المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة أهمية الدّراسة، وسبب اختيار الموضوع: لقد هيأ الله تبارك وتعالى أن - غزوة مؤتة والسرايا والبعوث النبوية الشمالية

[بريك العمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: السرايا والبعوث النبوية الشمالية قبل غزوة مؤتة

- ‌الفصل الأول: سرايا زيد بن حارثة رضي الله عنه

- ‌المبحث الأول: سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى وادى القرى

- ‌المطلب الأول: التعريف بوادى القرى

- ‌المطلب الثاني: الخلاف في سبب السرية:

- ‌المطلب الثالث: الخلاف في قائد السرية:

- ‌المطلب الرابع: تاريخ السرية:

- ‌المطلب الخامس: سير الأحداث:

- ‌المطلب السادس: الأحكام المستنبطة، والدروس والعبر المستفادة:

- ‌المبحث الثاني: سرية زيد بن الحارث رضى الله عنه إلى حسمى (جذام)

- ‌المطلب الأول: التعريف بحسمى

- ‌المطلب الثاني: سبب السرية:

- ‌المطلب الثالث: تاريخ السرية:

- ‌المطلب الرابع: سير الأحداث:

- ‌المبحث الثالث: سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى مدين

- ‌المطلب الأول: التعريف بمدين

- ‌المطلب الثاني: راوي الخبر وسياقه:

- ‌المطلب الثالث: تاريخ السرية:

- ‌المطلب الرابع: سير الأحداث:

- ‌الفصل الثاني: السرايا والبعوث النبوية إلى فدك

- ‌المبحث الأول: سرية على بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بني مرة بفدك

- ‌المطلب الأول: تعريف بفدك

- ‌المطلب الثاني: تاريخ السرية، وسببها

- ‌المطلب الثالث: سير الأحداث

- ‌المطلب الرابع: الدروس والعبر المستقاة من أحداث السرية:

- ‌المبحث الثاني: سرية بشير بن سعد رضي الله عنه إلى بني مرة بفدك

- ‌المطلب الأول: تاريخ السرية

- ‌المطلب الثاني: سبب السرية:

- ‌المطلب الثالث: سير الأحداث:

- ‌المبحث الثالث: سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك (الحرقات)

- ‌المطلب الأول: الخلاف في السرية

- ‌المطلب الثاني: "تاريخ السرية:

- ‌المطلب الثالث: سير الأحداث:

- ‌المطلب الرابع: "الأحكام المستنبطة والعبر والدروس المستفادة:

- ‌الفصل الثالث: بقية السرايا والبعوث النبوية الشمالية قبل غزوة مؤتة

- ‌المبحث الأول: سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل

- ‌المطلب الأول: التعريف بدومة الجندل

- ‌المطلب الثاني: تاريخ السرية:

- ‌المطلب الثالث: سير الأحداث:

- ‌المطلب الرابع: الدروس والعظات المستفادة:

- ‌المبحث الثاني: سرية بشير بن سعد رضي الله عنه إلى الجناب (يمن، وجبار)

- ‌المطلب الأول: التعريف بالجناب، ويمن، وجبار

- ‌المطلب الثاني: تاريخ السرية:

- ‌المطلب الثالث: سبب السرية:

- ‌المطلب الرابع: سير الأحداث:

- ‌المطلب الخامس: الأحكام المستنبطة والدروس المستفادة:

- ‌المبحث الثالث: سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله عنه إلى أطلاح

- ‌المطلب الأول: التعريف بذات أطلاح

- ‌المطلب الثاني: تاريخ السرية:

- ‌المطلب الثالث: سبب السرية:

- ‌المطلب الرابع: سير الأحداث:

- ‌المطلب الخامس: الدروس المستفادة:

- ‌الباب الثاني: غزوة مؤتة

- ‌الفصل الأول: إسم المعركة، وموقعها

- ‌المبحث الأول: إسم المعركة

- ‌المبحث الثاني: موقع المعركة:

- ‌الفصل الثاني: أسباب الغزوة، وتاريخها

- ‌المبحث الأول: أسباب الغزوة

- ‌المبحث الثاني: تاريخ الغزوة:

- ‌الفصل الثالث: حشد القوات الإسلامية

- ‌المبحث الأول: عدد الجيش، وتولية القيادة

- ‌المبحث الثاني: الوصايا التي تزوَّد بها الجيش، وتوديعه:

- ‌الفصل الرابع: حشد القوات الرومانية وحلفائها من القبائل المتنصرة

- ‌المبحث الأول: الخلاف في عددهم

- ‌المبحث الثاني: الخلاف في قادتهم:

- ‌الفصل الخامس: سير الأحداث

- ‌المبحث الأول: إحداث الطريق إلى مؤتة

- ‌المطلب الأول: تشاور المسلمين في معان

- ‌المطلب الثاني: التحرشات العائية التى تعرض لها المسلمون في طريقهم إلى مؤتة

- ‌المبحث الثاني: وصف المعركة

- ‌المطلب الأول: تعبئة المسلمين

- ‌المطلب الثاني: وصف حي لقتال القادة الثلاثة واستشهادهم:

- ‌المطلب الثالث: اشتعال المعركة بين الجيشين:

- ‌المطلب الرابع: تولى خالد بن الوليد رضي الله عنه القيادة وانسحابه بالمسلمين

- ‌الفصل السادس: نتائج المعركة

- ‌المبحث الأول: نقل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في المدينة أحداث المعركة

- ‌المبحث الثاني: تحرُّك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سريعاً لإمداد أهل مؤتة:

- ‌المبحث الثالث: شهداء المسلمين في المعركة، وقتلى العدو:

- ‌المبحث الرابع: الخلاف في نتيجة المعركة:

- ‌المبحث الخامس: ردة فعل أهل المدينة لنتيجة المعركة:

- ‌المبحث السادس: حزن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قتلى مؤتة

- ‌الفصل السابع: الأحكام المستنبطة والدروس المستفادة من الغزوة

- ‌المبحث الأول: الأحكام المستنبطة

- ‌المبحث الثّاني: الدروس المستفادة:

- ‌الباب الثالث: السرايا والبعوث النبوية الشمالية بعد غزوة مؤتة

- ‌الفصل الأول: سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل

- ‌المبحث الأول: مسمى السرية ومكانها

- ‌المطلب الأول: مسمى السرية

- ‌المطلب الثّاني: مكانها، أو الجهة التي توجَّهت إليها السّرية:

- ‌المبحث الثّاني: سبب السّرية:

- ‌المبحث الثّالث: تاريخ السّرية:

- ‌المبحث الرّابع: عدد الجيش، وقائده:

- ‌المبحث الخامس: سير الأحداث:

- ‌المبحث السّادس: الأحكام المستنبطة، والدّروس المستفادة:

- ‌الفصل الثاني: سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الأكيدر

- ‌المبحث الأول: تاريخ السرية

- ‌المبحث الثّاني: قُوَّة السّريّة، وقَائدُها:

- ‌المبحث الثالث: سير الأحداث:

- ‌المبحث الرّابع: الخِلاف في إسلام الأكيدر:

- ‌المبحث الخامس: الدروس المستفادة

- ‌الفصل الثالث: سرية أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى أبنى

- ‌المبحث الأول: التعريف بأبنى

- ‌المبحث الثّاني: تاريخ السّريّة:

- ‌المبحث الثّالث: سبب السّرية والمهمّة التي أُنيطت بها:

- ‌المبحث الرّابع: مراسم تولية القائد، ووصيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: الطّعن في قائد الجيش

- ‌المبحث السّادس: سير الأحداث:

- ‌المبحث السّابع: الأحكام المستنبطة، والدّروس المستفادة:

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌ ‌مقدمة أهمية الدّراسة، وسبب اختيار الموضوع: لقد هيأ الله تبارك وتعالى أن

‌مقدمة

أهمية الدّراسة، وسبب اختيار الموضوع:

لقد هيأ الله تبارك وتعالى أن أكون أحد خُدّام سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم خلال العشر سنوات التي مضت من عمري، منذ أن سجّلت في الدّراسات العليا، حيث كانت البداية في مرحلة الماجستير، التي وفّقني الله عز وجل فيها باختيار موضوع السرايا والبُعُوث النبويّة، كبحث لرسالة الماجستير، لأرتبط منذ البداية ذلك الارتباط المحبَّب إلى نفسي منذ نعومة أظفاري، مع سيرة أحبّ الخلق وأكرمهم على الله تبارك وتعالى، محمّد صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه خير الخلق وأفضلهم بعد نبيّه صلى الله عليه وسلم.

ولأنّ السرايا والبعوث النبوّية كانت كثيرة جداً، فقد تمّ الاقتصار في الدراسة على السرايا والبعوث النبوّية حول المدينة ومكّة.

ولقد كانت تلك الدراسة دراسة نقدية وتحليلية لروايات السرايا والبعوث، غير مسبوقة - حسب اعتقادي - من حيث النقد والتحليل والتنظيم.

وكانت تلك تجربة شيقة وممتعة بالنسبة لي، رغم ما اكتنفها من صعوبات.

ولما طُلِبَ مني اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه، أصرّ الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري - حفظه الله تعالى - الذي تولّى الإشراف عليَّ في مرحلة الماجستير، وجزءاً غير قليل في مرحلة الدكتوراه - على أن

ص: 19

أكمل دراسة بقية السرايا والبُعُوث، فكان ذلك الإصرار دافعاً قويّاً لي لمتابعة العمل، رغم علمي المسبق نتيجة التجربة السابقة أنّه لن يكون عملاً هيِّناً.

فتقدّمت إلى القسم لتسجيل الموضوع، وذلك بعد وضع الخطة المناسبة التي وزَّعت عليها ما تبقى من السرايا والبعوث النّبوّيّة، وأضفت عليها غزوة باعتبار أنّها تدخل ضمن نطاق السرايا والبعوث النّبوّيّة، وذلك حسب اصطلاح أهل المغازي في تعريف الغزوة والسرية1. فكان العدد حوالي خمسٍ وأربعين سرية، نصفها مسند بروايات لدى كُتُب الحديث، والتفسير، وأسباب النّزول، والسيرة النّبوّيّة، والدلائل، وكتب التاريخ، وغيرها من المصادر، والنصف الآخر مرويّ بلا إسنادٍ في كتب السيرة والتاريخ.

وتشمل تلك السرايا والبعوث سرايا تأديبية، وبعوث دعوية، وأخرى قتالية، وسرايا تحطيم الأصنام، بالإضافة إلى سرية مؤتة التي أفردت لها فصلاً خاصّاً لكثرة وتعدّد الروايات الخاصّة بها.

كما تشتمل الخطّة على سرايا مبهمة، وأخرى لم ترد فيها روايات مفصَّلة، وهي تصل في عددها إلى أكثر من ثلاثين بعثاً وسرية.

وبعد أن عُرِضَ الموضوع على مجلس الكليّة الموقَّر، رأى المجلس اختصار الموضوع بتقليص عدد السرايا والبعوث بالتنسيق مع فضيلة المشرف.

1 انظر: بريك محمّد أبو مايلة: السرايا والبعوث النّبوّيّة حول مكّة والمدينة: 43.

ص: 20

وبعد مناقشة الأمر مع فضيلته، اقترح عليَّ أن أقتصر على غزوة مؤتة مع السرايا والبعوث النّبوّيّة الشَمالية. وفعلاً تمَّ اختيار الموضوع بهذا العنوان:[غزوة مؤتة، والسّرايا والبعوث النّبوّيّة الشّماليّة - دراسة نقدية] .

إنّ الأهمية التي تمثلها هذه الدراسة، هو أنّ معظم الدراسات الحديثة للسرايا والبعوث النبوية هي في الغالب سرد المعلومات المختلفة التي وردت عنها في المصادر القديمة دون تمحيص، وبخاصّة ما ورد عنها في مغازي الواقدي، وتلميذه ابن سعد في طبقاته، باعتبارهما من المصادر القليلة القديمة المتوفرة التي أفردت أبواباً كثيرة للسرايا والبعوث، مع إيراد معلومات مفصَّلة عن الأحداث، وقد يُعْذَرُ الباحثون المعاصرون في اعتمادهم هذين المصدرين فقد اعْتُمِدَ عليهما من قِبل معظم كُتّاب المغازي المتأخرين، أمثال ابن سيد الناس، والمقريزي، والحلبي، والشامي، والقسطلاني، والذهبي، وابن حجر، وابن القيم، وغيرهم.

وإنّه من استقراء منهجَي الواقدي، وتلميذه ابن سعد، في رواياتهما عن السرايا والبعوث، فقد لاحظت أنّ الواقدي يحشد معلومات وفيرة، وتفصيلية عن الأحداث، وربما ينفرد بها عن غيره من أهل المغازي، وقد تابعه في ذلك تلميذه ابن سعد، وبخاصّة الروايات التي يسوقها عن شيوخه بلفظ:((قالوا)) ، وهي في الغالب منقولة عن شيخه الواقدي لتطابق المعلومات بينهما.

والواقدي متروك عند المحدِّثين، لذلك حاولت قدر المستطاع عدم الاعتماد على روايته إلاّ في الجوانب التي لا تختصّ بالأمور العقدية والشرعية ونحتاج إليها لإكمال الإطار التاريخي للحادثة.

ص: 21

وباعتبار أنّ هذين المصدرين متداولان، وسهلا التناول، فقد كان الاعتماد عليهما كثيراً بالنسبة لمن كتب عن السرايا والبعوث، بينما هنالك روايات وردت عن ثقات أهل المغازي، كعروة، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمّد بن عائذ، وغيرهم، ولكن لفقدها، وتناثر رواياتها في بعض الكتب والمصادر غير المتخصّصة، جعلها غير معروفة لدى الكثير ممّن كتب عن السرايا والبعوث من المعاصرين.

وكان من نتيجة هذا الأمر أن اختلطت المعلومات حول السرايا والبعوث، لأنّ من كتب عنها إنّما راعى عملية حشد المعلومات الواردة في المصادر المتوفرة، دون استقصاء وبحث عن الصحيح من الروايات، ودون تمحيص أو نقد، ممّا ولّد انطباعاً لدى البعض أنّ معظم الروايات التي تحدّثت عن تلك السرايا والبعوث إنّما هي في الغالب غير صحيحة، لأنّه رأى في بعضها نوعاً من المبالغة والتهويل ومخالفة المعقول، مثل ما ذكر عن عدد الروم وحلفائهم في مؤتة، وما ذكر - أيضاً - عن استمرار المعركة سبعة أيام.

