الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[شرح مقدمة كفاية المتحفظ]
وقد ابتدأ المصنف - رحمه الله تعالى - كغيره من المصنفين تبركًا بالتسمية، وتيمنًا بالبسملة السمية، فقال:(بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بكتاب الله تعالى المجمع على ابتدائه بالتسمية، وإن وقع الخلاف بين الأئمة في كونها آية من الفاتحة، كما هو رأي الشافعي - رحمه الله تعالى - أم لا، كما هو رأي باقي الأئمة رضي الله عنهم وعملًا بما رواه الخطيب في الجامع وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم:«كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» . وقد اشتهر الكلام على البسملة ومباحثها في أول كل مصنف، ومبادئ كل مؤلف، فأغنانا ذلك عن تتبعها واستقراء ما يتعلق بها، إذ ليست مقصودنا في هذا المؤلف، وقد استوعبنا غالب ما يتعلق بها من المطالب، وأحطنا بما تقر به من ذلك عين الطالب في كتابنا الموسوم بـ «سمط الفرائد فيما يتعلق بالبسملة والصلاة من الفوائد» ، فمن رام التوسعة في ذلك فليراجعه هنالك.
ويوجد في بعض النسخ الصحيحة، (يقول العبد الفقيد إلى الله تعالى ابراهيم بن اسماعيل الأطرابلسي المعروف بابن الأجدابي عفا الله عنه) ،
أقول - مستمدًا من واهب العقول، - يقول مضارع قال الواوي، ومصدره القول، وهوموضوع لتحكى به الجمل أو ما في معناها كما في كتب العربية، والمحكي هنا قوله بعد الحمد لله رب العالمين
…
الخ: «الكتاب» .
و«العبد» : الإنسان، حرًا كان أو مملوكًا كما في القاموس وغيره، وله اثنان وعشرون جمعًا، مجموعة في قول ابن مالك:
عباد عبيد جمع عبدٍ، وأعبد
…
أعابد معبوداء معبدة عبد
كذلك عبدان وعبدان أثبتا
…
كذاك العبدى وامدد إن شئت أن تمد
وقول السيوطي:
وقد زيد أعباد عبود عبدة
…
وخففت بفتح، والعبدان إن تشد
وأعبدة عبدون ثمت بعدها
…
عبيدون معبودا بقصرٍ فخذ تسد
وقول شيخنا أبي محمد الفارسي:
وما ندسًا وازى، كذاك معابدٌ
…
بذين تفي عشرين واثنين إن تعد
ويقال له «العبد» بزيادة اللام أيضًا، وقدمه لأنه أشرف أوصاف الإنسان عند الله تعالى، ولذلك قال:{سبحان الذي أسرى بعبده} ، {واذكر عبدنا} و {نعم العبد} وغير ذلك، وقال:
لا تدعني إلا بـ «يا عبدها»
…
فإنه أشرف أسمائي
نسأل الله تعالى أن يحققنا بوصف العبودية له، ويجعلنا من المتسربلين بجلابيبها بجاه محمد وآله. و «الفقير» ، المحتاج المضطر غاية الاضطرار، والفقر بالفتح والضم، والافتقار: الحاجة وعدم الغنى، وقد اختلفوا في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال حققتها في شرح نظم الفصيح وشرح القاموس وغيره. والفعل منه افتقر، وفقر كفرح وكرم، ومن هذا الثلاثي بناء قولهم: ما أفقره، وهو أفقر من زيد، لا من افتقر كما توهمه جمع من النحويين، وزعموا أنه شاذ، وقد بسطته في حواشي التوضيح، وشرح الكافية الكبرى، وشرح نظم الفصيح وغيرها بما لا مزيد عليه.
ووصف العبد بالفقر إظهارًا لكمال العبودية والاحتياج إلى الله تعالى، واستشعارًا لقوله تعالى:{يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} . وابراهيم اسمه، وهو بدل من العبد، وذكر اسمه أولًا للتحريض
على الاعتناء بكتابه، والاشتغال به، لأن العلوم النقلية المحضة، ومنها علوم اللغة تتوقف على معرفة الناقل، والإحاطة بأحواله، وكونه ثقة وهو إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الله الأطرابلسي، المعروف كما قال: بابن الأجدابي، كأنه نسبه إلى «أجدابية» بالفتح، وهي قرية عظيمة من بلاد أفريقية، قريبة إلى برقة، بينها وبين أطرابس نحو خمس عشرة مرحلة، وفيها آثار الأبنية العظيمة، والقصور الجسيمة، ورأيت من ضبطه في نسب المصنف بالذال المعجمة، وما إخاله إلا تصحيفًا، وكنيته أبو إسحق، وكان من صدور المائة السابعة وأئمتها الأعلام، أثنى عليه المجد اللغوي في بعض تصانيفه، وذكره الجلال السيوطي في البغية، ووصفه بالجلالة في العربية، واعتنى بهذا المختصر جمع من الأئمة المقتدى بهم واعتمدوه، وأكثر من النقل عنه الحافظ الثقة أحمد الفيومي في كتابه «المصباح المنير» ، والإمام كمال الدين الدميري في «حياة الحيوان» ، وغيرهما، وعدلوه بالمصنفات الكبار، كالصحاح والتهذيب والمجمل ونحوها، وربما اختار كلامه في المصباح عليهم أحيانًا، واعتنى بخدمته الإمام الأديب البارع قاضي الحرم، جمال الدين محمد بن أحمد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد الطبري، فنظمه في نحو ألف وثلاثمائة بيت نظمًا حلوا، على ارتكاب أوهام، وبعد أفهام. ومدحه
الفقيه الأديب العلامة جمال الدين علي بن صالح العدوي، فأجاد حيث قال:
من كان يطلب في الغريب وسيلةً
…
من شاعرٍ أو كاتب متلفظ
أو كان يبغي في الكلام بلاغةٌ
…
فليحفظن كفاية المتحفظ
وشهرته بين أهل الفن كافية، وإن كانت فيه مواضع تفتقر إلى ضبط، وكذلك تشكل مطالعته على غير المهرة بالفن، وقوله: عفا الله عنه، أي تجاوز عنه، وصفح عن سيئاته، جملة دعائية، اختارها اتهامًا للنفس، وتحذيرًا من دسائسها التي تسري إليها بالتأليف، كأنه عد تأليفه لهذا الكتاب مما يسأل لأجله العفو والصفح، حتى لا يحصل للنفس بالتصدي لذلك نوع افتخار واستكبار، والله أعلم.
