واللغات".
(5)
قول الحربي عند ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(22/ 195 - 196) مسندًا.
وذكره المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 226)، والذهبي في "السير"(13/ 212)، و"تاريخ الإسلام"(6/ 552)، والمزي في "تهذيب الكمال"(11/ 365)، والسخاوي في "بذل المجهود"(75). وعزاه في "السير" والمري والسخاوي للحربي، ومحمد بن أبو إسحاق الصغاني، وأورد مقولة الصغاني: ابن طاهر في "شروط الأئمة الستة"(103).
(6)
"معالم السنن"(1/ 8) ونقله عنه المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 226).
(7)
بعدها في "معالم السنن": "فأشار إلى النسخة وهي بين يديه".
(8)
بعدها في "معالم السنن": "الذي فيه كتاب الله".
هذا الكتاب، لم يَحْتَجْ معهما إلى شيءٍ من العلم البَتَّة"
(1)
، قال الخطابي: "وهذا كما قال لا شكَّ فيه؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه تبيانًا لكل شيءٍ، وقال تعالى:{ومَا فَرطنَا فِي الكتب مِن شَيء}
(2)
[الأنعام: 38]، لكن التبيان ضَرْبان: جَليٌّ ذَكَرَهُ نَصًّا
(3)
، وخَفيٌّ بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
، فمن جمع
(5)
الكتاب والسنَّة فقد استكمل ضَرْبَي
(6)
البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه من الحديث في أصول العلم، وأمهات السنن، وأحكام الفقه، ما لا نعلم مُتقدّمًا سبقه إليه، ولا متأخرًا لحقه فيه [رحمه الله]
(7)
".
ورُوّينا عن أبي داود رحمه الله قال: "كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس
(1)
نقله السخاوي في "بذل المجهود"(59 ط أضواء السلف).
(2)
بعدها في "معالم السنن": (فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئًا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلاَّ أن البيان على ضربين".
(3)
جاءت العبارة في "معالم السنن" هكذا: "وبيان جلي، تناوله الذكر نَصًّا"، وهكذا نقلها عنه المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 226 - 227) والسخاوي في "بذل المجهود"(ص 60).
(4)
جاءت العبارة في "معالم السنن" هكذا: "وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمنًا، فما كان من هذا الضرب، كان تفصيل بيانه موكولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قوله سبحانه: {لِتُبَيِنَ لِلناسِ مَا نُزِّلَ إلَيهم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُون} [النحل: 44] ". وهكذا نقله عنه المصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 227)، والسخاوي في "بذل المجهود"(ص 60).
(5)
في "معالم السنن": "جمع بين"، وهكذا هي عند السخاوي، وسقطت من "تهذيب الأسماء واللغات".
(6)
في "معالم السنن": "استوفى وجهي"، وهكذا هي عند المصنف في "التهذيب" وعند السخاوي.
(7)
ليست في "معالم السنن".
مئة ألف حديث، انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُه هذا الكتاب -يعني كتاب "السنن"- جمعتُ فيه أربعة آلاف وثمان مئة حديث، ذكرتُ الصحيح وما يشبهه ويقاربه"
(1)
.
(1)
هو أصل مسائل مالك والشافعي والثوري، والفقهاء المعتبرين في زمانه، انتخبه -وهو أربعة آلاف وثمان مئة في العدد- من خمسة مئة ألف حديث بالسند، أفاده السخاوي في "بذل المجهود"(ص 31) من كلام أبي داود، وقال على إثره: "وكأنه اقتصر في هذه العدة على غير المتكرر، وإلاَّ فقد قال أبو الحسن بن العبد فيما هو له مقرر: إنه ستة آلاف على التحرير، منها أربعة بغير تكرير، قال: والبصري يزيد على البغدادي فيما علمه، ست مئة ونيفًا وستين حديثًا مع نيفٍ وألفِ كلمة.
هذا مع إيراده لها على أحسن ترتيب وأبدع نظام، وقرب شبهه من صنيع مسلم الإمام، في الحرصِ على تمييز ألفاظ الشيوخ في الصيغ والأنساب، فضلاً عن المتون المقصودة بالانتخاب".
قلت: بلغ عدد الأحاديث في رواية اللؤلؤي وهي المطبوعة المشهورة (5274) حديثًا، ونقل ابن الصلاح في "مقدمته"(52)، والمصنف في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 226)، و"التقريب"(1/ 167) مع "التدريب"، والذهبي في "السير"(13/ 209 - 210) مقولة أبي داود هذه وزاد عليها، وأولها: "وقال أبو أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود يقول: كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" بنحوها. وذكرها أيضًا: العراقي في "فتح المغيث" (1/ 45)، ولم يحدد هؤلاء مصدرًا لها.
وذكرها العراقي في "التقييد والإيضاح"(55)، والبقاعي في "النكت الوفية"(ق 72/ أ)، وحاجي خليفة في "كشف الظنون"(2/ 1004 - 1005)، وعزووها إلى أبي داود في "رسالته إلى أهل مكة"! وهذا ليس بصحيح، فهي ليست فيه! ويفهم من إيراد الحازمي لها في "شروط الأئمة"(55) أنها ليست في رسالته؛ لأنه ذكر قسمًا منها، ثم قال:"وقد رَوينا عن أبي أبو بكر بن داسة .. " وذكر هذه العبارة.
بقي بعد هذا: "قول أبي داود: "وما يشبهه" يعني في الصحة، "وما يقاربه": =