أيضاً كان هنالك نوعٌ من الاختلاف والتناقض واللبس في بعض الروايات، مثل ما ذكر عن سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه، إلى بني فزارة، وسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني مرّة (الحرقات) .

إنّ هذه الدراسة باعتمادها تنويع المصادر المختلفة، وبخاصّة الموثوق منها مثل: كتب الحديث وغيرها من المصادر، كان من ثمارها تلك المعلومات التي قد يلاحظها القارئ لأوّل مرّة، مثل ما ذُكِرَ في رواية أبي قتادة رضي الله عنه، عن محاولة النبي صلى الله عليه وسلم إمداد أهل مؤتة حينما بلغه خبرهم.

ص: 22

لقد أتاح لي استقراء كتب الحديث، والتفسير، وكتب التراجم، وبعض المخطوطات، الخروج بذخيرةٍ لا بأس بها من الروايات غير المشهورة وإنّني بذلك لا أدّعي الجدّة في الموضوع بمعناها المطلق، فعِلم المغازي ليس علماً تجريبياً، وإنّما هو من العلوم النقلية التي اسْتُفْرِغَتْ فيه الجهود العظيمة، على مرّ العصور مِمّن هم أفضل مني وأعلم. كما أنّ من الأمانة العلمية الاعتراف بالاستفادة من كتابات المعاصرين، وكانت بعض تلك الكتابات قد صِيغَت بأسلوبٍ أدبي رائعٍ، ولكنها في الحقيقة كتبت اعتماداً على بعض روايات أهل المغازي دون تمحيص أو توثيق.

وحيث إنّني كنت بين أمرين: إمّا أن أكتب من جديد في الموضوع، وذلك طبعاً بعد عمليتي النقد والتوثيق، أو أستفيد من كتابات بعض من سبقني، وبخاصّة في الروايات التي تتَّفِق مع منهجي في العمل، مع إضافة أسلوبي أحياناً كثيرة.

فكان أن اخترت الأمر الثاني، لأنّني لن آتي بجديد غير ما كُتِب، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وحسبي أنني اجتهدت في تنويع المصادر مع اختيار الأصحّ قدر المستطاع، كما أجهدت نفسي في عمليتي النقد والتوثيق، وهما العمليتان اللتان لم أُسْبَق إليهما - حسب علمي - بمثل هذا التوسع والعمق، وإن كان هنالك بعض من سبقني بالنسبة لنقد الروايات، ولكنها كانت إمّا أعمالاً مختصرة، أو مقتصرة على روايات بعض أصحاب المغازي فقط.

ص: 23

خُطّة البحث:

تشتمل خطّة البحث على: مقدّمة، وثلاثة أبواب، يحتوي كلّ باب على عدّة فصولٍ، يندرج تحت كلّ فصلٍ عدّة مباحث، وبعض المباحث تحتوي على بعض المطالب، وخاتمة، ثم فهارس تفصيلية.

هذا وقد قسمت خطّة البحث وفق التسلسل التاريخي للأحداث، حيث كانت هنالك سرايا حدثت قبل غزوة مؤتة وسرايا بعدها، وحتى تكون الرسالة منسجمة مع التسلسل التاريخي للأحداث جعلت السرايا التي حدثت قبل مؤتة في الباب الأوّل، وسَمَّيْته: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية قبل غزوة مؤتة، وجعلت الغزوة بفصولها ومباحثها في الباب الثاني، أما الباب الثالث فجعلته للسرايا التي حدثت بعد غزوة مؤتة، وسَمَّيْته: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية بعد غزوة مؤتة.

وكانت الخطّة على النحو التالي:

تمهيد:

مقدّمة: وتشمتل على أهمية الموضوع، وسبب اختياره، والخطّة، والمنهج والصعوبات التي واجهتها، وشكرٍ وتقديرٍ.

الباب الأوّل: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية قبل غزوة مؤتة، ويحتوي على ثلاثة فصول:

ص: 24

الفصل الأوّل: سرايا زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي السرايا التي ذكر أهل المغازي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثها إلى المنطقة بقيادة حبّه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وذلك لتأديب الأعراب الذين كانوا يشكلون خطراً متنامياً على المسلمين الذين كانوا يتطلعون إلى المضي قدماً في دعوتهم إلى الإسلام في المنطقة، وكانت ثلاث سرايا: الأولى إلى وادي القرى، والثانية: إلى حسمى، والثالثة إلى مدين.

الفصل الثاني: السرايا والبعوث النّبوّيّة إلى فدك، وهي السرايا والبعوث التي أرسلت إلى مناطق القبائل المشركة، التي كانت تسكن حول فدك، وهم: بنو سعد، وبنو مرّة، وغيرهم، وذلك في سياق الجهود المبذولة من النبي صلى الله عليه وسلم لتحطيم الحلف الخيبري القائم بينها وبين يهود خيبر، وكانت ثلاث سرايا أيضا: الأولى بقيادة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بني سعد، والثانية بقيادة بشير بن سعد إلى بني مرّة، والثالثة بقيادة غالب بن عبد الله الليثي إلى الحرقات.

الفصل الثالث: بقية السرايا والبعوث النّبويّة قبل غزوة مؤتة، وهي ثلاث سرايا انطلقت إلى أماكن مختلفة لتحقيق أهدافٍ معيّنةٍ، وكانت السرية الأولى بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل؛ لدعوة ملكها وأهلها إلى الإسلام، والثانية

ص: 25

بقيادة بشير بن سعد رضي الله عنه إلى الجناب، وذلك لضرب تجمعات الأعراب المعادية للمسلمين في عقر دارهم، والثالثة بقيادة كعب بن عمير رضي الله عنه إلى ذات أطلاح، وكانت بعثة دعوية غدر بها الأعراب.

الباب الثاني: غزوة مؤتة، ويحتوي على سبعة فصول: تتحدث عن المعركة، وموقعها، وأسباب الغزوة، وتاريخها، وعن حشد القوات الإسلامية، وحشد قوات الحلفاء من الروم والعرب المنتصرة، ثم سير الأحداث وأخيراً نتائج المعركة، والأحكام المستنبطة والدروس المستفادة.

هذا، ولقد حاول الباحث في هذا الباب أن يكون الانسجام والتناسق منتظماً بين فصوله ومباحثه، وهكذا فإنّه لو رفعت عناوين فصوله ومباحثه لما اختل نظمه، وما انفرط عقده، ولألفيته متّسقاً في تناظم رائع وتناسق بديع.

الباب الثالث: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية بعد غزوة مؤتة، وتحتوي على ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل.

الفصل الثاني: سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الأكيدر.

الفصل الثالث: سرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبنى.

ص: 26

وهذه السرايا كانت لإخضاع العرب المنتصرة لسلطان المسلمين بتحطيم حلفهم - المعادي للمسلمين - مع الروم وذلك لإتاحة المجال للدعوة والدعاة أن يتحركوا بسلاسة وأمان في المنطقة.

الخاتمة: وتحتوى على أهمّ النتائج والدراسات التي توصل إليها الباحث.

الفهارس:

1-

فهرس الآيات القرآنية.

2-

فهرس أطراف الأحاديث النّبويّة الشّريفة.

3-

فهرس أطراف الروايات.

4-

فهرس الأعلام المترجم لهم.

5-

فهرس الأماكن والبلدان.

