المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا - شرح ميارة = الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام - جـ ١

[ميارة]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي رَفْعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَا يُلْحَقُ بِذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مِنْ الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَقَالِ وَالْجَوَابِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْآجَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِعْذَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خِطَابِ الْقُضَاةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ]

- ‌[بَابُ الشُّهُودِ وَأَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ مَسَائِلُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ غَالِبًا]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُوجِبُ الْحَقَّ مَعَ الْيَمِينِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ أَقْسَامِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ]

- ‌[فَصْلٌ مَا يُوجِبُ الْيَمِينَ لَا عَلَى الطَّالِبِ بَلْ عَلَى الْمَطْلُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ الشَّهَادَةُ الَّتِي لَا عَمَلَ لَهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مِنْ الشَّهَادَةِ]

- ‌[بَابُ الْيَمِينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]

- ‌[بَابُ الرَّهْنِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ]

- ‌[بَابُ الضَّمَانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[بَابُ الْوَكَالَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَدَاعِي الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ وَلِلْأَبِ الصُّلْحُ عَلَى الْمَحْجُورِ]

- ‌[بَابُ النِّكَاحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يَتَرَتَّبُ فِي الْوِلَايَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَنْ لَهُ الْإِجْبَارُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِ فَاسِدِ النِّكَاحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَسَائِلَ مِنْ النِّكَاحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَدَاعِي الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْقَبْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُهْدِيهِ الزَّوْجُ ثُمَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الشُّوَارِ الْمُورَدِ بَيْتَ الْبِنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إثْبَاتِ الضَّرَرِ وَالْقِيَامِ بِهِ وَبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرَّضَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي عُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يُرَدَّانِ بِهِ مِنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اللِّعَانِ]

- ‌[بَابُ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ الْخُلْع]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّدَاعِي فِي الطَّلَاقِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ لِلزَّوْجِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرَّجْعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَسْخِ]

- ‌[بَابُ النَّفَقَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّدَاعِي فِي النَّفَقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَاتِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ النَّفَقَةِ وَمَا يُلْحَقُ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الطَّلَاقِ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَمَا يُلْحَقُ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْمَفْقُودِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحَضَانَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْبُيُوعِ وَمَا شَاكَلَهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ مِنْ الثِّيَابِ وَسَائِرِ السِّلَعِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ النَّقْدَيْنِ وَالْحُلِيِّ وَشِبْهِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ وَمَا يُلْحَقُ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْجَائِحَةِ فِي الثِّمَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ]

- ‌[فَصْلٌ كِلَابَ الْمَاشِيَةِ يَجُوزُ بَيْعُهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ وَالْمُقَاصَّةِ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحَوَالَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ وَالثُّنْيَا]

الفصل: ‌ ‌[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا

[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا)

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الدَّرَّاكَةُ الْفَهَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ مَيَّارَةُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ وَأَعْلَى فِي الدَّارَيْنِ قَدْرَهُ)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِالْحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ، الْمُسْتَبِدِّ بِالْقَضَاءِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّذِي شَرَحَ الْأَحْكَامَ لِلْعِبَادِ، وَكَفَّهُمْ بِتَنْفِيذِهَا عَنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَأَتْحَفَ الْحُكَّامَ بِالشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَغْنَاهُمْ بِهَا عَنْ السِّيَاسَةِ الْكِسْرَوِيَّةِ، وَعَصَمَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ الْمَنْقُولَ، عَنْ تَحْكِيمِهِمْ تَحْقِيقَ الْعُقُولِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَمِنْ كُلِّ مَلَكٍ وَجِنٍّ وَإِنْسَانٍ، وَصَلَوَاتُ اللَّهُ الَّتِي لَا تُحْصَى عَدَدًا، وَسَلَامُهُ الَّذِي لَا يَنْقَضِي أَمَدًا، وَرِضْوَانُهُ وَتَحِيَّاتُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ، الْمُسَرْمَدَاتُ أَبَدًا عَلَى الْعَلَمِ الْأَكْبَرِ، وَالسَّيِّدِ الْأَطْهَرِ، مُتَلَقِّي السِّرِّ مِنْ شَدِيدِ الْقُوَى، فَلَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى سِرِّ الْوُجُودِ، وَعَيْنِ الْجُودِ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ وَرَسُولِ الْمَلِكِ الْأَعْلَى إلَى الثَّقَلَيْنِ، النَّبِيِّ الْمُمَجَّدِ، سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَعَلَّمَهُ مِنْ لَدُنِّهِ عِلْمًا عَجَزَتْ أَفْكَارُ الْخَلْقِ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِأَقَلِّهِ وَحَلَّاهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ الرَّحْمَانِيَّةِ بِكُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، فَجَعَلَهُ لِلْمُهْتَدِينَ سِرَاجًا مُنِيرًا، وَنَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى اللَّهِ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَلَا يُنْكَرُ، وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ، وَيُقَرِّرُ ذَلِكَ لَهُمْ بِنُصْحٍ تَتَحَرَّكُ لِقَبُولِهِ الْبَوَاعِثُ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .

فَقَامَ صلى الله عليه وسلم بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، مَعَ تَحْرِيرِ الْمَقَالَةِ، وَإِيضَاحِ الدَّلَالَةِ، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي الْإِرْشَادِ وَالتَّهْذِيبِ، وَالتَّبْصِرَةِ وَالتَّقْرِيبِ، وَالْإِجْمَالِ لِلْأَحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ، فَبَيَّنَ كُلَّ مَنْهَجٍ مَقْصُودٍ، وَكُلَّ مَقْصِدٍ مَحْمُودٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَفْظٍ مُخْتَصَرٍ، وَتَوْضِيحٍ يُزِيلُ الْغَبَرَ؛ وَكَلَامٍ فَائِقٍ، وَمَعْنًى رَائِقٍ مُبَيِّنٍ لِلْحَقَائِقِ، وَآخِذٍ مِنْ الْبَلَاغَةِ بِالْعُرَى الْوَثَائِقِ غَنِيٍّ عَنْ اسْتِنْتَاجِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَكَفِيلٍ بِإِيضَاحِ الْمُهِمَّاتِ، حَتَّى صَارَتْ قَوَاعِدُ دِينِهِ مُعَيَّنَةً، لَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي فِيهَا إلَى بَيِّنَةٍ، فَفَتَحَ لِأُمَّتِهِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ الَّذِي لَهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِنَادٌ؛ لِئَلَّا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ، وَلَا يُرَى فِي دِينِهِمْ عِوَجٌ، وَلِيَكُونَ

ص: 2

لِلْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ أَجْرٌ وَلِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ، وَيُؤْتِي الْكُلَّ مِنْ رَحْمَتِهِ كِفْلَيْنِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاعْتِصَامُ بِسُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا الِانْقِيَادُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا، صَلَاةً وَسَلَامًا نَنَالُ مِنْ اللَّهِ بِهِمَا جَمِيلَ الرِّضَا، وَنَجِدُهُمَا عُدَّةً لِيَوْمِ فَصْلِ الْقَضَا، وَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَنُجُومِ الِاقْتِدَاءِ، وَمَعَالِمِ الدِّيَانَةِ، وَمَعَاقِلِ الْأَمَانَةِ، سَادَاتِنَا أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ، وَأَعْلَى عَلَى كُلِّ آلٍ قَدْرَهُمْ وَأَشْهَرَهُمْ، وَأَئِمَّتِنَا أَصْحَابِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا، وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، الْقَائِمِينَ بِنُصْرَتِهِ، الْحَامِلِينَ لِشَرِيعَتِهِ، وَعَلَى مَنْ أَحْسَنَ اتِّبَاعَهُمْ، وَجَدَّ مِنْ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي اتِّبَاعِهِمْ، مَا دَامَ هَذَا الدِّينُ مُوَطَّأً بِالْقَوَاعِدِ الْبَيِّنَةِ، وَفُرُوعُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مُدَوَّنَةٌ

(أَمَّا بَعْدُ) فَإِنَّ عِلْمَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ، هُوَ مِنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَآدَابُهُ مِنْ أَجَلِّ الْآدَابِ الْمَرْعِيَّةِ، وَخُطَّتُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْخُطَطِ الشَّرْعِيَّةِ، رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ بَلْ هُوَ أُسُّهَا، وَرَئِيسُ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَلْ هُوَ رَأْسُهَا، وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْقَائِمُونَ مِنْ الْبَشَرِ بِحَقِّهِ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ أَوْ وَرَثَتُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ.

فَقَامَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ بَعْدِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَلَمَّا تَمَيَّزَ الْمُلْكُ مِنْ الْخِلَافَةِ صَارَ يُخْتَارُ لَهَا الْأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ، وَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ وَسَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَبْيِينِ أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ سَيْرًا حَثِيثًا، مَا بَيْنَ نَاثِرٍ مُطْنِبٍ وَمُوجِزٍ وَنَاظِمٍ قَصِيدَةً أَوْ مُرْتَجِزٍ، وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ مَا أُلِّفَ فِيهِ مِنْ الْمُخْتَصَرَات، الَّتِي أَغْنَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ، رَجَزُ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْقَاضِي الرَّئِيسِ الْوَزِيرِ الْأَعْظَمِ، أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عُرِفَ بِابْنِ عَاصِمٍ، فَهُوَ جَامِعٌ لِكَثِيرٍ مِنْ مَقَاصِدِهِ " مُحْتَوٍ عَلَى جَمٍّ غَفِيرٍ مِنْ فَوَائِدِهِ، مَعَ سَلَامَةِ نَظْمِهِ، وَجَزَالَةِ لَفْظِهِ، وَقِلَّةِ تَعْقِيدِهِ وَسُهُولَةِ حِفْظِهِ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْعِيَانُ، وَلَيْسَ مِنْ بَعْدِهِ بَيَانٌ، وَقَدْ اعْتَنَى بِشَرْحِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَنَثَرَ اللَّآلِئَ الْمَنْظُومَةَ فِي عِقْدِهِ، وَلَدُهُ الْإِمَامُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ الْقَيْسِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْغَرْنَاطِيُّ ذَكَرَ فِي شَرْحِ تُحْفَةِ وَالِدِهِ أَنَّهُ وُلِّيَ الْقَضَاءَ عَامَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ، احْتَفَلَ فِيهِ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ، وَأَكْثَرَ مِنْ النُّقُولِ الصَّحِيحَةِ، فَأَبْدَأ وَأَعَادَ وَأَجَادَ وَأَفَادَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَجْزَلَ أَجْرًا، إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَغْفَلَ عَنْ حَلِّ مُقْفَلَاتِهِ، مَا يَعُدُّهُ الْحُذَّاقُ مِنْ مُعْضِلَاتِهِ، ثُمَّ شَرَحَهُ بَعْدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ ابْنُ الْعَبَّاسِ سَيِّدِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُعْرَفُ بِالْيَزَنَاسِيِّ نَسَبًا وَاشْتِهَارًا، الْعَبْدُ الْمُرَادِيُّ أَصْلًا وَنِجَارًا التِّلِمْسَانِيُّ نَشْأَةً وَدَارًا، شَرْحًا اعْتَنَى فِيهِ بِتَفْكِيكِ الْعِبَارَةِ، وَأَغْنَى بِالتَّصْرِيحِ عَنْ الْإِشَارَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشْفِ فِي النَّقْلِ غَلِيلًا، وَلَا أَبْرَأَ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ عَلِيلًا، وَقَدْ شَرَحَهُ أَيْضًا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مِنْ مِصْرَ وَلَمْ يَصِلْ شَرْحُهُ إلَيْنَا