ثم ثنى بالحمدلة، جمعًا بين الروايتين، واغتنامًا للبركتين، فقال:(الحمد لله رب العالمين) مؤثرًا للجملة الاسمية على الفعلية، ليوافق ابتداء الكتاب العزيز، الذي هو أفصح الكلام وأبلغه، ولذلك ختمه بـ «رب العالمين» حتى تتم الموافقة، وتكمل البركة، ولما في الجملة الاسمية من الدلالة على الثبوت والدوام، وقدم لفظ الحمد باعتبار أن المقام يقتضي أهمية تقديمه، وإن كان لفظ الجلالة أهم في نفسه كما ذهب إليه الزمخشري ومن وافقه من المحققين والحمد لغةً: الوصف بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل، سواء أكان في مقابلة نعمة أم لا، والفرق بينه وبين الشكر، وكذلك النسب الستة التي بينهما مما اشتهر بين الطلاب، وحشي به أوائل كل كتاب، فلا حاجة
إلى التطويل والإسهاب. والفعل منه: حمد، بالكسر. يحمد كسمع، حمدًا، ومحمدًا ومحمدًا [ومحمدة] ومحمدةً. وأحمد: صار أمره إلى الحمد، أو فعل ما يحمد عليه، قاله في القاموس، وقد أوردته وأشبعت الكلام عليه في شرح نظم الفصيح. د
و«الله» : علم على ذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، دال عليه تعالى دلالة جامعة لمعاني أسمائه الحسنى كلها، ما علم منها وما لم يعلم، ولذلك يقال في كل اسم من أسمائه الكريمة: هو من أسماء الله ولا ينعكس، وقد أوضحت الفرق بينه وبين الإله في «شرح نظم الفصيح» ، وصححت الفرق بينهما لفظًا ومعنى، ونقلت كلام ابن مالك في شرح التسهيل، وكلام شارح اللب، على صحة التفرقة، ورددت ما أجمله الشمني في حواشي المغني من الميل إلى موافقتهما، بما لا يزيد عليه، وأشرت هنالك إلى الخلاف في كونه مشتقًا، كما هو مذهب علماء الأدب والاشتقاق، أو غير مشتق كما هو الأصح من مذهب الجمهور، وعلى القول باشتقاقه، هل مشتق من أله، أو من وله، أو من لاه يلوه، أو من لاه يليه، أو من غير ذلك من الأقوال التي استقصيتها في «سمط الفرائد» ، وأوردت في اشتقاقه نيفًا وثلاثين قولًا، وبينت أن اقتصار المجد الشيرازي في «المباسيط» على عشرين قولًا قصور، وأن تبجحه بذلك في القاموس وغيره من كتبه غير
جارٍ على قوانين المتبجح باستقصاء غرائب الأمور، وصححت أنه علم غير مشتق كما هو قول أكثر أئمة المحققين من الأصوليين والفقهاء. والله أعلم.
و«الرب» : في الأصل معناه التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، ثم وصف به للمبالغة كالعدل، وهو نعت من ربه يربه فهو رب، كما قالوا نمة ينمه فهو نم، ثم سمي به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويريبه، كما أشار إليه الزمخشري والبيضاوي والتفتازاني وغيرهم. قالوا: ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدًا نحو: {ارجع إلى ربك} . ويطلق الرب بمعنى الملك، والسيد، والمبعود، والمالك، والخالق، والمربي، والقائم بالأمور، والمصلح لما يفسد منها، ومستحق الشيء، وصاحبه، قاله ابن عطية في تفسيره، وذكر مثله عياض، وابن الأثير وغيرهم. قال ابن عطية: وهذه الإطلاقات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق هو رب الأرباب على كل جهة، وهو الله تعالى. ووقع في القاموس: الرب باللام لا يطلق لغير الله عز وجل، وقد يخفف. قلت: التخفيف، مع انفراده به لا يدرى مرجعه، وقد ناقشته في حواشيه، وأشرت له في شرح نظم الفصيح وغيره، ولجواز إطلاق الرب على هذه المعاني كلها، وصحة معناها في وصف الله تعالى، حسن إيثار وصف الجلالة به دون المالك ونحوه، كما نبه عليه
ابن كمال باشا في تفسيره. وما أشرنا إليه من جواز إطلاق «رب» نكرة ومقيدًا على غيره سبحانه وتعالى كرب الدار ونحوه، هو الذي عليه الجمهور، وبحث فيه الطيبي في حواشي الكشاف وشرح المشكاة وغيرهما، قائلًا: إنه لا يجوز إطلاقه على غير الله مطلقًا، واستدل لذلك بحديث الصحيحين عن أبي هريرة:«لا يقل أحدكم ربي، وليقل سيدي ومولاي» . وأما قول يوسف عليه السلام فهو ملحق بقوله تعالى: {وخروا له سجدًا} ، من الاختصاص بزمانه. وأجيب عنه بوجوه مذكورة في حواشي الكشاف والبيضاوي وغيرهما من المطولات التي لسنا بصدد التنزل لها.