6-

فهرس القبائل.

7-

فهرس المصادر والمراجع.

8-

فهرس الموضوعات.

هذا استعراض موجز لمفردات هذا البحث الذي منّ الله سبحانه وتعالى فيه من دراسة غزوة مؤتة والسرايا والبعوث الشّمالية والتي بذل فيها الباحث غاية جهده، وربّما يكون قد فاته بعض السرايا والبعوث، ولكن لا يلام المرء مع اجتهاده.

ص: 27

منهج البحث:

أوّلا: كانت البداية هي محاولة استقصاء الروايات من مختلف المصادر التي كتبت عن السرايا والبعوث، سواء المتخصّص منها ككتب المغازي والسير، والشمائل، والدلائل، وكتب التاريخ المختلفة، وركّزت كثيراً على كتب السُّنّة المختلفة من صحاح ومسانيد ومجاميع وزوائد، كذلك نظرت في كتب الطبقات وتراجم الرجال، بخاصّة كتب معرفة الصحابة، كما حاولت - قدر المستطاع - الإفادة من بعض المخطوطات.

ثانياً: نقد هذه المرويات وفق منهج المحدّثين، حيث قام الباحث بدراسة الأسانيد وفق هذا المنهج، حسب ما أدّاه اجتهاده، ووسعه علمه المتواضع، وكان عمله في ذلك كما يلي:

1-

بالنسبة للأحاديث والروايات المخرَّجة في الصحيحين أو في أحدهما، فلا تحتاج إلى نقد، لذلك لم أنظر في تراجم رجالهما، وإنّما أثبتّها مشيراً إلى رقم الجزء والصحيفة فقط.

2-

نظر الباحث بعد ذلك في الأحاديث والروايات المخرَّجة في كتب السنن والمسانيد، مع قراءة متأنية في ترجمة رواتها، متتبعاً ألفاظ الأحاديث المختلفة، مع ذكر الشواهد والمتابعات التي ربّما ترد في كتب أخرى غير كتب الحديث.

ص: 28

3-

نقل الباحث حكم النُّقَّاد على الرواية والحديث، سواء القدامى منهم أمثال: ابن حجر، وابن كثير، والذهبي، والهيثمي، وغيرهم، أو المعاصرين كالألباني، وأحمد شاكر، والبنا، ثُمّ إن كان له تعقيب على أقوالهم وأحكامهم ذكره، وإلاّ اكتفى بما ذكروه.

4-

إذا لم يحكم على الرواية أو الحديث، حكم الباحث عليه بعد دراسة متأنية لسنده، وذلك من خلال كتب الرجال والجرح والتعديل، فإذا وجد ترجمة الراوي في كتاب التقريب لابن حجر، اكتفى به، لأنّ عبارته محرَّرة ومختصرة كثيرة الإتقان، وربّما استعان بكتاب التهذيب لمعرفة شيوخ الراوي وتلاميذه لتحديد المعاصرة والالتقاء من عدمها.

وإذا كان الراوي من غير رجال التقريب نظر في بقية كتب الرجال والجرح والتعديل لمعرفة حاله والحكم عليه.

ومما ينبغي ذكره أن الباحث تجنّب في ترجمة الرواة ذكر بعض الكُنى والألقاب لبعض الرواة لأنّهم كانوا يغضبون منها ويتحرّجون من ذكرها في حياتهم.

5-

نظر بعد ذلك في روايات الأخبار الأخرى التي ترد في كتب المغازي المشهورة، كسيرة ابن إسحاق، ومغازي الواقدي، وطبقات ابن سعد، وذلك للاستفادة منها في إكمال الصورة التاريخية للحادثة، وما كان منها مسنداً درس سنده ثُمّ حكم عليه.

ص: 29

أما ما يرد عند الواقدي، أو كان الحديث غير مسند، فإن الباحث ينقله مع ذكر رقم الجزء والصحيفة، والإشارة إلى راويته في المتن.

ثالثاً: أما في التخريج، فقد وضع الباحث الخلاصة التي توصل إليها بعد دراسة الرواية، وتوابعها، وشواهدها، وحكم النُّقَّاد عليها، أو حكمه عليها. وحتى لا تضيع الروايات في أثناء التحليل، فقد اقترح عليَّ فضيلة المشرف الدكتور عوض بن أحمد سلطان الشهري - حفظه الله - أن أضع لها أرقاماً تسلسيةً تبرزها، فإذا وردت الرواية لأوّل مرّة قمت بتخريجها والحكم عليها، وإذا تكررت أشرت في الحاشية أنّه قد سبق تخريجها ذاكراً اسم الراوي، والمصدر، والرقم التسلسلي الأوّل الذي خُرّج عنده.

رابعاً: بالنسبة للأمور الخلافية، من تواريخ السرايا والبعوث، وأسبابها، والخلاف في مسمياتها، وأماكنها، فقد درسها وَفْقَ المنهج التاريخي، وذلك بإجراء المقارنة، ومحاولة الجمع أو الترجيح، مستدلاً بأقوال النُّقَّاد الذين سبقوه في ذلك من أمثال: ابن حجر، والشامي، والسهيلي، والحلبي، وابن القيّم، والزرقاني، متبعاً ذلك بما يراه من ترجيح قول أو رأي.

ثم جعل ما توصل إليه من نتائج في مطالب، أو مباحث، أفرده بها، وتحدّث فيها جامعاً بين الأسلوب التاريخي، وأسلوب المباحث الفقهية، ذاكراً الآراء، وجامعاً بينها إن أمكن، ومقارناً فيما بينها، ومرجّحاً إذا تعذّر الجمع.

ص: 30

خامساً: الصياغة النهائية للبحث كانت صياغة تاريخية، معتمدة على الروايات المدروسة، ومطعمة بالتحليل المناسب المقتبس من بعض المراجع الحديثة، أو المصاغ بأسلوب الباحث الخاص، وقد حاول الباحث استيعاب معظم المرويات التي تمَّ دراستها باعتبارها الهيكل والأساس الذي بنيت عليه هذه الرسالة، معتمداً الأصحّ منها تاركاً الروايات المتشابهة، والشواهد، والمتابعات، التي أشار إليها في الحواشي في أثناء التخريج.

ومكمِّلاً ببعض الروايات الأخرى التي قد تكون ضعيفة من الناحية الحديثية، ولكننا نحتاج إليها لتكملة إطار الحادثة التاريخية.

وربما كانت بعض السرايا تعتمد اعتماداً كليّاً على هذه الروايات الضعيفة، لعدم وجود غيرها يمكن الاعتماد عليه، مع ملاحظة أنّه لا يمكن الاعتماد على تلك الروايات إذا كان هنالك أمر يتعلَّق بالعقيدة والشريعة.

وربما قطّع الباحث متن الرواية الواحدة في أماكن مختلفة حسب سير الأحداث، مؤلّفاً بينه وبين متن رواية أخرى، وذلك في محاولة لإعطاء أفضل صورة تاريخية للحدث.

لقد حاول الباحث في هذه الدراسة أن يجمع بين الروايات المتعددة لحوادث السرايا والبعوث المختلفة والمتناثرة بين طيات المصادر المختلفة من كتب حديث، ومغازي، ودلائل، ورجال، وغيرها، ألّف بينها - قدر المستطاع - وحسبما أدّاه اجتهاده المتواضع

ص: 31

لمعرفة أحداث السرايا بالترتيب والتفصيل، مستعيناً بالله عز وجل، ثم بكتابات مَن سبقه، عازياً كلّ قول لصاحبه. والله تعالى أعلم.