(وَلَمَّا مِنْ اللَّهُ عَلَيْنَا) بِإِقْرَائِهِ وَقِرَاءَتِهِ وَاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي تَفَهُّمِ عِبَارَتِهِ، وَقَيَّدْنَا عَلَى هَوَامِشِ الْمَتْنِ وَالشَّرْحِ مَا هُوَ كَالتَّتِمَّةِ لِلشَّرْحَيْنِ وَأَبْرَزْنَا مِنْ نُكَتِهِ وَتَحْرِيرَاتِهِ مَا فِيهِ لِطَالِبِهِ قُرَّةُ الْعَيْنِ طَلَبَ مِنَّا بَعْضُ مَنْ عَايَنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَشَاهَدَهُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، أَنْ أَشْرَحَهُ شَرْحًا كَفِيلًا بِمُحَصِّلِ الشَّرْحَيْنِ، حَائِزًا لِكِلْتَا الْفَضِيلَتَيْنِ، مِنْ إيرَادِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاظِرُ مِنْ النَّقْلِ، وَتَبْيِينِ الْعِبَارَةِ حَتَّى يَتَّضِحَ مَعْنَاهَا لِلْعَقْلِ مُطَرِّزًا ذَلِكَ بِفَوَائِدَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاظِرُ، وَقَوَاعِدَ يَسْتَعِينُ بِهَا الْمُنَاظِرُ، وَتَنْبِيهَاتٍ وَتَحْقِيقَاتٍ، تُزِيلُ الشُّبُهَاتِ، فَجَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْحًا بِمَقْصُودِ طَالِبِهِ وَافِيًا، وَبِسَهْمٍ صَائِبٍ فِي مُؤَلَّفَاتِ الْفِقْهِ رَامِيًا، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ بِالْوَفَاةِ، وَلَا تُعَقِّبُ صَاحِبَهَا حَسْرَةَ الْفَوَاتِ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ كَمَا نَفَعَ بِأُصُولِهِ، كُلَّ مَنْ رَغِبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَحْصِيلِهِ وَحُصُولِهِ، وَيَجْعَلَهُ وَصْلَةً بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَيُنِيلَنَا بِهِ فِي الدَّارَيْنِ غُفْرَانَهُ وَأَمْنَهُ، إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، رَحِيمٌ قَرِيبٌ وَسَمَّيْتُهُ (الْإِتْقَانَ وَالْإِحْكَامَ فِي شَرْحِ تُحْفَةِ الْحُكَّامِ) جَعَلَهُ اللَّهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَمُقَرِّبًا مِنْ رَحْمَتِهِ، قَالَ

ص: 3

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَقْضِي وَلَا

يُقْضَى عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنًا وَعَلَا

ثُمَّ الصَّلَاةُ بِدَوَامِ الْأَبَدِ

عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ

وَآلِهِ وَالْفِئَةِ الْمُتَّبِعَهْ

فِي كُلِّ مَا قَدْ سَنَّهُ وَشَرَعَهْ

قَالَ الشَّارِحُ وَلَدُ النَّاظِمِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي طَالِعَةِ شَرْحِهِ فِي التَّعْرِيفِ بِوَالِدِهِ النَّاظِمِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ مَا نَصُّهُ وَقَدْ رَأَيْت أَنْ أُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ الْكَلَامِ فَصْلًا يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِمَشْيَخَةِ الشَّيْخِ وَالِدِي رحمه الله وَبِتَآلِيفِهِ وَمَوْلِدِهِ وَوَفَاتِهِ

(وُلِدَ رحمه الله) ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ عَامِ سِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (وَتُوُفِّيَ) حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ عَامِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَمِنْ شُيُوخِهِ الشَّيْخُ الْأُسْتَاذُ الْمُفْتِي الشَّهِيرُ أَبُو سَعِيدٍ فَرَجُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ لُبٍّ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْقَيْجَاطِيُّ وَنَاصِرُ السُّنَّةِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الشَّاطِبِيُّ وَقَاضِي الْجَمَاعَةِ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِلَاقٍ وَخَالَاهُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبُو بَكْرٍ وَرَئِيسُ الْعُلُومِ الْمُسَانِيَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الْخَطِيبِ الشَّهِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ جُزَيٍّ وَالشَّرِيفُ الشَّهِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّرِيفِ الْعَالِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ التِّلِمْسَانِيُّ وَالْقَاضِي الرَّحَّالُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ النُّمَيْرِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَشْهَبُ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَلَنْسِيُّ رحمهم الله أَجْمَعِينَ

(ثُمَّ) عَدَّ جُمْلَةً مِنْ تَآلِيفِهِ فِي الْأُصُولِ وَالْقِرَاءَاتِ وَالْفَرَائِضِ وَالنَّحْوِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا النَّظْمُ (قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ) وَقَدْ أَنْشَدَنَا صَاحِبُنَا الْفَقِيهُ الْمُؤَقِّتُ الْفَرْضِيُّ الْعَدَدِيُّ الْحَاجُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الْأُسْتَاذِ سَيِّدِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْقَاضِي بَيْتًا لِنَفْسِهِ رَمَزَ فِيهِ لِوِلَادَةِ النَّاظِمِ وَوَفَاتِهِ وَبَلَدِهِ عَلَى طُرُقِ نَظْمِ الْوَفَيَاتِ لِلْكَاتِبِ الْقَشْتَالِيِّ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَحْرِ الطَّوِيلِ وَالرَّمْزُ لِلْوَفَاةِ بِالْحُرُوفِ بِحَسَبِ الْجُمَلِ فَقَالَ:

وَقَدْ رَقَصَتْ غَرْنَاطَةُ بِابْنِ عَاصِمٍ

وَسَحَّتْ دُمُوعًا لِلْقَضَاءِ الْمُنَزَّلِ

فَرَمَزَ لِسَنَةِ الْوِلَادَةِ بِالرَّاءِ وَالْقَافِ وَالصَّادِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الْمَذْكُورِ سِتُّونَ وَسَبْعُمِائَةٍ رَمْزًا لِلْوَفَاةِ وَبِالسِّينِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ وَالدَّالِ وَالْمِيمِ وَالْوَاوِ وَالْعَيْنِ وَالْأَلِفِ وَمَجْمُوعُهُمَا بِالْحِسَابِ الْمَذْكُورِ ثَمَانُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَفِي تَعْبِيرِهِ بِالرَّقْصِ إشَارَةٌ إلَى الْوِلَادَةِ الْمَفْرُوحِ بِهَا إذْ الرَّقْصُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْفَرَحِ غَالِبًا كَمَا أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِسَحِّ الدُّمُوعِ وَالْقَضَاءِ الْمُنَزَّلِ الْإِشَارَةَ لِلْمَوْتِ

(وَافْتَتَحَ) النَّاظِمُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ وَمَوَاعِظَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى (وَخَرَّجَ) أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى افْتِتَاحِ تَآلِيفِهِمْ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إمَّا بِلَفْظِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ بِغَيْرِهِ كَالْبَسْمَلَةِ وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُؤَلِّفُونَ الْكَلَامَ فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَأَخْصَرُ مَا رَأَيْت الْآنَ فِي ذَلِكَ كَلَامُ الشَّيْخِ خَالِدٍ الْأَزْهَرِيِّ فِي شَرْحِ تَوْضِيحِ ابْنِ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ: الْحَمْدُ لُغَةً الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْوَصْفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَوْرِدُهُ خَاصًّا وَهَذَا الْوَصْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ عَامًّا وَالشُّكْرُ عَلَى الْعَكْسِ لِكَوْنِهِ لُغَةً فِعْلًا يُنَبِّئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الشَّاكِرِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَوْرِدُهُ اللِّسَانَ وَالْجِنَانَ وَالْأَرْكَانَ وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إلَى الشَّاكِرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ وَأَخَصُّ مِنْ الْآخَرِ بِوَجْهٍ فَفِي الْفَضَائِلِ حَمْدٌ فَقَطْ وَفِي أَفْعَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ شُكْرٌ فَقَطْ وَفِي أَفْعَالِ اللِّسَانِ بِإِزَاءِ الْإِنْعَامِ حَمْدٌ وَشُكْرٌ.

وَالْحَمْدُ عُرْفًا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَالشُّكْرُ عُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ فَالشُّكْرُ أَخَصُّ مُطْلَقًا لِاخْتِصَاصِ تَعَلُّقِهِ بِالْبَارِي تَعَالَى وَلِتَقْيِيدِهِ بِكَوْنِ الْمُنْعِمِ مُنْعِمًا عَلَى الشَّاكِرِ وَغَيْرِهِ

ص: 4

وَلِوُجُوبِ شُمُولِ الْآلَاتِ فِيهِ بِخِلَافِ الْحَمْدِ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ إنْ شِئْت وَإِنَّمَا قَالَ فِي حَدِّ الْحَمْدِ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ وَالْوَصْفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَعْرِيفُ الْحَمْدِ الْوَاقِعِ فِي الْكِتَابِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَصْفٌ بِاللِّسَانِ وَمَنْ أَرَادَ تَعْرِيفَ الْحَمْدِ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ قَالَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْكَلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَشْمَلُ الْقَدِيمَ وَالْحَادِثَ وَالْحَمْدُ وَالْمَدْحُ بِمَعْنًى وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ الْحَمْدَ خَاصٌّ لِأُولِي الْعِلْمِ وَالْمَدْحُ يَكُونُ لِأُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ فِي حَدِّ الشُّكْرِ صَرْفُ الْعَبْدِ. . . إلَخْ زَادَ بَعْضُهُمْ كَصَرْفِ النَّظَرِ إلَى مُطَالَعَةِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالسَّمْعِ إلَى تَلَقِّي مَا يُنَبِّئُ عَنْ مَرْضَاتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَنْهِيَّاتِهِ وَأَلْ فِي الْحَمْدِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا كُلٌّ نَحْوُ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ إمَّا قَدِيمٌ وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ حَادِثٌ وَهُوَ حَمْدُ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ أَوْ لِبَعْضِهِمْ، فَالْقَدِيمُ صِفَتُهُ وَوَصْفُهُ، وَالْحَادِثُ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ فَالْحَمْدُ كُلُّهُ لَهُ وَلَامُ لِلَّهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ أَيْ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْوَاجِبَةِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ وَهُوَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْأَلْسُنَ فَلَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَالَ تَعَالَى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أَيْ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا تَسَمَّى اللَّهَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى النَّفْيِ أَيْ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ

(وَرُوِيَ) أَنَّهُ رُئِيَ فِي النَّوْمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى خَيْرًا كَثِيرًا بِسَبَبِ قَوْلِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ الَّذِي يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ هُوَ وَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ بِالْأَلْقَابِ الْبَدِيعِيَّةِ النَّوْعَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ وَهِيَ دَلَالَةُ اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الْغَرَضِ فِي مَضْمُونِ جُمْلَتِهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَفِي قَوْلِهِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى كَوْنِ الْقَاضِي مَقْضِيًّا عَلَيْهِ مِنْ مَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ وَمِمَّنْ وَلَّاهُ فَمَا أَحَقَّهُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ بِذَلِكَ الْخَوْفَ مِنْ الْجَوْرِ وَأَنْ يَتَوَخَّى الْإِصَابَةَ لِلْعَدْلِ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ مِنْ الْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ مَجَازٌ يُمَاثِلُهُ مَا بِيَدِ مَنْ وَلَّاهُ وَبِيَدِ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْقَضَاءُ حَقِيقَةً {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] وَقُرِئَ " يَقْضِي الْحَقَّ " اهـ.