و«العالمين» : جمع عالم بفتح اللام، وهو اسم لما يعلم به الشيء كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع، سبحانه، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجبة لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب للعقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم، هذا هو الذي صدر في «معالم التنزيل» ، وحكى غيره من الأقوال بـ «قليل» ، وصدر في الكشاف بأن العالم
اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، ثم ثنى بما ذكره في المعالم، ووجه جمعيته بما أشير إليه من الشمول، وكونها بالياء والنون مع عدم العلمية والوصفية بأنه إنما ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم. وها هنا في حواشيهما أبحادث نفيسة، أعرضنا عنها خشية الطول، والذي جزم به ابن مالك وقال إنه التحقيق، هو كون العالم اسم جمع محمولًا على الجمع، لأنه لو كان جمعًا لعالم لزم أن يكون المفرد أوسع دلالة من الجمع، لأن العالم اسم لما سوى الله تعالى، والعالمين خاص بالعقلاء. قلت: الظاهر الذي يثلج له الصدر أن العالم له في كلامهم استعمالان، فتارةً يطلقونه بمعنى ما سوى الله تعالى كما هو إطلاق المتكلمين والمناطقة، وتارةً يطلقونه على بعض أصناف الموجودات، وأجناسها كما يقال عالم الملائكة، وعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم البنات وغير ذلك، وإنما يقصدون إلى جمعه على هذا الاستعمال الثاني، وعليه فلا يكون المفرد أوسع دائرة من جمعه كما يقوله ابن مالك رحمه الله لاختلاف المجموع، ويؤيده ما ورد في الأخبار المأثورة من الخلاف في أعداد العوالم، فقيل: لله تعالى ألف عالم، وقيل: ثمانية عشر ألف عالم، وقيل: أربعون ألف عالم، وقيل: ثمانون ألف عالم، وقيل: مائة ألف عالم، وقيل غير ذلك. قال كعب الأحبار: لا يحصى عدد العالمين إلا الله، {وما يعلم جنود ربك إلا هو} . وقد بسطها «الثعلبي» في تفسيره، والسيوطي في «الدر» وغيره، ونقل
بعض ذلك «الملاخسرو» وغيرهم من المفسرين، فمثل هذه الآثار تدل على تعدد العالم واستعماله بمعنى آخر غير ما أراده ابن مالك، وإن كان هو الجاري على الألسنة، ولا سيما بين المتكلمين والمناطقة والحكماء، والله أعلم.
ولما حاز الفضيلتين، وجمع بركة التسميتين، وعمل بمقتضى الروايتين ثلث بخاتمة البركتين فقال:(وصلى الله على محمد خاتم النبيين) مقتفيًا أثر السلف في ابتدائهم كتبهم وخطبهم بعد البسملة والحمد لله بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لما في ذلك من الفوائد المهمة التي حليت بجواهرها معاطف كتابنا «سمط الفرائد» ، وألممت ببعضها في «شرح نظم الفصيح» ، إذ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لها فوائد يكل دونها الحساب، ولا يحيط بها قرطاس ولا كتاب، والمتعلق منها بالابتداء أمور:
منها ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: «كل كلام لا يذكر الله تعالى فيه، فيبدأ به وبالصلاة عليَّ فهو أقطع ممحوق من كل بركة» أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» ، وأبو موسى المديني، والخليلي،
والرهاوي في «الأربعين» وغيرهم. قال الحافظ السخاوي: وسنده ضعيف، وهو في «فوائد ابن منده» بلفظ «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله ثم بالصلاة عليَّ فهو أقطع أكتع» ، وقد أشبعت عليه الكلام في «السمط» ، ورقيته إلى درجة السحن، وبينت أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال وغير ذلك.
ومنها: امتثال قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} ، وقد تقرر أن الأصل في الأمر الوجوب، ويخلص منه المكلف بالمرة الواحدة إذا لم يعين له حد، ثم يبقى الطلب على جهة الاستحباب على ما بين في الأصول.
وفي أمره تعالى بها عقب قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} من شرفها ومزيتها وعظم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه مال اتفي به العبارات، ولا تستوفيه الاعتبارات، كما ألممت بغالب أسرار ذلك في «شرح القصيدة المضربة في الصلاة على خير البرية» .