سادساً: وأخيراً، نقل الباحث في بعض السرايا والبعوث بعض الأحكام الفقهية مستعيناً بأقوال الفقهاء في ذلك، وبأقوال النُّقَّاد الذين ساروا على هذا النهج كابن حجر، وابن القيّم، والسهيلي، والحلبي، والزرقاني، والعامري، وغيرهم.

كما أَفْرَدَ الباحث مبحثاً خاصّاً بالدروس والعبر والعظات المستفادة من أحداث السرايا والبعوث، اجتهد بذكرها بعد دراسة متأنية، وسبرٍ للأحداث، فكان ذلك بمثابة دراسة تحليلية للأحداث، وربّما يقع بعض التحليل - أيضاً - بين ثنايا المباحث والمطالب، وبخاصّة (سير الأحداث) ، وربما يكون ذلك استطراداً، ولكن ما دفعه إلى ذلك هو واقعنا الأليم الذي نعيشه اليوم ونكابده، هذا الواقع المُرّ فرض عليه هذا الاستطراد، وأطلق لقلمه العنان، دون شعور منه، في محاولة للربط بين بعض أحداث هذه الغزوات بالواقع المعاصر، وهو ما قصده في مطالب الدروس والعبر المستفادة من الأحداث، لأنّ التاريخ ما هو إلاّ عبرة وعِظَةٌ لمن أراد أن يعتبر، ونبراس وهدى لمن أراد أن يستفيد من التجارب الماضية، وسنن الله الكونية، وسنن الله تبارك وتعالى في خلقه. والله تعالى أعلم.

وقد ضبط الباحث شرح الألفاظ التي تحتاج إلى ضبطٍ، من كتب المعاجم اللغوية، مثل: اللسان، والقاموس، والنهاية، وغيرها.

ص: 32

كما عمد على تعريف شامل للمواضع والأماكن والبلدان التي وردت في البحث من خلال معاجم البلدان، مثل: معجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان لياقوت، وغيرهما، ثُمَّ أتبع ذلك بتعريف حديث لهذه الأماكن من الكتب الجغرافية التاريخية الحديثة، وبعض الدوريات، مثل: معجم السيرة، رحلات في بلاد العرب، للبلادي، مدائن صالح لمحمّد عبد الحميد مرداد، ومجلّة الدارة، ومجلّة المقتطف، وغيرها.

هذا، وقد جعل الباحث لذلك مطلباً خاصّاً يسبق كلّ سرية وبعث.

ص: 33

الصعوبات التي واجهتني في أثناء هذا البحث:

لقد واجه الباحث - بحمد الله - صعوبات كثيرة، في عملية النقد وسبر الروايات، وتمثّلت هذه الصعوبة بشكلٍ كبيرٍ في أسانيد بعض الروايات التي درسها وإليك بعض النماذج:

1-

رواية ذكرها ابن سعد، وساق سندها هكذا: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، أخبرنا أبو شهاب، عن هشام، عن الحس

وبحث الباحث عن أبي شهاب ووجده في التهذيب، ولكن لم يذكر ابن حجر ترجمته وافية لمعرفة مَن روى عنه، فلم يستطع معرفةَ مَن هو هشام؟ ومَن هو الحسن؟ وهكذا أخذ يبحث في الطبقات لعلّ ابن سعد يكرّر السند بوضوحٍ أكثر، ولكن دون جدوى، وأخيراً فتح الله عليه بعد بحثٍ جادٍ ومتقنٍ لمدّة يومين، فعرف مَن هو هشام، ومَن هو الحسن، من كتاب التهذيب. فلله الحمد.

2-

رواية ذكرها الشامي في السُّبُل عن أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم، ومحمّد بن القراب في تاريخه، ولأوّل وهلة يظن القارئ أنّ الرواية جاءت عن طريق رجلين هما أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم، ومحمّد بن القرّاب، وهكذا بحث الباحث في كتب التراجم والرجال عن ترجمة إسحاق بن إبراهيم، فوجد أن هناك أكثر من واحد بهذا الاسم، ولكن مَن هو المعني بهذه الترجمة؟ بينما لم يجد ترجمة لمحمّد بن القرّاب، وظلّ يبحث فترة

ص: 34

طويلة حتى اهتدى بفضلٍ من الله إلى الأمر، وهو أنّ هاتين الترجمتين ما هما إلاّ لشخصٍ واحدٍ، وهو أبو يعقوب إسحاق ابن إبراهيم ابن محمّد القرّاب، وقد تصحّفت (ابن) إلى (و) عند الشامي في السُّبُل. فلله الحمد والمنّة.

3-

ترجمة محمّد بن عمرو بن خالد (أبو علاثة) ، حيث لم يترجم له أحد، حيث بحث الباحث في جميع كتب التراجم، فلم يجد له ترجمة، غير أنّ الذهبي ذكره في ترجمة أبيه في السير، واصفاً إيّاه بالإمام.

4-

ترجمة (أبو سعيد بن أبي عمرو) هكذا أورده البيهقي، مِمَّا أرهق الباحث كثيراً في البحث عنه، حتى وجد ترجمته أخيراً في السير والعبر، للذهبي. واسمه: محمّد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي.

5-

ذكر محمّد بن إسحاق في روايته عن سرية ذات السلاسل أنّه رواها عن محمّد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، وبعد البحث والتمحيص لم يجد الباحث من ترجم له، وبعد بحث مُضْنٍ وجده في كتاب تعجيل المنفعة لابن حجر مترجماً له بقوله: محمّد بن عبد الرحمن بن الحصين، وذكر أنّ ابن إسحاق يروي عنه.

ص: 35

شكرٌ وتقديرٌ

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هاديَ له.

وأشهد ألاّ إله إلاّ الله - وحده لا شريك له ـ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد

فيقول الله تبارك وتعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُم لأَزِيدَنَّكُم} . [سورة إبراهيم، الآية: 7] فمن هذا المنطلق فإنه لا يسعني - بعد أن منّ الله عليَّ وتفضّل تبارك وتعالى من إتمام هذا العمل الذي أرجو أن يكون خالصاً لوجهه الكريم سبحانه وتعالى، وأن يكون في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون - إلاّ أن أشكر الباري عز وجل شكراً جزيلاً وافياً، وأحمده حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه على نعمه وآلائه التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وعلى إعانته تبارك وتعالى وتوفيقه وتسديده لي في هذا العمل الذي أرجو أن يكون مقبولاً عنده عز وجل.

كما أتوجه بالشكر الجزيل الوافر إلى والديَّ العظيمين اللذين مهما قلت فلن أوفيهما حقّهما من الشكر والامتنان، ولا أملك إلاّ أن أدعو لهما كما أمر الله عز وجل:{رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِراً} . [سورة الإسراء، الآية: 24] .

وإنّ من فضل الله تبارك وتعالى عليَّ في هذا البحث أن تَلْمَذْتُ فيه على يد شيخين جليلين فاضلين، جليلين بعلمهما، فاضلين بأخلاقهما، المتميزة، لقد كان للأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري - حفظه الله تعالى

ص: 36

- الفضل - بعد الله تبارك وتعالى في توجيهي إلى هذا العمل، ومرافقتي فيه فترة ليست بالقصيرة، كان فيها نِعْم المُوَجِّه ونِعْمَ المُرشِد.

