الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وها هنا تنبيهات يحتاج إلى تحصيلها الهمم العالية، والقرائح النبيهات:
[التنبيه] الأول:
لا خلاف بين العلماء في الاستدلال بالقرآن العظيم، والاحتجاج به في جميع الفنون العلمية على اختلافها وكثرتها، ولا سيما علوم اللسان: لغة وصرفًا ونحوًا وبيانًا بأنواع الثلاثة. وأما الحديث الشريف فاختلف فيه، فذهب إلى الاحتجاج به والاستدلال بألفاظه وتراكيبه جمع من الأئمة، منهم: شيخا هذه الصناعة وإماماها، الجمالان: ابنا مالك وهشام، والجوهري، وصاحب البدعي، والحريري، وابن سيده، وابن فارس، وابن خروف، وابن جني، وأبو محمد عبد الله بن بري، والسهيلي وغيرهم ممن يطول ذكره، وهو الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه، إذ المتكلم به صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق على الإطلاق، وأبلغ من أعجزت فصاحته الفصحاء على جهة العموم والاستغراق، فالاحتجاج بكلامه عليه الصلاة والسلام الذي هو أفصح العبارات وأبلغ الكلام، مع تأييده بأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز من الملك العلام أولى وأجدر من الاحتجاج بكلام الأعراب الأجلاف، بل لا ينبغي أن يلتفت في هذا المقام لمقال من جار عن الوفا، وإلى إجراء الخلاف، على أنا لا نعلم أحدًا من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في شرح التسهيل، وأبو الحسن بن الضائع في شرح الجمل، وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي رحمه الله فأولع بنقل كلامهما، وألهج به في كتبه، واعتنى باستيفائه في كتاب الموسوم بـ «الاقتراح في علم أصول النحو» ، وهو كتاب بديع في بابه، رتبه على ترتيب أصول الفقه في
الأبواب والفصول، وأبدى فيه نكتًا غريبة جعلها للفروع النحوية كالأصول، واستوفاه أيضًا فيما كتبه على المغني، ولهج به في غيرهما من كتبه ظانًا أنه من الفوائد الغريبة، متلقيًا له بالقبول تقليدًا، غافلًا ع ن أنه في هذا الباب لا يسمن ولا يغني.
فأما ابن الضائع فحجته في المنع تجويز الرواية بالمعنى، قال: ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان أولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب، وسيأتي جوابه، وأما أبو حيان فقد أطال على عادته - عفا الله عنه - في التحامل على الإمام ابن مالك بلا طائل، وأبدى أدلة حالية بالتمويه، خالية من الدلائل. وحاصل ما قاله: إن نحاة البلدين البصرة والكوفة لم يستدلوا بالحديث، وتابعهم على ذلك نحاة الأقاليم، وعلل ذلك بوجهين: جواز الرواية بالمعنى، ووقوع اللحن كثيرًا في الأحاديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وبنى على ذلك كلامه كله واعتراضه على الشيخ ابن مالك.
فأما عدم استدلالهم بالحديث فلا يدل على أنهم يمنعون ذلك، ولا يجوزونه كما توهمه، بل تركهم له لعدم تعاطيهم إياه، وقلة إسفارهم عن محياه، على أن كتب الأقدمين الموضوعة في اللغة لا تكاد تخلو عن الأحاديث والاستدلال بها على إثبات الكلمات، واللغة أخت النحو، وأيضًا في الصدر الأول لم يكن الحديث مدونًا مشهورًا مستعملًا استعمال الأشعار العربية والآي القرآنية، وإنما اشتهر ودون بعدهم، فعدم احتجاجهم به لعدم
اشتهاره بينهم، وعلماء الحديث غير علماء العربية، ولما تداخلت العلوم وتشاركت استعملوا بعضها في بعض، وأدخلوا فنًا في فن، حتى صارت المنقولات المحضة نوعًا من المعقولات، وبالجملة فكونهم ** يحتجوا بالحديث لا يلزم منه منعهم ذلك كما لا يخفى. وأما ادعاؤه أن ** الأقاليم تابعوهم على ذلك فهو مصادرة، بل هذه كتب الأندلسيين وأهل المغرب قاطبة مشحونة بذلك، وقد استدل بالحديث في كتب النحو طوائف، منهم الصفار، والسيرافي، والشريف الغرناطي، والشريف الصقلي في شروحهم لكتاب سيبويه، وابن عصفور، وابن الحاج في شرح المغرب، وابن الخباز في شرح ألفية ابن معطي، وأبو عبد الله بن بري وغيرهم مما أسلفنا ذكره آنفًا، وشيد أركانه المحققون كالإمام النووي في شرح مسلم وغيره، والعلامة المحقق البدر الدماميني في شرح التسهيل وغيره، وقاضي القضاة ابن خلدون في مواضع من مصنفاته، بل خص هذه المسألة بالتصنيف وأجاب عن كل ما أورده جوابًا شافيًا، ومال إليه العلامة النظار أبو إسحق الشاطبي، والعلامة القناري وغير واحد.