ومنها: القيام بشكر الوسائط جمعًا بين الشريعة والحقيقة، إذ حمده تعالى على نعمائه وشكره على جزيل آلائه حقيقة:{وما بكم من نعمةٍ فيمن الله} ، لكن جاء الشرع بشكر الوسائط أيضًا، إذ «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الواسطة العظمى للعباد في
كل خير ديني أو دنيوي، وجميع النعم الواصلة إليهم التي أعظمها الهداية إلى الإيمان - إنما هي ببركته صلى الله عليه وسلم.
ومنها: اغتنام بعض ما ورد في الصلاة عليه من الفضائل والأمور التي لا حصر لها كما تدل له الآية السابقة، والأحاديث الصحيحة الشهيرة، وغير ذلك مما أوضحته في «السمط» وزدته إيضاحًا في، «شرح المضرية»
وآثر هنا الجملة الفعلية لما فيها من الدلالة على التجدد والموافقة للقرآن، لأنه وقع فيه التعبير بالفعل المضارع والأمر كما مر، وآثر الماضوية إما لتحقق الوقوع كما هو المشهور في الجمل الدعائية مثل: رحمه الله، ورضي عنه وهو الظاهر، وذلك هو نكتة إقامة الماضي مقام المضارع، أو لأن الماضي في مثل هذا المقام ليس معناه الانقطاع، بل الاستمرار نظير «كان الله غفورًا رحيما» وأمثاله. فليس المراد الإخبار عن شيء انقطع، بل المراد ثبوت ذلك الوصف له مطلقًا في الماضي والمستقبل، أي: ولا يزال كذلك كما اختاره القرافي. والجملة معطوفة على التي قبلها، لأن عطف الفعلية على الاسمية وعكسه جائز على الأصح، ولا سيما إذا قلنا بإنشائهما على ما هو مختار المحققين، كما أوضحته وبسطته في السمط. ومعنى «صلى الله على محمد»: زاده أثرة وتشريفًا وتعظيمًا، إذ ليس المراد من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أصل معناها الذي هو الرقة والرحمة والعطف والحنو كما ذكره السهيلي في الروض الأنف، وعلل به تعديتها بـ «على» وبسطته في
السمط، بل المراد الزيادة في مراتبه العالية، ومقاماته السامية كما أشار إليه أبو بكر القشيري وغيره من المحققين، وأومأ إليه أبو العالية. وقد خفي أصل معنى الصلاة على كثيرين، فوقعوا في مجازفة بلا تحقيق، وموهوا بأنواع المخالفة عن غير تدقيق، وقد استوفيت ذلك كله في «السمط» ، وزدته إيضاحًا في «شرح المضرية» ، واستقصيت الأقوال في معنى الصلاة، وأوردت ما شاع على الألسنة من أنها من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن العباد دعاء، وأن ابن هشام في المغني بعد ذلك من جهات مبحوث فيها، وأن أصل ما أورده للسهيلي في نتائج الفكر، وغير ذلك من الأبحاث الشريفة والنكت اللطيفة وقد قال المجد كالجوهري، والسعد في «التلويح» وغيرهم: إن المصدر من صلى: صلاة، قالوا: ولا يقال تصلية، وتمالأ على ذلك جمع من اللغويين والفقهاء والمحدثين، حتى قال الشيخ أبو عبد الله الحطاب في شرح المختصر عن بعض الشافعية: إنه حذر من استعمال لفظ التصلية بدل الصلاة، وقال: إنه موقع في الكفر لمن تأمله، لأن التصلية الإحراق، ثم نقل عن العلاء الكناني المالكي مثله، بل بالغ في الإنكار حتى قال: إن العرب لم تفه بذلك قط، ولا قالت في الصلاة بمعنى الدعاء أو الشرعية، أو على النبي صلى الله عليه وسلم تصلية، وإنما يقولون صلاة خاصة، وقد رده شيخ
شيوخنا العلامة أبو العباس قاضي القضاة شهاب الدين أحمد الخفاجي، ولهج بإبطاله في كتبه المشهورة، واعترضه في شرح الشفا وحواشي البيضاوي وشفاء الغليل وغيرها، وقال: إن هذه المقالة دعوى باطلة، درايةً وروايةً. واحتج لذلك سماعًا وقياسًا، أما السماع فما أنشده ابن عبد ربه في العقد، وثعلب في الأمالي، والمبرد في الكامل من الشعر القديم وهو:
تركت المدام وعزف الغناء
…
وأدمنت تصليةً وابتهالا
ونقله الزوزني في مصادره الفارسية، والقياس لا خفاء في اقتضائه له على ما قرر في مبادئ الصرف، وقد أوردت ذلك مبسوطًا مستطيلًا في «سمط الفرائد» ، وأشرت إليه في شرح نظم الفصيح، وأوضحت القول فيه في شرح المضرية وغيرها بما لا مزيد عليه.
والذي اختاره وأميل إليه أن لفظ التصلية على ثبوته ووروده ينبغي اجتنابه لما فيه من الإيهام، والقاتل: إنه لا يقال تصلية، كأنه يريد في الاستعمال الفصيح المشهور المتداول، فلا ينافي وجوده في الأمالي الثعلبية والعقد والكامل ونحوها. وأما الحكم على مستعمله بالكفر فلا شك أنه أبعد من بعيد، كيف وقد وقع التعبير به في كلام الأكابر، كالنسائي، وابن المقري وغيرهما. نعم، إذا تكلم به من يتهم في دينه ولا يعتد بإيمانه فلا
شك أنه يزجر وينسب للكفر والنفاق وغيره لاحتمال أنه يريد معنى الإحراق، كما قيل في:{لا تقولوا راعنا} كما لا يخفى، والله أعلم.