ولقد كان لدماثة أخلاقه التي اشتهر بها الأثر البالغ في نفسي، كما كان لتشجيعه المتواصل الدافع لاستمراري في العمل.

ثُمَّ شَرفت بمرافقة الدكتور عوض بن أحمد سلطان الشهري - حفظه الله تبارك وتعالى الذي كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في ظهور هذه الرسالة بهذا التنظيم والترتيب المتقن، فقد استفدت من توجيهاته السديدة، وملاحظاته القيّمة التي أتحفني بها رغم مشاغله الكثيرة.

وإنني لا أجد من الكلام ما يفي شكرهما وتقدير جهودهما وعطائهما العلمي، غير أنني أدعو الله لهما بدوام التوفيق والصحّة ودوام العافية، وأن يجزيهما الله خير الجزاء، وأن يبارك في عملهما وعمرهما وينفع بهما، وأن يكون ذلك في ميزان حسناتهما يوم القيامة.

كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلاميّة، وعلى رأسهم مدير الجامعة فضيلة الدكتور صالح بن عبد الله العبود - حفظه الله تعالى - بما يسرُّوه وأتاحُوه من سُبُل لطلبة العلم الوافدين عليها من أقطار الأرض للنهل من ينابيع العلم الصافية المستقاة من الكتاب والسنة.

وأسأل الله تبارك وتعالى أن يزيد هذا الصرح العلمي العظيم سؤدداً وشموخاً ورفعة في ظلّ حكومتنا الرشيدة التي كانت منذ إنشائها على يد المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيَّب الله ثراه، وجزاه عن أُمَّة الإسلام خير الجزاء - وحتى هذا العهد الزاهر، عهد خادم

ص: 37

الحرمين الشّريفين الملك فهد بن عبد العزيز - حفظه الله تعالى وأسبغ عليه نعمة الصحّة والعافية - وهي لا تألو جهداً في خدمة ودعم الإسلام والمسلمين في أصقاع الأرض، وفي كل المجالات، وما هذه الجامعة العظيمة التي نفع الله بها أبناء العالم الإسلامي والأقليات الإسلامية حتى وهم في أماكنهم - وذلك من خلال الدورات التعليمية الصيفية التي تقيمها الجامعة سنوياً في بلدانهم - إلاّ ثمرة من ثمار هذا الدعم المتواصل والمتعدِّد، فجزاهم الله كل خيرٍ، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وزادهم الله عزّاً وتوفيقاً وسدَّد خطاهم لِمَا يحبّه ويرضاه.

وفي الختام لا يفوتني أن أشكر كُلَّ مَن ساهم معي في إخراج هذا العمل إلى حيّز الوجود، وأعانني عليه من الإخوة والزملاء وغيرهم، وأخصّ منهم الشيخ طلال بن سعود الدعجاني، الذي أعارني بعض المصادر المخطوطة، وأفادني ببعض المعلومات عنها.

شكر الله للجميع عونهم، وجزاهم كلَّ خير، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

ص: 38

‌تمهيد

الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو له العزّة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى وأحسن النعوت.

الحمد لله المنّان، الملك الديّان، عظيم السلطان، واسع الإحسان، المتنَزِّه عن السِّنة والنّوم والنِّسيان، والغفلة والنقصان، سبحانه وتعالى، إليه الملجأ، وعليه التّكلان، أعدَّ برحمته للمؤمنين نعيم الجنان، ووعد بسطوته الكافرين عذاب النيران.

أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه يليق بجلاله وجبروته وعظيم سلطانه.

وأُصلِّي وأُسلِّم على مَن أُنزل عليه الفرقان، وأُوتي سبعاً من المثاني العظيمة والقرآن، وَوُهِبَ جوامع الكلم والبيان، وأُيِّدَ بالرُّعْبِ مسيرة شهر نصراً على الأعداء، صلاةً تليق بعظيم شأنه وحُسن مقامه.

وعلى آل بيته البررة الكرام، وصحابته الأخيار العظام، الذين قادوا السرايا والبعوث، وتصدّروا الجيوش، فقوَّضوا عروش الكفرة، وزلزلوا أرض المشركين الفجرة، فرفعوا راية الإسلام عالية، وغلبوا جنود الشيطان، وكانوا من حزب الرحمن، ألا إنّ حزب الرحمن هُمُ الغالبون.

قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} . [سورة النساء، الآية: 76] .

ص: 7

وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . [سورة الشورى، الآية: 13] .

قال درُّوزة: "وفيها تقرير حاسم لوحدة الأسس فيما أوحي الله إلى الأنبياء، وبخاصّة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وما أوحي إلى محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وبالتالي تقريرٌ لوحدة الأسس بين القرآن والكتب السماوية"1.

والشام هي ديار الأنبياء السابقين، كما وصفها المقدسي بقوله:"إقليم الشام جليل الشأن، ديار النبيّين، ومركز الصالحين، ومطلب الفضلاء، به القبلة الأولى، وموضع الحشر، والمسرى، والأرض المقدّسة، والرباطات الفاضلة، والثغور الجليلة، والجبال الشريفة، ومُهَاجَر إبراهيم، وقبر وديار أيوب وبئره، ومحراب داود وبابه، وعجائب سليمان ومدنه، وتربة إسحاق وأمّه، ومولد المسيح ومهده، وقرية طالوت ونهره، ومقتل جالوت وحصنه، وجُب أرميا وحبسه، ومسجد أوديّا وبيته، وقبّة محمّد وبابه، وصخرة موسى، وربوة عيسى، ومحراب زكريا، ومعرك يحيى، ومشاهد الأنبياء، وقرى أيوب، ومنازل يعقوب، والمسجد الأقصى، وقبر موسى، ومضجع إبراهيم ومقبرته، وموضع لقمان، ووادي كنعان، ومدائن لوط، وموضع الجنان"2.

1 محمّد عزَّة درُّوزة: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 1/334.

2 المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم 151.

ص: 8

وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً، عندما كان الإسلام في بدايته الأولى بمكّة تطالعنا رحلة الإسراء إلى بيت المقدس في أرض الشام، التي ذكرها القرآن، منوّهاً عنها:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الإسراء، الآية: 1] .

وترجع البدايات الأولى لعلاقة الإسلام بالنصرانية، وزعيمتها الدّولة البيزنطية، إلى الإرهاصات المتبقية في العهدين القديم والجديد، والحديث من رهبان النصارى، وأحبار اليهود، وكُهَّان الوثنية، والأحناف، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمنه1.

"وهكذا فإنّ القرآن الكريم منذ الوقت المكبر من العهد المكّي يؤكّد، - وظلّ على ذلك في مختلف أدوار التّنْزِيل، - على وحدة المصدر الذي صدر عنه القرآن والكتب السماوية، ووحدة الأهداف والمبادئ التي تضمنها القرآن، وتلك الكتب، وتأييد القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء السابقين والكتب السابقة، والتنويه بهم، واستشهد - وظلّ يستشهد بأهل الكتاب - على صِحَّة رسالته النبوية والتّنْزِيل القرآني"2.

1 عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 271، باختصار.

2 درّوزة، سيرة 1/335-336.

