الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: أسباب الغزوة، وتاريخها
المبحث الأول: أسباب الغزوة
…
المبحث الأول: أسباب الغزوة:
ينفرد الواقدي بذكر السبب المباشر لهذه الغزوة، وهو أنَّ شرحبيل بن عمرو الغساني قَتَل صبراً الحارث بن عمير الأزدي1 الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى بكتابه، وكانت الرسل لا تُقْتَل، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل الجيش إلى مؤتة، والواقدي ضعيف لا يُعْتَمَد عليه وبخاصّةً إذا انفرد بالخبر2.
وقد تبعه في ذكر ذلك نقلاً عنه كُلٌّ من: ابن سعد3، وابن
سيد الناس4، والقسطلاني5، وابن القيم6، والذهبي7. وذكره ابن حجر
1 الحارث بن عمير الأزدي، ثُمَّ اللِهْبِي - بكسر اللام، وسكون الهاء. روى الواقدي عن عمرو بن الحكم قال: "بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى بكتابه، فلمَّا نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطاً، وضرب عنقه
…
الخ. وذكره ابن شاهين من طريق محمَّد بن يزيد، عن رجاله بغير هذه القصة". (ابن حجر: إصابة 1/286) .
2 د. أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة 2/467.
3 الطبقات 2/128.
4 عيون الأثر 2/198.
5 المواهب 1/549.
6 زاد المعاد 3/381.
7 تاريخ الإسلام، قسم المغازي 479.هذا وقد وقع تصحيف في رواية الذهبي في اسم أَحَد رواة الخبر، وهو شيخ ابن سعد، حيث ورد اسمه عنده محمَّد بن عثمان، مِمَّا يوهم بصحة الخبر، بينما هو في الحقيقة محمَّد بن عمر الواقدي شيخ ابن سعد المعروف، كما ورد في أصل الخبر في (الطبقات 4/343) .
بصيغة التمريض1".
وقد اعتمد معظم المؤرخين المعاصرين هذه الرواية جازمين أنَّها هي سبب وقعة مؤتة2، ومع أنَّ بعضاً منهم3 ذكر لها سبباً آخر، وهي النتيجة التي آلت إليها سرية ذات أطلاح، بينما يستند بعضهم على رواية أُخرى ضعيفة4، مفادها أنَّ صاحب مدينة بصرى5 رفض ما جاء في
1 فتح الباري 7/511.
2 انظر: (با شميل: غزوة مؤتة 252، خطَّاب: الرسول القائد صلى الله عليه وسلم 304-305، وخالد بن الوليد 70، ياسين سويد: معارك خالد بن الوليد 167-168، الجنرال أكرم: خالد بن الوليد 103، أبو زيد شلبي: سيف الله خالد 62، الدويدار: صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم 515-516، عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 294، الغزالي: فقه السيرة 365، البوطي: فقه السيرة 350، الشريف: مكة والمدينة 533، أبو زهرة: خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم 2/1139) .
3 انظر: (با شميل: غزوة مؤتة 253، ياسين سويد: معارك خالد 168، احمد عادل كمال: الطريق إلى دمشق 145) .
4 أخرجها الطبري (تاريخ 2/652) عن الواقدي.
5 مدينة بصرى: من أعمال دمشق، وهي قصبة كورة حوران، مشهورة عند العرب قديماً وحديثاً، وهي في منتصف المسافة بين عمَّان ودمشق، وبصرى اليوم آثار قرب مدينة درعة التي احتلت محلها، حتى ظنَّ بعض الناس أنَّها هي، وبصرى، ودرعة، داخل حدود الجمهورية السورية على أكيال من حدود المملكة الأردنية الهاشمية.
(انظر: ياقوت: معجم 1/441، البلادي: معجم 43 - 44) .
رسالة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم له، وهدَّد بالمسير إلى المسلمين بجيوشه وغزوهم في عقر دارهم "فتهديده بالمسير إلى المسلمين يقتضي ردّاً على مستوى التحدي، فكانت غزوة مؤتة1.
ويذكر أبو زهرة، عن شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه ذكر في رسالة القتال2: "أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ما بعث إلى حرب الروم في مؤتة إلَاّ بعد أن قَتَل الوالي الروماني مَن أسلم في الشام3.