ولكون الصلاة بمعنى أرق الرحمة، وأتم العطف، وأكمل الحنو - عدوها بـ «على» كما يعدى به العطف والحنو في قولهم: حنوت عليه، وعطفت عليه، قال السهيلي في الروض الأنف: الصلاة أصلها انحناء وانعطاف في الصلوين، وهما عرقان في الظهر إلى الفخذ، ثم قالوا: صلى عليه، أي: انحنى عليه رحمة، ثم سموا الرحمة حنوًا وصلاة إذا أرادوا المبالغة فيها، فقولك:«صلى الله على محمد» أرق وأبلغ من قولك: «رحم الله محمدا» ، قال: ولذا لا تكون الصلاة بمعنى الدعاء على الإطلاق، لا تقول: صليت على العدو، أي: دعوت عليه، إنما يقال: صليت عليه، في معنى الحنو والرحمة والتعطف، لأنها في الأصل انعطاف، ولذا عديت بـ على، وأطال في تقرير ذلك، ورد القول بأنها بمعنى مطلق الدعاء فقط، قال: وأكثر أهل اللغة لم يفرقوا، ولكن قالوا: الصلاة بمعنى الدعاء إطلاقًا. وقد نقلت كلامه في «السمط» مستوفى، وأوضحته بما لا مزيد عليه، وأشرت إليه في «شرح المضرية» ، وأيدته بتحقيقات نقلية وعقلية. و «على» متعلق بـ «صلى» .
«ومحمد» : علم على نبينا صلى الله عليه وسلم، منقول من اسم مفعول المضاعف، ومعناه لغةً: من كثرت محامده، وهو أبلغ من محمود، لأنه من الثلاثي، ألهم الله تعالى عبد المطلب جد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تسميته بذلك، ليطابق اسمه صفته، لأنه محمود في السماء والأرض، وقيل
لجده لما سماه بذلك: لم عدلت عن أسماء آبائك؟ فقال: ليكون محمودًا في الأرض والسماء، فحقق الله تعالى رجاءه، وكان صلى الله عليه وسلم كذلك، فهو صلى الله عليه وسلم أجل حامد، وأفضل محمود، وهو أحمد الحامدين، وأحمد المحمودين، ومعه لواء الحمد، يبعثه ربه هنالك مقامًا محمودا، يحمده فيه الأولون والآخرون، ويفتح عليه بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، وأمته الحامدون، يحمدون الله في السراء والضراء، وصلاته وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وكذلك خطبه وخطبهم ومصاحفهم، وقد أشرت لغير هذه الوجوه في «شرح الفصيح» ، واستوفيت ذلك في «السمط» .
ثم وصفه بما وصفه الله تعالى به في القرآن العظيم من كونه «خاتم النبيين» ، سيرًا على جادة الأدب، لأن وصفه بما وصفه الله به مع ما فيه من المتابعة التي لا يرضى صلى الله عليه وسلم بسواها، فيه اعتراف بالعجز عن ابتداع وصفٍ من الواصف يبلغ به حقيقة مدحه عليه الصلاة والسلام، ولذا تجد الأكابر يتقصرون في ذكره عليه السلام على ما وردت به الشرعة الطاهرة، كتابًا وسنةً دون اختراع عبارات من عندهم في الغالب، وفيه كمال التسوية في ارتكاب النوع البديعي، الذي هو الاقتباس في كل منهما، حيث اقتبس الأولى برمتها من أول الفاتحة، واقتبس خاتمة هذه من سورة الأحزاب والله أعلم.
«والخاتم» بكسر المثناة على صيغة اسم الفاعل، كما قرأ به الجمهور، معناه: آخر الأنبياء الذين ختمهم، وبفتحها، كما هي قراءة عاصم، معناه:
الذي ختم الأنبياء به كما في جمهور التفاسير، وقال ابن الأعرابي: إن كلا من الخاتم والخاتم من أسمائة صلى الله عليه وسلم. قال ثعلب: فالخاتم: الذي ختم الأنباء به، والخاتم: أحسن الأنبياء خلقًا وخلقًا، ونقله عياض في «المشارق» مقتصرًا عليه. وزعم المجد الشيرازي أن كلا من الخاتم والخاتم معناه الآخر مطلقًا كالخاتمة، ولهج بذلك في القاموس وشرح البخاري وغيره من مصنفاته، ولي في ذلك أبحاث أبديتها فيما كتبته على القاموس وغيره.