(وَجَلَّ) فِعْلٌ مَاضٍ وَمَعْنَاهُ عَظُمَ وَشَأْنًا تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنْ الْفَاعِلِ أَيْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَعَلَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَطْفٌ عَلَى جَلَّ فِعْلٌ مَاضٍ أَيْضًا قَالَ بَعْضُ مَنْ شَرَحَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَصْدَرٍ مَعْطُوفًا عَلَى شَأْنًا أَيْ جَلَّ شَأْنُهُ وَعَلَاؤُهُ وَقَصْرُهُ ضَرُورَةٌ وَلَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَمْرِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] وَالصَّلَاةُ الرَّحْمَةُ وَهِيَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى زِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ وَإِنْعَامٌ وَمِنْ الْعِبَادِ عِبَادَةٌ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ وَلَكِنْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ الرَّحْمَةِ بِالصَّلَاةِ مِنْ التَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الرَّحْمَةِ وَبِدَوَامِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الصَّلَاةِ أَيْ مُؤَقَّتَةً وَالْأَبَدُ حَرَكَةُ الْفَلَكِ.

(وَالْمُصْطَفَى) : الْمُخْتَارُ (وَآلُهُ صلى الله عليه وسلم) أَقَارِبُهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ (وَالْفِئَةُ) الْجَمَاعَةُ (وَالْمُتَّبِعَةُ) بِكَسْرِ الْبَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَالْمُرَادُ بِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِمَا سَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَشَرَّعَهُ وَيَتْبَعُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَمَعْنَى سَنَّهُ وَشَرَّعَهُ، أَيْ جَعَلَهُ سُنَّةً وَشَرِيعَةً وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُتَّبِعَةِ قَالَ رحمه الله

وَبَعْدُ فَالْقَصْدُ بِهَذَا الرَّجَزِ

تَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ بِقَوْلٍ مُوجَزِ

آثَرْت فِيهِ الْمَيْلَ لِلتَّبْيِينِ

وَصُنْته جُهْدِي مِنْ التَّضْمِينِ

وَجِئْت فِي بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ

بِالْخُلْفِ رَعْيًا لِاشْتِهَارِ الْقَائِلِ

فَضِمْنُهُ الْمُفِيدُ وَالْمُقَرِّبُ

وَالْمَقْصِدُ الْمَحْمُودُ وَالْمُنْتَخَبُ

(بَعْدُ) مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ وَإِذَا قُطِعَ عَنْهَا لَفْظًا بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مَنْوِيٌّ تَقْدِيرُهُ وَبَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ وَالرَّجَزُ أَحَدُ بُحُورِ الشَّعْرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي أَوَّلُهَا الطَّوِيلُ وَآخِرُهَا الْمُتَقَارِبُ وَهُوَ مُسَدَّسُ الدَّائِرَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ مُسْتَفْعِلُنْ سِتُّ مَرَّاتٍ وَيُقْرَأُ لَفْظُ الْأَحْكَامِ بِنَقْلِ حَرَكَةِ

ص: 5

الْهَمْزَةِ لِلسَّاكِنِ قَبْلَهَا لِلْوَزْنِ وَهُوَ جَمْعُ حُكْمٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْفِقْهُ الْمُتَقَرِّرُ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَقَدَةِ كَالْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا لِيُفْصَلَ بِهَا بَيْنَ الْخُصُومِ.

(وَالْمُوجَزُ) الْمُخْتَصَرُ قَلِيلُ اللَّفْظِ كَثِيرُ الْمَعْنَى (وَآثَرْتُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى اخْتَرْتُ وَفَضَّلْتُ وَمِنْهُ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وَالْمَيْلُ: الْجُنُوحُ وَالرُّكُونُ (وَالتَّبْيِينُ) مَصْدَرُ بَيَّنَ (وَالصَّوْنُ) الْحِفْظُ وَمَعْنَى (جُهْدِي) طَاقَتِي وَوُسْعِي وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالتَّضْمِينُ افْتِقَارُ مَعْنَى الْبَيْتِ إلَى الَّذِي بَعْدَهُ لِكَوْنِهِ خَبَرًا أَوْ جَوَابَ شَرْطٍ أَوْ اسْتِثْنَاءً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ مَعْنَى الْكَلَامِ إلَّا بِهِ وَسُمِّيَ تَضْمِينًا لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَعْنَى الْبَيْتِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالثَّانِي وَهُوَ عِنْدَ الْعَرُوضِيِّينَ مِنْ عُيُوبِ الشِّعْرِ.

وَفِيهِ يَقُولُ الْخَزْرَجِيُّ

وَتَضْمِينُهَا إحْوَاجُ مَعْنًى لِذَا وَذَا

، وَفِيهِ يَقُولُ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي لَامِيَّتِهِ فِي الْعَرُوضِ فِي تَرْجَمَةِ الْعُيُوبِ

تَضْمِينُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ مُفْتَقِرًا

إلَى الَّذِي بَعْدَهُ كَأَنَّهُ وُصِلَا

وَسَمِعْت مِنْ بَعْضِ أَشْيَاخِي رحمه الله أَنَّ النَّاظِمَ عَرَّضَ بِقَوْلِهِ:

وَصُنْته جُهْدِي مِنْ التَّضْمِينِ

إلَى نَظْمِ الْفَقِيهِ الْقَاضِي الْبَلِيغِ أَبِي إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ مِمَّنْ عَاصَرَ ابْنَ رُشْدٍ، وَكَانَ الْقَضَاءُ يَدُورُ بَيْنَهُمَا أَلَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ كَتُحْفَةِ النَّاظِمِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنْ التَّضْمِينِ وَمَا سَمَّاهُ الْيَاقُوتَةَ وَفِيهِ أَلْفُ بَيْتٍ وَصَدْرُهُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَدِيمِ الْبَاقِي

الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ الْخَلَّاقِ

الْحَكَمِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يُسْأَلُ

فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَمَّا يَفْعَلُ

وَالْمَلِكِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْضِي وَلَا

يُقْضَى عَلَيْهِ جَلَّ قَدْرًا وَعَلَا

سُبْحَانَهُ مِنْ وَاحِدٍ تَعَاظَمَا

وَعَلَّمَ الْعِلْمَ أَبَانَا آدَمَا

وَبَعْدُ فَالْأَهَمُّ عِلْمُ الْأَدْيَانِ

لِطَالِبِ الْعُلُومِ كُلَّ الْأَحْيَانِ

وَأَجْرُ مَنْ قَامَ بِهِ عَظِيمُ

وَبِرِضَا اللَّهِ لَهُ نَعِيمُ

وَقَدْ نَظَمْت بَعْضَ أَحْكَامِ الْقَضَا

مُبْتَغِيًا أَجْرًا وَنَيْلًا الرِّضَا

فِي رَجَزٍ خُولِطَ بِالسَّرِيعِ

عَلَى سَبِيلِ الْمُحْدَثِ الْمَتْبُوعِ

مُسْتَعْمِلًا مَا شَذَّ مِنْ زِحَافِ

وَبَعْضَ مَا قَدْ عِيبَ فِي الْقَوَافِي

وَذَاكَ مَغْفُورٌ لَدَى مَنْ أَنْصَفَا

فِي جَنْبِ مَا جِئْت بِهِ مُعَرَّفَا

مُغَلِّبًا تَحْسِينِي الْمَعْنَى عَلَى

تَحْسِينِي اللَّفْظَ الَّذِي عَنْهُ انْجَلَى

وَمَا نَظَمْته بِصِدْقِ النِّيَّةِ

سُمِّيَ بِالْيَاقُوتَةِ الْأَلْفِيَّةِ

إذْ عَدُّهَا يُنْهَى إلَى الْقُضَاةِ

وَغَيْرِهِمْ أَلْفٌ مِنْ الْأَبْيَاتِ

وَمِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّضْمِينِ قَوْلُهُ فِي رُجُوعِ الشَّاهِدِ عَنْ شَهَادَتِهِ

وَإِنْ يَكُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ

يَجُزْ وَيَغْرَمُ امْتِثَالًا لِلْحَكَمْ

جَمِيعَ مَا أَتْلَفَ بِالشَّهَادَهْ

فَصْلٌ وَفِي بَدْءٍ وَفِي إعَادَهْ

يَلْزَمُ مَنْ يَقْضِي بِأَنْ يُسْعِفَ مَنْ

كَلَّفَهُ الْكَتْبَ لِحُكَّامِ الزَّمَنْ

بِمَا بِهِ قَضَى وَمَا قَدْ ثَبَتَا

وَالْعَمَلُ الْيَوْمَ وَمَا أَنْ مُقِتَا

عَلَى قَبُولِ كُتُبِ الْقُضَاةِ

مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ لَهَا وَيَأْتِي

مَنْعُ الْقَبُولِ مَعَ مَا عَلَيْهِ

عَمَلُنَا وَصَغْوُنَا إلَيْهِ

فَانْظُرْ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بَيْتٍ مِنْهَا لَا يَتِمُّ مَعْنَاهُ إلَّا بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ النَّظْمِ وَلَكِنْ يَكْفِي فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ

مُغَلِّبًا تَحْسِينِي الْمَعْنَى عَلَى

تَحْسِينِي اللَّفْظَ الَّذِي عَنْهُ انْجَلَى

رحمه الله وَنَفَعَنَا بِهِ قَوْلُهُ: (وَجِئْت فِي بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ) الْبَيْتُ.

أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِ وَاحِدٍ لِمَشْهُورِيَّتِهِ أَوْ جَرَيَانِ الْعَمَلِ بِهِ، وَفِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ يَذْكُرُ الْخِلَافَ بِحَيْثُ يَحْكِي قَوْلَيْنِ أَوْ

