الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما تَغَيَّرَ القرآنُ، ولكن تغيرت القلوب (1).
والله عز وجل يشفي صدور المؤمنين بنصرهم على أعدائهم وأعدائه، قال سبحانه:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَن يَشَاءُ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2).
فإن في قلوب المؤمنين الحنق والغيظ عليهم، فيكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغمِّ، والهمِّ؛ إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين لله ولرسوله، ساعين في إطفاء نور الله، فيزيل الله ما في قلوبهم من ذلك، وهذا يدل على محبة الله للمؤمنين، واعتنائه بأحوالهم (3).
النوع الثاني شفاء الله للأجساد والأبدان:
والقرآن كما أنه شفاء للأرواح والقلوب فهو شفاء لعلل الأبدان كما تقدم؛ فإن فيه شفاء الأرواح والأبدان. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يُقْرُوهم، فبينما هم كذلك إذ لُدِغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا إنكم لم تُقْرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء فجعل يقرأُ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذ حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه، فضحك وقال: ((وما أدراك
(1) في ظلال القرآن، 5/ 3128.
(2)
سورة التوبة، الآيتان: 14 - 15.
(3)
تفسير العلامة السعدي رحمه الله، 3/ 206.
أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم)) (1).
وعن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها)) (2). والمعوذات هي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
قال ابن القيم رحمه الله: ((ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظنُّ بكلام رب العالمين الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام والعصمة النافعة، والنور الهادي والرحمة العامة، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتصدع من عظمته وجلالته، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (3)، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا هو أصحُّ القولين)) (4).
وعلى هذا فالقرآن فيه شفاءٌ لأرواح المؤمنين، وشفاء لأجسادهم.
والله عز وجل هو الشافي من أمراض الأجساد، وعلل الأبدان، قال عز وجل:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، برقم 5736، ومسلم في السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم 2201.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات، برقم 5735، ومسلم في كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوذات والنفث، برقم 2192.
(3)
سورة الإسراء، الآية:82.
(4)
زاد المعاد لابن القيم، 4/ 177.
يَتَفَكَّرُونَ} (1).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: ما بين أبيض، وأصفر، وأحمر، وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها، وقوله:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ، أي في العسل شفاء للناس من أدواء
تعرض لهم.
قال بعض من تكلم على الطب النبوي لو قال: فيه الشفاء لكان دواء لكل داء، ولكن قال فيه شفاء للناس، أي يصلح لكل أحدٍ من أدواءٍ باردة؛ فإنه حارٌ، والشيء يُداوى بضده
…
والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هو العسل، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسقه عسلاً)) فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيتُهُ فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال له ثلاث مرات، ثم جاءه الرابعة فقال:((اسقه عسلاً))،فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((صدق الله وكذب بطن أخيك)) فسقاه فَبَرأَ (2).
قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالاً فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه، فازداد، ثم سقاه
(1) سورة النحل، الآيتان: 68 - 69.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، برقم 5684، ومسلم في كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم 2217.
فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه الصلاة والسلام (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((الشفاء في ثلاث: شربةِ عسلٍ، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي)) (2) رفع الحديث.
والله عز وجل هو الذي هدى النحلة الصغيرة هذه الهداية العجيبة، ويسّر لها المراعي ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها وهدايته لها، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة، فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي ينبغي أن لا يُحُب ولا يُدعى سواه (3).
وأخبر الله عز وجل عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (4).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} : أسند إبراهيم عليه الصلاة والسلام المرض إلى نفسه، وإن كان
(1) تفسير ابن كثير، 2/ 576.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، برقم 5680، موقوفاً. ورقم 5681 مرفوعاً.
(3)
تفسير العلامة السعدي، 4/ 218.
(4)
سورة الشعراء، الآيات: 78 - 80.
عن قدر الله وقضائه، وخلقه، ولكنه أضافه إلى نفسه أدباً.
ومعنى ذلك: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يُقدِّر تبارك وتعالى من الأسباب الموصلة إلى الشفاء (1).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد الأمة إلى طلب الشفاء من الله الشافي الذي لا شفاء إلا شفاءه، ومن ذلك ما رواه مسلم وغيره عن عثمان بن العاص أنه اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذِر)) (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال سبع مرات: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك، إلاّ عافاه الله من ذلك المرض)) (3).
فهذا من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن يعتمدوا على ربهم مع الأخذ بالأسباب المشروعة؛ فإن الله عز وجل هو الشافي، لا شفاء إلا شفاءه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه بالشفاء؛ لأنه هو الذي يملك الشفاء، والشفاء بيده تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم لسعدٍ: ((اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً،
(1) تفسير ابن كثير بتصرف، 3/ 339.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، برقم 2202.
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، برقم 3106، والترمذي في كتاب الطب، باب 32، برقم 2083، وأحمد، 1/ 239، وقال أبو عيسى:((هذا حديث حسن غريب)). وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6388.
اللهم اشف سعداً)) (1).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي بعض أصحابه، ويطلب الشفاء من الله الشافي:((بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفى سقيمنا بإذن ربنا)) (2).
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم أن الله هو الذي ينزل الدواء وهو الشافي، فقال صلى الله عليه وسلم:((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً)) (3).
وعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لكل داء دواءٌ، فإذا أصيب دواءُ الداءِ بَرأَ بإذن الله عز وجل)) (4)، وقال صلى الله عليه وسلم:((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بحرام)) (5).
وجاءت الأعراب فقالت: يا رسول الله ألا نتداوى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً، إلا داءً واحداً)) فقالوا يا رسول الله ما هو؟ قال: ((الهرم)) (6).
(1) أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض، برقم 5659، ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم 1628/ 8.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 5745، ومسلم في كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، برقم 2194.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 5678.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، برقم 2204.
(5)
أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم 3874. قال المنذري:((في إسناده إسماعيل بن عياش فيه مقال)). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم 1569، ويغني عنه ما تقدم من الأحاديث، وما سيأتي.
(6)
أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، برقم 3855،والترمذي في كتاب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، برقم 2038،وابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3436، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2930.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنزل الله من داء إلا قد أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله)) (1).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله: ((لكل داء دواء)) على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن للطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلا؛ ً لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله
…
)) (2).
فالله عز وجل هو الشافي الذي يشفي من يشاء ويطوي علم الشفاء عن الأطباء إذا لم يرد الشفاء.
فنسأل الله الذي لا إله إلا هو بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشفي قلوبنا وأبداننا من كل سوء، ويحفظنا بالإسلام، وجميع المسلمين؛ إنه ولّي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1) أخرجه أحمد،1/ 377، وبتريب الشيخ شاكر، 5/ 201، برقم 3578، وصححه. والحميدي في المسند، 1/ 50، برقم 90، وأبو يعلى في المسند، 9/ 113، برقم 5183، وابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3438، 3439 مختصراً. والحاكم،
4/ 196 - 197، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وصحح الألباني رواية ابن ماجه في صحيح الجامع، برقم 5558، 5559.
(2)
زاد المعاد في هدي خير العباد، 4/ 14.