و«النبيين» جمع نبي، وهو إنسان أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بالتبليغ كما في كتب الكلام، وهل هو مشتق من «النبأ» بمعنى الخبر، أو من «النبوة» وهي الرفعة، أو من «نبأ»: إذا خرج من أرض إلى أرض، لخروجه من مكة إلى المدينة أو غير ذلك، من أقوال بسطتها في غير هذا المحل، وأشرت إليها في «المسط» وغيره، وأوضحت أن المهموز يجوز تسهيله تخفيفًا، لا لأن التسهيل لغته صلى الله عليه وسلم كما ظنه البدر الزركشي مستدلًا بحديث تأوله الجوهري والصاغاني، ورد صحته الحفاظ الموثوق بضبطهم، خلافًا لما يوهمه الحاكم في المستدرك من كونه على شرط الصحيحين، بل لاقتضاء
المقام ذلك، كما أوضحت الخلاف في كونه مرادفًا للرسول أو مخالفًا له في كون الرسالة أفضل من النبوة كما هو رأي الجمهور، أو النبوة أفضل لتعلق طرفيها بالله تعالى دون الرسالة، كما لهج بن العز بن عبد السلام في قواعده واماليه وغيرهما، أو الخلاف لفظي كما اخترته في مصنفاتي، وبسطته مع غالب مباحث النبوة في «شرح المضرية» غاية البسط، والله أعلم. وخص «النبيين» دون «الرسل» لأن النبوة تستلزم الرسالة كما هو مبسوط في التفاسير، ولا يتنقض بما تقرر من نزول «عيسى» عليه السلام في آخر الزمان، لأنه ينزل كواحد من أمته يحكم بشرعته لا على حسب الاستقلال، على أن المراد أنه آخر من تنبأ، وهو مفرد في هذا الوصف كما أومأ إليه «القاضي» وغيره.
لطيفة: قال «التاج السبكي» في طبقاته الكبرى: قال لي شيخنا الذهبي مرة: من في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالإجماع؟ فقلت: يفيدنا الشيخ: فقال: عيسى بن مريم عليه السلام، فإنه من أمة المصطفى، ينزل على باب دمشق، ويأتم في الصلاة بإمامها ويحكم بهذه الشريعة.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الواسطة العظمى الذي به نتواصل إلى ربنا، وكان عليه السلام من العزة والشرف بمكان، احتجنا إلى وسائط نقدمها إليه، ونجعلها وسيلة عنده صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا عترته الطاهرة الذين جاءت في مدحهم والثناء عليهم الأحاديث الشريعة والآي الطاهرة، ولذلك خصهم المصنف بالانتظام في سلك الصلاة عليه، عاطفًا لهم على محمد عليه الصلاة والسلام، فقال:(وعلى آله أجمعين)، أقول: الآل: اسمُ جمع لا واحد له من لفظه، وألفه مبدلة عن هاء كما هو مذهب
سيبويه، وهو شاذ لا نظير له في كلامهم، أو عن واو كما هو مذهب الكسائي، وهو الذي يقتضيه القياس، وتصغيره على الأول «أهيل» ، وعلى الثاني «أويل». قال الشمني: ولا يضاف إلا لمن له شرف من العقلاء الذكور، فلا يقال: آل الإسكاف، ولا آل مكة، ولا آل فاطمة، وعن الأخفش أنهم قالوا: آل البصرة، وآل المدينة، والصحيح أنه يضاف إلى الضمير كما استعمله المصنف خلافًا للكسائي والنحاس وغيرهما ممن منع ذلك، والشاهد عليه قوله:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي
…
وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
وقول عبد المطلب:
وانصر على آل الصليـ
…
ـب وعابديه اليوم آلك
واختلفوا في معناه على أقوال، المذكور منها في مذهبنا المالكي سبعة، منها وهو أشهرها: أن آله عليه السلام هم بنو هاشم فقط، وهو قول مالك وابن القاسم وغالب الأصحاب، وقيل: وبنو عبد المطلب أيضًا كما هو مذهب
الشافعي، وهو الذي مشى عليه الشيخ خليل في الزكاة من «مختصره» ، وإن ناقشه فيه بعض شراحه.
قال الدماميني: وهو المختار عندنا. وقال الشيخ زروق: إنه المذهب. ولذلك قال شيوخنا: إنه قوي في المذهب، وقيل: جميع أمته. قال ابن العربي في «العارضة» : وصغى إليه مالك. وقال عبد الحق في كتاب الصلاة الثاني من «تهذيبه» : وأعرف لمالكٍ رحمه الله تعالى أن آل محمد كل من تبع دينه، كما أن آل فرعون كل من تبعه، وقيل أيضًا: المؤمنون، وقيل غير ذلك: وهذا الذي ذكرنا معناه شرعًا، أما لغةً: فالآل هم الأهل والعيال والأتباع كما في الصحاح وغيره. قلت: كأنه لما كان الأتباع في الأصل للعقلاء الأشراف الذكور لهج أرباب التآليف بكونه خاصًا بهم، كما مر عن الشمني إيماء إليه، إما لأنه لغيرهم بضرب من المسامحة والتجوز وادعاء كما في «آل فرعون» ، أو لأنه بمعنى آخر، أو هو أغلبي. فلا ينتقض بنحو قوله:
وانصر على آل الصليب
…
البيت
وقوله:
عفا من آل فاطمة الجواء
والله أعلم.
بقى أن بعض من منع إضافته علل ذلك بأن الإضافة ترد الأشياء إلى أصولها كالتصغير، قال: ولذا قيل في تصغيره أهيل. قلت: هذا التعليل رده المبرد وقال: الإضافة من حيث هي، [لا] ترد الأشياء إلى أصولها، ألا تراك تقول:«عدته» وغيره مما لا يحصى، ثم إذا كانت الإضافة ترد الأشياء إلى أصولها فهلا ردته في إضافته إلى الظاهرة، وهل الفرق بينهما إلا تحكم، وادعاء أن الإضافة للضمير خروج عن الأصل مرتين ينافي الإطلاق في التعليل كما لا يخفى. ثم كون «أهيل» تصغير «آل» مع وجود «أهل» في الكلام وشيوعه - مكابرة ظاهرة، والله أعلم.