ص: 6

أَكْثَرَ لِمَقَاصِدَ لَهُ فِي ذَلِكَ إمَّا لِمَشْهُورِيَّتِهَا أَوْ لِجَرَيَانِ الْعَمَلِ بِهَا لِكَوْنِ الْقَائِلِ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ وَلَهُ صِيتٌ وَمَكَانَةٌ وَشُهْرَةٌ تَمْنَعُ مِنْ إهْمَالِ قَوْلِهِ وَعَدَمِ حِكَايَتِهِ وَإِنْ خَالَفَ الْمَشْهُورَ وَمَا بِهِ الْعَمَلُ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ رَعْيًا لِاشْتِهَارِ الْقَائِلِ وَلَا يَعْنِي بِذَلِكَ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ الَّذِي هُوَ إعْمَالُ دَلِيلِ الْخَصْمِ فِي لَازِمِ مَدْلُولِهِ الَّذِي أُعْمِلَ فِي نَقِيضِهِ دَلِيلٌ آخَرُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ دَأْبِ الْمُجْتَهِدِينَ النَّاظِرِينَ فِي الْأَدِلَّةِ فَحَيْثُ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُمْ دَلِيلُ الْغَيْرِ أَعْمَلُوهُ وَحَيْثُ لَا أَهْمَلُوهُ، وَالنَّاظِمُ إنَّمَا هُوَ نَاظِمٌ لِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَجَامِعٌ لَهُ بِمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَإِنْ وَجَدْت فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا النَّظْمِ فَلَا يُعَبِّرُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْخِلَافِ وَإِنَّمَا يَجْزِمُ بِالْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ وَقَدْ أَطَالَ الشَّارِحُ هُنَا بِالْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَبْحَاثِ وَهِيَ مِنْ حِسَانِ الْمَسَائِلِ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْرَحَ بِهَا قَوْلُهُ رَعْيًا لِاشْتِهَارِ الْقَائِلِ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَام الشَّارِحِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ بِوَجْهٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَكَذَا أَطَالَ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْجِيحِ مِنْ الْخِلَافِ وَمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ وَالْفَتْوَى بِهِ وَمَا لَا وَمَنْ تَجُوزُ فَتْوَاهُ وَمَنْ لَا وَالْخِلَافُ الَّذِي فِي الْمَشْهُورِ مَا هُوَ وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ خِلَافَ الْمَشْهُورِ مِنْ مُرَاعَاةِ مَصَالِحَ عَرَضَتْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يُلْزَمُ اتِّبَاعَ عَمَلِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَيُنْهَى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِدِ فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِمُرَاجَعَتِهِ وَقَوْلُهُ فَضِمْنُهُ الْمُفِيدُ الْبَيْتُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النَّظْمَ تَضَمَّنَ الْمَسَائِلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَيْهَا هَذِهِ الْكُتُبُ وَهِيَ مُفِيدُ الْحُكَّامِ لِابْنِ هِشَامٍ وَالْمُقَرِّبُ وَالْمُنْتَخَبُ كِلَاهُمَا لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ الْأُولَى وَالْمَقْصِدُ الْمَحْمُودُ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ وَلَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا النَّظْمَ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ مَسَائِلِ هَذِهِ الْكُتُبِ بَلْ وَلَا جُلِّهَا وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ فِيهِ فَوَائِدَ وَمَسَائِلَ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ وَفِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ تَوْرِيَةٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا النَّظْمَ اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهُ مُفِيدًا مُقَرِّبًا مُنْتَخَبًا وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ مَقْصِدٌ مَحْمُودٌ شَرْعًا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَنَفَعَهُ بِهِ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء: 88]{إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] .

نَظَمْته تَذْكِرَةً وَحِينَ تَمَّ

بِمَا بِهِ الْبَلْوَى تَعُمُّ قَدْ أَلَمَّ

سَمَّيْته بِتُحْفَةِ الْحُكَّامِ

فِي نُكَتِ الْعُقُودِ وَالْأَحْكَامِ

النَّظْمُ الْجَمْعُ يُقَالُ: نَظَمْت الْعِقْدَ إذَا جَمَعْت جَوَاهِرَهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَحْسَنُ وَقَوْلُهُ: (تَذْكِرَةً) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ هُوَ بَيَانٌ لِلسَّبَبِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى نَظْمِهِ وَهُوَ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ تَقَدَّمَتْ لَهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ ثُمَّ نَسِيَهُ يَعْنِي وَتَبْصِرَةً لِمَنْ يَتَقَدَّمُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ بَرِّيٍّ

يَكُونُ لِلْمُبْتَدِئِينَ تَبْصِرَةً

الْبَيْتَ، وَقَوْلُ الْعِرَاقِيِّ فِي صَدْرِ أَلْفِيَّتِهِ الْحَدِيثِيَّةِ

نَظَمْتهَا تَبْصِرَةً لِلْمُبْتَدِئِ

الْبَيْتَ، وَجُمْلَةُ (سَمَّيْته) مَعْطُوفَةٌ عَلَى نَظَمْته وَحِينَ يَتَعَلَّقُ بِتَعُمُّ.

وَ (تَمَّ) بِمَعْنَى كَمُلَ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَلَمَّ، وَ (أَلَمَّ) مَعْنَاهُ نَزَلَ وَالْمُنَاسِبُ لِلْمَحَلِّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ أَلَمَّ بِكَذَا أَيْ أَشْعَرَ بِهِ أَوْ لَا إلْمَامَ لَهُ بِكَذَا أَيْ لَا إشْعَارَ لَهُ بِهِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ بِتَعُمُّ وَالْبَلْوَى مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَةُ تَعُمُّ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ مَا، وَجُمْلَةُ قَدْ أَلَمَّ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تَمَّ، وَتَقْدِيرُ الْبَيْتِ نَظَمْته تَذْكِرَةً وَسَمَّيْتُهُ بِكَذَا حِينَ كَمُلَ حَالَ كَوْنِهِ مُلِمًّا أَيْ مُشْعِرًا بِمَا الْبَلْوَى تَعُمُّ بِهِ لِلْقُضَاةِ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ لَدَيْهِمْ وَالتُّحْفَةُ مَا أَتْحَفْت بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْبِرِّ وَاللُّطْفِ وَكَذَا التُّحْفَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجَمْعُ تُحَفٌ (وَالنُّكَتُ) جَمْعُ نُكْتَةٍ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَنْبُو عَنْهُ النَّظَرُ وَلَا يُدْرَكُ بِسُرْعَةٍ (وَالْعُقُودُ) جَمْعُ عَقْدٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الصُّكُوكُ وَالْوَثَائِقُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا مَا انْبَرَمَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، (وَالْأَحْكَامُ) جَمْعُ حُكْمٍ وَهُوَ مَا يُلْزِمُ بِهِ الْقَاضِي الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ لِأَنَّ الْفَتْوَى هِيَ الْإِخْبَارُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ وَالْحُكْمُ هُوَ الْإِلْزَامُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ عَدَمِ تَعَرُّضِهِمْ لِلْمُعْتَقَدَاتِ وَالْعِبَادَاتِ بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى

ص: 7

مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ وَالْخُصُومَاتِ.