ص: 9

والمسيح في مقام عالٍ، فولادته لم تكن عادية، كولادة بقيّة الناس، والقرآن يؤيّد أنّ عيسى كلمة الله، وروحٌ منه ألقاها إلى مريم، وأنه من البشر، وهو يذمّ ويُكَفِّر القائلين بألوهية المسيح.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وقف منذ البدء موقف المسالِم المتحبِّب من الكتابيين المحتَرِم لأنبيائهم وكتبهم، ولم يقع بينه وبينهم أي احتكاك وعداء1.

وبعد قليل احتضن النجاشيّ المهاجرين بسبب اضطهاد مكّة لهم، أولئك الذين قال لهم رسولهم صلى الله عليه وسلم وهو يبحث لهم عن موطن يأوون إليه ريثما تنكسر حِدَّة العدوان الوثني:"لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكاً لا يُظْلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرض صدق"2.

وفي المقابل نجد المسلمين، وهُم قلّة مضطهدة في مكّة، يهزّهم نبأ الهزيمة الساحقة التي مُنِيَ بها الروم المسيحيون على أيدي الفرس الوثنيين، ويصيبهم بحزنٍ عميقٍ إزاء الفرح الغامر الذي غمر قلوب مشركي قريش، وتنْزل آيات القرآن الكريم تتحدّث عن الواقعة الحاسمة، وتتنبأ بالانتصار الحاسم الذي سيحققه المعسكر النصراني ضد أعدائه المجوس، حيث يفرح

1 درّوزة: سيرة 1/326. بتصرف.

2 خليل: دراسة 281، وانظر في هذه الرواية: سيرة ابن إسحاق: 194، وفتح الباري 7/188، وقد حسّنها الدكتور أكرم العمري في صحيح السيرة النبوية الصحيحة 1/170.

ص: 10

فسبحانه وتعالى جلّ شأنه، جعل العِزَّة لأهل طاعته ورضوانه، إذ قال عز وجل:{وَلله العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنِينَ} . [سورة المنافقون، الآية: 8] .

وقال سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم تَرَاهُم رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً} . [سورة الفتح، الآية: 29] .

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمّد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمّد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه يقاتلون عن دينه"1.

وكما جعل تعالى العِزَّة لأهل طاعته ورضوانه، ضرب الذِّلَّة والصَّغَار على مَن خالف أمره، عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثتُ بالسَّيف بَيْن يدي السّاعة حتّى يُعْبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحت ظلّ رُمحي، وجُعِلَ الذِّلَّة والصَّغَار على مَن خالف أمري"2.

1 أخرجه الإمام أحمد (المسند: مسند عبد الله بن مسعود - م - 3600) ، وصحّح إسناده أحمد شاكر، طبعة دار المعارف بمصر.

2 أخرجه أحمد (المسند 2/50) ، وجوّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء 39، وحسّنه الحافظ في الفتح.

ص: 11

وهكذا لما أخرجه المشركون المعاندون والمخالفون لأمره من مكَّة، قال أبو بكر رضي الله عنه:"أخرجوا نبيّهم، ليهْلَكُنَّ". فنَزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَِلُون بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِم لَقَدِيرٌ} . [سورة الحجّ، الآية: 39] .

فقال أبو بكر رضي الله عنه: "لقد علمت أنه سيكون قتال".

قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما ـ: "وهي أوّل آية أُنزلت في القتال"1.

وكان ذلك من باب المعاملة بالمثل، كما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عنه، قال:"إنّ الله أمرني أن أحَرِّق قريشاً، فقلت: ربّ إذن يثلغوا2 رأسي فيدعوه خبزاً، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك مَن عصاك"3.

وهكذا شرع الله الجهاد في الوقت الأليق به، لأنهم عندما كانوا بمكّة كان المشركون أكثر عدداً، فلو أُمر المسلمون، وهم قليل، بقتال الباغين لشقّ عليهم، فلمّا بغى المشركون، وأخرجوه عليه السلام من بين أظهرهم، وهمّوا بقتله، واستقرّ عليه السلام بالمدينة، واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة دار إسلام، ومعقلاً يلجأون إليه،

1 أخرجه الترمذي وحسّنه. (انظر: المباركفوري: تحفة الأحوذي 9/14-15) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/76، 3/8-9) ، وصحّحه. ووافقه البيهقي.

2 ثلغ رأسه: شدخه.

3 أخرجه مسلم (الصحيح 10/314) .

ص: 12

شرع الله جهاد الأعداء، فبعث عليه السلام البعوث والسرايا1 التي انطلقت في كلّ اتجاه تدك حصون الباغين، وتشيع الرعب في قلوب المشركين، وكان هدفها جميعاً هو إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان واليقين، ومن عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد الواحد القهار، المتفرّد بصفات الكمال، حتى ضرب الإسلام بجرانه2 في أرض الجزيرة العربية، وأصبحت دار أمن وأمان ونور وسلام بعد القضاء على قوى الشرك والكفر فيها، التي كانت تمنع الناس من حرية العقيدة، وتقف حجر عثرة في سبيل نشر العقيدة الصحيحة، عقيدة التوحيد الصافية.

فلمّا تمَّ للمسلمين ذلك الأمر، تطلعوا إلى أقرب المناطق للجزيرة، فإذا هي أرض الشام، أرض المحشر، المنفذ الشمالي الواسع للجزيرة العربية، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بالسرايا والبعوث إلى هذه المنطقة تمهيداً لنشر الإسلام، رسالة الله الخالدة إلى كافّة البشر.

وأرأرض الشام ليست أرضاً غريبةً على الإسلام، بل هي مهد الرسالات السماوية، وأرض المحشر، باعتبار أنّ الأنبياء جميعاً دعواهم واحدة هي الإسلام، قال الله تبارك وتعالى في سبيل تقرير هذه الحقيقة الواضحة: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْكَ وَمَا

1 القسطلاني: المواهب اللدنية 1/387.

2 الجران: هو مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. (القاموس: جرن) .

والمقصود أنّ الإسلام قد امتدَّ في أرض الجزيرة كما يمدّ البعير بجرانه.

ص: 13

المؤمنون: {ألم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعَدِ غَلَبِهِم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} . [سورة الرّوم، الآية: 1-4] .

وقد تحقّقت النبوءة القرآنية التي لا تخطئ، وفي بضع سنين أَلْحَقَت القوات البيزنطية بقيادة هرقل هزيمة ساحقة بالقوات الفارسية، استردت في أثرها بلاد الشام، وفلسطين، وأجزاء واسعة من العراق، وذهب هرقل إلى بيت المقدس لكي يسجد شكراً لله، وغمرت الفرحة القلّة المضطهدة في ظلمات الوثنية.

لكن هذا كُلُّه لم يمنع الكثرة من النصارى العرب أن تلعب دورها في العصر المدني بمواجهة الإسلام، وتتّخذ المواقف العدائية ضدّه على شتّى المستويات، بدفع من الدولة والكنيسة البيزنطية في معظم الأحيان، وبمعزلٍ عنهما في بعض الأحيان1.