وقوله: «أجمعين» توكيد لآله جيء به لإرادة الإحاطة والشمول، وغالب استعماله بعد كل، ويستعمل بدونها كثيرًا أيضًا، كما جاء التنزيل بكل منهما، والله تعالى أعلم.
وها هنا أمور:
منها: أن المصنف أفرد الصلاة عن السلام، وقد شاع في كلام جمع من العلماء كراهية إفراد أحدهما عن الآخر، وصرح به النووي وغيره، وعزاه الشيخ زروق في «شرح الوغليسية» لجمهور المحدثين، وإن توقف «الحافظ ابن حجر» في إطلاق الكراهية كما نقله عنه تلميذه «السخاوي» في «القول البديع» ، وقال: إن إطلاقهم فيه نظر، نعم يكره أن يفرد الصلاة ولا يسلم أصلًا، أما لو صلى في وقت، وسلم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلًا بلا كراهة، فإما أن يجاب عن المصنف بهذا، أو يقال إنه سلم بالنطق، ولا يشترط في ذلك الكتابة، كما قالوه فيما وقع في «خطبة مسلم» ، «والتنبيه» وغيرهما من مصنفات أئمة السنة من الاقتصار على لفظ الصلاة فقط كما أوضحته في «السمط» مطولًا، وأوردت أحاديث تدل لما اختاره الحافظ ابن حجر.
ومنها: أنه جاء باسم النبي صلى الله عليه وسلم مجردًا عن السيادة والمولوية، وقد قيل: إن ذلك خلاف الأولى لما فيه من ترك كمال الأدب، قال الأبي في شرح مسلم: ما يستعمل من لفظ السيد والمولى - يعني في
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حسن وإن لم يرد، والسنة قوله:«أنا سيد ولد آدم» ، وقد طلب ابن عبد السلام تأديب من قال: لا يقولها في الصلاة، وإن قالها بطلت، فتغيب حتى شفع فيه، قال: وكأنه رأى أن تغيبه تلك المدة عقوبته. واختار المجد اللغوي صاحب القاموس وغيره ترك ذلك في الصلاة اتباعًا للفظ الحديث، والإتيان به في غير الصلاة، ونقل كلامه الحافظ السخاوي أواخر الباب الأول من «القول البديع» ، وذكر مثله عن «ابن مفلح الحنبلي» وذكر عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن الإتيان بها في الصلاة ينبني على الخلاف، هل الأولى امتثال الأمر، أو سلوك الأدب؟ قلت: والذي عليه المحققون هو أولوية سلوك الأدب وتقديمه كما تشهد له قضية علي رضي الله عنه في محو الكتاب وأضرابها مما لا يغرب عن ممارسي دواوين الحديث. قال السخاوي: والذي يظهر لي وأفعله في الصلاة وغيرهما الإتيان بلفظ السيد، وارتضاه جماعة منهم الحطاب، وقد سقت الكلام
في ذلك مبسوطًا في «السمط» وبينته بما لا مزيد ع ليه نقلًا وترجيحًا من البسط.
ومنها: إفراد الآل عن الصحب، وقد صرحوا بكراهية ذلك كالعكس، إلا أن يجاب بأنه أراد بالآل مطلق الأتباع كما هو مدلوله لغة، أو أمته كما نقله في «العارضة» عن مالك، فيكون شاملًا للصحب أيضًا، والله أعلم.
ومنها: الصلاة على غير الأنبياء، قد تقرر فيها الخلاف بين العلماء بالجواز مطلقًا، والمنع مطلقًا، والتفضيل بين أن يكون الغير تابعًا للأنبياء عليهم السلام فيجوز، بحسب التبع، أو مستقلًا فيمتنع، وهذا هو المشهور الذي اختاره الجمهور، والله أعلم.
ومنها: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضُ مرة في العمر كغيرها من النظائر المجموعة في قولي:
صلاةٌ، سلامٌ، ثم حمدٌ، شهادةٌ
…
وتسبيحٌ، استغفارٌ، الشكرُ، كبرًا
هذا بعض ما يتعلق بكلام المصنف من المباحث المحتاج إليها، وقد وشحت عطف «السمط» بأضعافها من فرائد الفوائد المزرية بقلائد الفرائد، فليخض في بحره من علت همته لانتظام فوائده الفريدة من قلائد نحره.
ثم وقفت على أصل مصحح لبعض الشيوخ قال فيه: «بعد الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين
…
» وهذه النسخة سالمة من كثير مما أوردناه على الأولى، وصححنا أصولنا عليها بأمر من شيوخنا، وفيها تناسق الجملتين على أسلوب واحد، والإتيان بالاسمية الدالة على الثبوت. «والصلوات» جمع صلاة ومر معناها. و «السلام» اسم من السلامة، أو بمعنى التسليم والتحية، أو هو اسمه تعالى، كما جوز ذلك عياض في المشارق والشفا كغيره. و «السيد»: الملجأ والمرجع، و «المولى»: مثله، وله معانٍ كثيرة ذكرها
المجد وغيره. و «الصحب» : اسم جامع لصاحب كما اختاره سيبويه وغيره، والمراد به من اجتمع به صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، ومباحثه مشهورة.