وشيد أركانه عصري شيوخنا العلامة عبد القادر البغدادي في أوائل «شرح شواهد الرضي» بما لا مزيد عليه، بل رأيت الاستدلال بالحديث في
كلام أبي حيان مرات، ولا سيما في مسائل الصرف، إلا أنه لا يقر له عماد، فهو كل حين في اجتهاد.
وأما الرواية بالمعنى، فهي وإن كانت رأي قوم، فقد منعها آخرون منهم مالك رضي الله عنه، بل نسب المنع للجمهور من المحدثين والأصوليين والفقهاء كما نقله القرطبي وغيره. وبعد تسليمه، فمن أجازه اشترط له شروطًا مشهورة في علوم الاصطلاح لم تذكر في شيء مما استدل به ابن مالك وغيره، بل قالوا: إنه لا يجوز النقل بالمعنى إلا لمن أحاط بدقائق علم اللغة، وكانت جميع المحسنات الفائقة بأقسامها على ذكر منه، فيراعيها في نظم كلامه، ثم فتح احتمال التغيير والتصرف في التعبير يؤدي إلى خرق بعيد الالتئام، في جميع الأحكام، لأن المخالف يقول لمخالفه المستدل في حكم بلفظ حديث: لعل هذا اللفظ من الراوي. وقالوا: إنه إذا فتح هذا الباب لا يبقى لنا وثوق بحديث ولا اطمئنان لشيء من الآثار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، وأوجد المبتدعة مسلكًا للطعن في جميع الأحاديث، وانتقلنا إلى النظر في دلالاتها على العمومات والإطلاقات وغير ذلك مما يترتب على هذا القول من المفاسد العظام. وأما ادعاء اللحن في الحديث فهو باطل، لأنه إن أراد اللحن الذي هو الخطأ في الإعراب بحيث لا يتخرج على وجه من الوجوه، فهذا لا وجود له في شيء من الأحاديث أصلًا، وإن أراد أنه على خلاف الظاهر، كنصب الجزأين بـ: أن ونحوه من الأحاديث
الواردة على لغة من اللغات الغير المشهورة فهو لا يضر، لأن القرآن العظيم وهو متواتر فيه آيات على خلاف الظاهر في الإعراب، احتاج هو في «بحره» و «نهره» إلى تأويلها وتخريجها على وجه صحيح، ولم يدع أنها ملحونة، وإن ورد في كلام عائشة رضي الله عنها وغيرها التعبير في حقها باللحن، فقد أجابوا عنه كما بسطه الجلال في الاتقان، ولم تخرج بسبب ذلك عن القرآن. وما رأيت أحدًا من الأشياخ المحققين إلا وهو يستدل بالأحاديث على القواعد النحوية والألفاظ اللغوية، ويستنبطون من الأحاديث النبوية الأحكام النحوية والصرفية واللغوية وغير ذلك من أنواع العلوم اللسانية، كما يستخرجون منها الأحكام الشرعية.
وقد طال ما اقترح على الجهابذة من الأصحاب والأساتذة أن أخص هذه المسألة بتصنيف مستقل، فما تسعف الأقدار بذلك لكثرة العوارض والقواطع، ولما أبديت هذا الكلام في هذا الشرح قنعوا به وارتضوا وأيدوه، وبعد الفراغ من هذا الكتاب بأزمان، هيأ الله سبحانه لي الأسباب وفتح لي الباب، فعنيت بشرح الاقتراح لأغراض بينتها في خطبة الشرح، وبذلت الجهد في تحقيق هذا البحث، ونقلت صدر كلامي الذي هنا فيه، ثم تتبعت كلام أبي حيان وابن الضائع الذي نقله الجلال هنالك، ونقضته لبنة لبنة بما لا غبار عليه في نحو كراسين منه، وأبديت هنالك من التحقيقات العجيبة ما لا يشك مطالعه أنه نفحة من النفحات النبوية، ومنحة من المنحات المصطفوية، ويعلم متقنه