وبمرور الوقت، واتساع نفوذ الإسلام شمالاً، ووصول أنباء انتصاراته على الوثنية واليهودية إلى قبائل الشمال، بدأ المعسكر البيزنطي يفتح عينيه على الخطر المحدق بوجوده من جهة الجنوب، وأغلب الظّن أن الإمبراطور البيزنطي وكبار قادته تصوّروا الأمر في بدايته مجرّد اندفاع قبلي كبير صوب الشمال، أو محاولة إمارة عربية ناشئة توسيع رقعتها الجغرافية كما كانت تفعل إمارة كِندة، أو تدمر، على سبيل المثال، ورأوا أنه بإمكان

1 خليل: دراسة في السيرة 281-282.

ص: 14

حلفائهم العرب أنفسهم أن يكفوا الدولة البيزنطية عناء وقف هذا الامتداد، وصدّ هذه الإمارة الطموحة عن الامتداد إلى الشمال.

أكثر من هذا أنّهم اعتقدوا أنه بإمكان قبيلة من أتباعهم أن تتحرّك صوب الجنوب، لتضرب القوّة الجديدة في قاعدتها نفسها، وتقصم ظهرها، وأغلب الظنّ أيضاً أن هذا الاعتقاد هو الذي دفع القبائل القاطنة في دومة الجندل في أقصى الشمال، والتي يتزعهما أُكَيْدِر بن عبد الملك الكِنْدِِي، الذي يدين بالنصرانية، ويخضع لهرقل، إلى أن تتجمع وتتهيأ في زحفٍ سريعٍ لضرب المسلمين في المدينة في ربيع من السنة الخامسة للهجرة، إلاّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ زمام المبادرة، وتحرّك بسرعة صوب الشمال على رأس ألف من أتباعه، ومن أجل أن يباغت القوم في ديارهم أخذ يسير بأصحابه ليلاً ويكمن نهاراً، حتى اقترب من هدفه، فجعلت القبائل العربية القاطنة هناك تهرب من بين يديه، لا تلوي على شيء، وبعد أن بثّ سراياه في المنطقة، قفل الرسول صلى الله عليه وسلم عائداً دون أن يلقى من العدوّ كيداً.

وهكذا يمكن اعتبار غزوة دومة الجندل هذه أوّل حلقة في سلسلة الصراع الحربي بين عالَمي الإسلام والنصرانية، يؤكّد هذا ما ذكر الواقدي من أنّه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم وهو بصدد مهاجمة دومة الجندل: إنها طرف في أفواه الشام، فلو دنوت لها لكان ذلك مما يفزع قيصر.

ولم يمض سوى عام أو بعض عام حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال عبد الرحمن بن عوف في شعبان من السنة السادسة لقتال قبيلة كلب النصرانية في نفس المنطقة، وطلب منه أن يتزوّج ابنة ملكهم إن استجابوا له، تعزيزاً

ص: 15

للعلاقات بين الطرفين، وكسباً لودّ هذه القبيلة الموالية للعدوّ البيزنطي، فتقدّم عبد الرحمن إلى دومة الجندل، ومكث هناك ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي أميرهم النصراني، وأسلم معه ناسٌ كثير من قومه، بينما وافق الآخرون على الاستمرار في دفع الجزية مع البقاء على دينهم، ونفّذ عبد الرحمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوّج تماضر ابنة الأصبغ، وقدم بها إلى المدينة.

وقد كان من نتائج هذين الانتصارين أن أدركت القبائل الضاربة هناك أن حجم القوّة الإسلامية وقدرتها على التحرّك أكبر ممّا كانت تظن، وربّما بلغ ذلك القيادة البيزنطية نفسها، فكفّت عن تكرار المحاولة ردحاً طويلاً من الزمن أتاح للمسلمين تحقيق انتصارهم على الوثنية في صلح الحديبية، وتصفية المواقع اليهودية في الشمال، خيبر والقرى المحيطة بها، وقيام النبي صلى الله عليه وسلم بمكاتبة ملوك وأمراء العالم، بما فيهم الإمبراطور البيزنطي وأتباعه الغساسنة، وحكّام مصر والحبشة.

والحقّ أن المعسكر البيزنطي هو الذي حظي بالقسط الأعظم من مكاتبة الملوك والأمراء، ربّما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك أن الوشائج التي تربط الإسلام بهذه الجهة، باعتبارها تنتمي إلى دينٍ سماويٍّ، تنصّ مصادره الدينية على نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم ستقودهم إلى تفهّم دعوته التي انطلق بها سفراؤه إلى ملوك وحُكّام هذه المعسكر، فضلاً عن قربه الجغرافي من شبه الجزيرة، إلاّ أنّ ردود الفعل النصرانية لم تكن سواء، وتدرّجت بين الانتماء إلى الدعوة الجديدة، أو الموقف الوديّ منها، وبين الرفض الغاضب الوقح.

ص: 16

وفي أعقاب صلح الحديبية بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة من رجاله إلى العالم النصراني: دِحْيَة بن خليفة الكلبي إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس حاكم مصر، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي حاكم الحبشة، وشجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق.

لقد أوضحت تلك الكتب والرسائل التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك العالم "أنّ هذا الدين ليس دين عربٍ أو جزيرة عربية، وإنّما هو دين الإنسان حيثما كان هذا الإنسان، ونداء إلى السلطات الحاكمة أن تستجيب للدعوة أو تسمح - على الأقل - لدعاتها بممارسة نشاطها بحريّة، ولشعوبها في مقابلة هؤلاء الدعاة والاستماع إليهم لكي يختاروا عقيدتهم على بيّنةٍ، بعيداً عن الضغط والقسر والإكراه، وإنذاراً لهذه السلطات بأنّها إن لم تُلَبِّ وتستجب، فإنّ جيوش الدعوة الجديدة ستنساح عمّا قريب في مشارق الأرض ومغاربها لكي تسقط التيجان، وتثلُّ العروش، وتنْزل السلطات من مناصبها العليا، وتخرج الناس بذلك وحده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده 1.

ويبدو أنّ تلك السلطات بما لها من قوّة سياسية وعسكرية مؤثّرة في المنطقة، رأت في ذلك استفزازاً لها وتعدياً على كبريائها، وانتهاكاً لسيادتها

1 خليل: دراسة 283-286، 293.

ص: 17

على المنطقة، فاستغلت أقرب فرصة للتعبير عن رفضها القاطع للدعوة الجديدة، ومحاربتها بكل الوجوه، فكان ذلك التعدي، وتلك المواقف الغادرة من بعض أمراء وقبائل المنطقة ضدّ الدعاة - الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات أطلاح، ثُمَّ مقتل الحارث بن عمير الأزدي مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى.

فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخذ موقفاً حاسماً إزاء القبائل العربية النصرانية الموالية للبيزنطيين بعد المواقف التي اتّخذها بعض أمرائها من دعاة الإسلام ورسلهم إلى الشام1.

فكانت غزوة مؤتة في السنة الثامنة، ثُمَّ توالت السرايا والبعوث النبوية بعد ذلك، فكانت ذات السلاسل، ثُمَّ أُبنى، وغيرها من البعوث والسرايا التي كانت جميعها بما فيها غزوة مؤتة وما قبلها من السرايا تصب في بوتقةِ نشر الدعوة وإعلاء كلمة الله، وتمهيد للفتوحات الإسلامية في تلك المنقطة الغالية والعزيزة على قلوب المسلمين بحسب ما ذكرناه من الاعتبارات السابقة. والله تعالى أعلم.

1 خليل: دراسة 294، باختصار.

ص: 18