وَقَدْ جَرَى النَّاظِمُ رحمه الله عَلَى عَادَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ فِي تَسْمِيَةِ تَآلِيفِهِمْ بِمَا يَخْتَارُونَهُ لَهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ فِيهَا وَكَلَامُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ كَانَتْ بَعْدَ كَمَالِ النَّظْمِ وَتَمَامِهِ وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ لِلنَّاظِمِ كَلَامًا عَلَى الْوَثَائِقِ وَهُوَ إنَّمَا تَكَلَّمَ عَلَى الْأَحْكَامِ خَاصَّةً وَأَجَابَ وَلَدُهُ بِأَنَّ الْفِقْهَ الْمَذْكُورَ فِي النَّظْمِ هُوَ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْعُقُودُ وَرُسِمَتْ عَلَيْهِ الْوَثَائِقُ فَمَعْرِفَتُهُ طَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ مَا عُقِدَ فِي الْوَثَائِقِ وَطَرِيقَةُ التَّوْثِيقِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْحَزْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْخِلَافِ وَارْتِكَابِ الْوَجْهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَالْخُصُومَاتِ، وَذَلِكَ كَاشْتِرَاطِهِمْ إذْنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِلضَّامِنِ فِي الضَّمَانِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَدَمَ اشْتِرَاطِهِ وَسَيَقُولُ النَّاظِمُ

وَلَا اعْتِبَارَ بِرِضَا مَنْ ضَمِنَا

وَكَإِنْزَالِ الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْأُصُولِ أَيْ إقْبَاضَهُ إيَّاهَا وَذَلِكَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ الَّذِي فِي انْتِقَالِ الضَّمَانِ هَلْ هُوَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَوْ إلَّا مَعَ الْقَبْضِ فَلِلْخُرُوجِ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ يَقُولُ الْمُوَثِّقُونَ فِي وَثَائِقِهِمْ وَنَزَلَ الْمُبْتَاعُ فِيمَا ابْتَاعَ، وَأَبْرَأ الْبَائِعَ مِنْ دَرْكِ الْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ بِنُزُولِهِ فِيمَا ابْتَاعَ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ الْبَائِعِ بِاتِّفَاقٍ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْإِمَامُ سَيِّدِي عَبْدُ الْوَاحِدِ الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي نَظْمِ إيضَاحِ الْمَسَالِكِ لِوَالِدِهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي تَرْجَمَةِ الْبَيْعِ هَلْ هُوَ الْعَقْدُ فَقَطْ أَوْ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِنْزَالَ.

وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أَشْهُبَا

أَوْرَدَهُ الْمُوَثِّقُونَ الْكُتُبَا

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِمْ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، وَالْفِقْهُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُ الْأَحْكَامِ هُوَ لُبَابُ الْفِقْهِ وَمَنْخُولُهُ.

وَذَاكَ لَمَّا أَنْ بُلِيتُ بِالْقَضَا

بَعْدَ شَبَابٍ مَرَّ عَنِّي وَانْقَضَى

وَإِنَّنِي أَسْأَلُ مِنْ رَبٍّ قَضَا

بِهِ عَلَيَّ الرِّفْقَ مِنْهُ فِي الْقَضَا

وَالْحَمْلَ وَالتَّوْفِيقَ أَنْ أَكُونَا

مِنْ أُمَّةٍ بِالْحَقِّ يَعْدِلُونَا

حَتَّى أُرَى مِنْ مُفْرَدِ الثَّلَاثَةِ

وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ لِي وِرَاثَهْ

الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إلَى النَّظْمِ تَسْمِيَتُهُ (وَلَمَّا) بِمَعْنَى حِينَ، (وَأَنْ) بَعْدَهَا زَائِدَةٌ عَلَى حَدِّ {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} [العنكبوت: 33] وَبُلِيتُ مَعْنَاهُ اُمْتُحِنْت بِخُطَّةِ الْقَضَاءِ فَبِالْقَضَاءِ يَتَعَلَّقُ بِبُلِيتُ وَكَذَا بَعْدَ شَبَابٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ صِفَةً، أَوْ حَالًا مِنْ الْقَضَاءِ (وَالشَّبَابُ) الصِّبَا وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الشَّبَابُ الْحَدَاثَةُ وَكَذَا الشَّبِيبَةُ وَأَشَارَ بِالْبَيْتِ إلَى بَيَانِ وَقْتِ نَظْمِهِ لِهَذِهِ الْأُرْجُوزَةِ وَهُوَ حِينَ وِلَايَتِهِ خُطَّةَ الْقَضَاءِ وَقَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ لَهَا بِمَدِينَةِ وَادِي آشٍ فِي شَهْرِ صَفَرٍ مِنْ عَامِ عِشْرِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ إلَى أَنْ نُقِلَ عَنْهَا إلَى قَضَاءِ الْجَمَاعَةِ بِالْحَضْرَةِ وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ عَامِ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ كَذَا قَالَ وَلَدُهُ رحمه الله وَيَعْنِي بِالْحَضْرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَضْرَةَ غَرْنَاطَةَ أَعَادَهَا اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِ فِيمَا قَضَى بِهِ فِي أَزَلِهِ وَجُمْلَةُ قَضَى بِهِ عَلَيَّ صِفَةٌ (لِرَبٍّ) ، (وَالرِّفْقَ) مَفْعُولُ أَسْأَلَ.

(وَالْحَمْلَ وَالتَّوْفِيقَ) مَعْطُوفَانِ عَلَى الرِّفْقِ وَالْحَمْلِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ قُوَّةَ الْحَمْلِ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِينَهُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ هَذِهِ الْخُطَّةِ الْعَظِيمَةِ وَأَنْ يُوَفِّقَهُ فِيهَا إلَى الصَّوَابِ لَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] حَتَّى يَرَى مُفْرَدَ الثَّلَاثَةِ وَأَشَارَ بِهِ إلَى مَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» وَجُمْلَةُ

وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ لِي وِرَاثَهْ

فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَائِبِ أُرَى، (الْجَنَّةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْحَدِيقَةُ ذَاتُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَالْفِرْدَوْسُ قَالَ الْفَرَّاءُ الْفِرْدَوْسُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ الْكَرْمُ وَمَعْنَى كَوْنِهَا وِرَاثَةً لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.

ص: 8