ولما حمد الله تعالى، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر بعض أوصاف مصنفه كغيره من المصنفين، فقال:(هذا) هو في الأصل اسم إشارة للقريب، وقد يؤتى به لفصل الخطاب، نظير «أما بعد» ، وكثيرًا ما يستعمله الفصحاء في مخاطباتهم ورسائلهم، وقد خرجوا عليه قوله تعالى:{هذا وإن للطاغين لشر مآب} . وقاله الزمخشري في قوله: {هذا ذكر} ، قال في الكشاف: لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابًا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، قال:{هذا ذكر} ، ثم قال:{وإن للمتقين} كما يقول الجاحظ في كتبه: هذا باب ثم يشرع في باب آخر. ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل في كتابه وأراد الشروع في باب آخر: هذا، وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه أنه لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال:{هذا وإن للطاغين} . وأشار لمثله السكاكي في المفتاح والخطيب القزويني في التلخيص والإيضاح، ونبه عليه السعد، والسيد، والعلامة الشيرازي، والطيبي، وابن الأثير وغيرهم. ثم اختلفوا في المشار إليه بمثل هذه الإشارة الواقعة في أوائل الكتب وفي أوائل الأبواب، هل هو الألفاظ الموجودة ووضعوا الخطبة والإشارة بعد الفراغ من الكتب والباب مثلًا، أو ما تخيله المصنف في خزانة حسه وجعله كالشيء الظاهر، أو غير ذلك من الوجوه التي ذكرها شراح كتاب
سيبوية، وقد ذكر غالبها ابن هشام في حواشيه على التسهيل، فقال: إنما قدر قبل الباب «هذا» لعدم صاحية غيره، ولأنهم لما يتممون التراجم يصرحون به، فإن قيل: كيف يشار إلى غير مشارٍ إليه؟ فأجاب الصفار بأنهم يضعون التراجم بعد الفراغ من المترجم عليه، وأجاب السيرافي بأنها وضعت غير مشار بها لتكون معدة للإشارة عند الحاجة إلى ذلك. ورده الفارسي في التذكرة بأنه يقتضي إعرابها، وأجاب أبو الفتح بن جني بأن الشيء إذا سلب وصفه فالأكثر أن يبقى عليه حكمه كباب «التسوية» فإنه بقيت عليه الصدرية ولا يخرج عن ذلك إلا قليلًا، وأجاب آخرون بأنه أشار لما في نفسه من العلم، وذلك حاضر عنده. وقال آخرون: أشار إلى الباب مع أنه غائب لأنه متوقع قريب، ومثله، «هذه جهنم» وليست بالحاضرة، ولكن لقرب الساعة جعلت كالموجودة، ومثله:{أتى أمر الله} أي، يأتي: انتهى. قلت: وكلام الفارسي الذي أشار إليه نصه في التذكرة ما ذكره بعضهم من أن «هذا» في أوائل الأبواب، إنما وضع غير مشار به ليشار به إذا وجد ما أريد من الإشارة إليه - خطأ لا وجه له، ولو جاز أن يخلوا عن معنى الإشارة مع تضمنه معنى حرفها الموجب للبناء فيها، لجاز أن يخلو «كيف» من الدلالة على الحال، و «أين» من الدلالة على المكان، و «هو» و «أنا» من المكنى الذي يدلان عليه، وإنما معناه التقريب وتنزيله بذلك منزلة ما حضر ولم يبعد متناوله، وتمثيلهم هذا بقولهم: هذا ما شهد عليه الشهود، وإن ذلك لم يكتب، ولم يشهدوا بعد، لا يدل على هذا، وإنما هذا بمنزلة قولهم:«قد قامت الصلاة» ، يقال هذا ولم تقم بعد، يراد بها أنها من قرب إقامتها بمنزلة ما قد وقع وأقيم، وإنما وضع لفظ الماضي، والمعنى للاستقبال. قلت: أوردت هذا
الكلام لشدة الاحتياج إليه مع ندوره وقلة وجوده في الدواوين المتداولة، والمختار عند المحققين الإشارة إلى ما في نفسه من العلم تنزيلًا له منزلة المحسوس المشخص، والله أعلم.
وقوله: «هذا» مبتدأ، خبره قوله:(كتاب) ، هو في الأصل مصدر كتب كنصر كتبًا بالفتح، وكتابةً وكتابًا بكسرهما: إذا خط، ثم صار يستعمل بمعنى المكتوب، كاللباس بمعنى الملبوس. وقوله (مختصر) صفة كتاب، أي: وجيز جامع للمعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة. قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» : اختلفت عبارات الفقهاء في معنى المختصر، فقال الأسفراييني: حقيقة الاختصار ضم بعض الشيء إلى بعض، قال: ومعناه، عند الفقهاء رد الكثير إلى القليل، وفي القليل معنى الكثير، وقيل: هو إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى، وقال صاحب الحاوي: قال الخليل، ما دل قليله على كثيره يسمى اختصارًا لاجتماعه قلت: في عبارة الخليل نوع تسامح، وكون الاختصار بمعنى الإيجاز هو المشهور المتداول بين الجمهور، وقد حكى التفرقة بينهما الشيخ خالد في الباب الرابع من شرح القواعد،