والحق أنَّ البحث عن الأسباب المباشرة لغزو القبائل العربية في أطراف الشام لا يؤثر على تفسير الأحداث كثيراً، لأنَّ تشريع الجهاد يقتضي الاستمرار في إخضاع القبائل العربية وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية بصرف النظر عن الأسباب المباشرة4.
فهذه الغزوة كما يقول ابن كثير - رحمه الله تعالى - كانت إرهاصاً لِمَا بعدها من غزو الروم، وإرهاباً لأعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم 5.
1 انظر: (منير غضبان: فقه السيرة 544) .
2 لم أعثر على هذه الرسالة.
3 خاتم النبيين 2/1139.
4 أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 2/467.
5 الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 195.
فقد كانت غزوة مؤتة، مقدمة تبوك، وما كان بعد وفاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من فتح الشام1.
ويرى بعض المستشرقين ومَن سار في فلكهم من القوميين العرب، أنَّ مؤتة كانت لإشعار العرب المتنصرة في الشام بقوة المسلمين، قوة تحفزهم على الانضمام إليهم بدافع العروبة، مِمَّا يوحّد العرب جميعاً، وضمهم إلى الدولة العربية، وإدخالهم في نطاقها.
كما أنَّ زوال ما كان لبيزنطة من الهيبة في نفوس العرب، هيأ الفرصة لقيام الوحدة بينهم، ثُمَّ مهاجمة الممتلكات البيزنطية فيما بعد2.
وتلك استنتاجات بُنِيَت على أساس الفكر القومي الذي ساد الكتابات العربية وغيرها في الستِّينات، ذلك الفكر الذي أطلق شرارته الأولى أعداء الأُمة الإسلامية منذ نهاية القرن الأوَّل الهجري، وما زالوا يُغَذُّونه ويتلقَّفونه خَلَفَاً عن سَلَفٍ.
ولقد كان هذا الفكر العقيم ولا زال معول هدم لتفتيت وحدة الأُمة الإسلامية، تلك الوحدة العظيمة التي كان الجهاد لإعلاء كلمة الله عز وجل في الأرض، ونصرة الحق، والقضاء على الظُّلْم والظَّالمين، هو الوقود الذي يؤجِّجها ويحافظ عليها متماسكة قوية، وهو الأمر الذي
1 هيكل: حياة محمَّد صلى الله عليه وسلم 411.
2 انظر: (العريني: الدولة البيزنطية 119، الشريف: مكَّة والمدينة 533) ونقله العريني عن: Vasiliev، A، The Byzantin، Empire: P: 195)) .
فطن له أعداء الأُمة فسارعوا إلى ترويج مثل هذه الأفكار المنحرفة لإبعاد المسلمين عن مصادر عزِّهم ومجدهم.
وما كانت غزوة مؤتة إلَاّ استجابة لنداء الباري عز وجل لقتال أهل الكتاب وإخضاعهم لسلطان المسلمين، إمَّا بالدخول في الإسلام، أو أداء الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الله تبارك وتعالى:{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} . [سورة التوبة، الآية: "29] ". لأنه اتَّضح بما لا يدع مجالاً للشَّك، من خلال الأحداث أنَّهم كانوا حجر عثرة في وجه نشر الدَّعوة الإسلامية، وأنَّهم شكَّلوا بقواهم السياسية والعسكرية، تهديداً للمسلمين، وفتنةً لأتباعهم، جرَّدتهم من الحرية الكاملة في اعتناق ما يُحِبُّون، واتِّباع ما يريدون، قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُواْ نُورَ اللهِ بَأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كِرِهَ الْكَافِرُونَ} ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه وَلَوْ كِرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . [سورة التوبة، الآية:32،33] .
والعرب المتنصرة في الشام كانوا جزءاً لا يتجزأ من تلك القوى المعادية للإسلام، بدليل مشاركتهم الفعَّالة في جيش الحلفاء في مؤتة ضد المسلمين، وكأنَّهم يريدون إظهار استعدادهم وجاهزيَّتهم للقضاء على قوَّة المسلمين المتنامية في الجزيرة العربية، وهذا يفسِّره ذلك العدد الكبير من المتطوعين من القبائل العربية المتنصِّرة في جيش الروم في مؤتة، بل إنَّ
بعض الروايات أشارت إلى أنَّ الذين حاربوا المسلمين في مؤتة هم القبائل العربية النصرانية فقط، وربَّما شاركهم بعض الرُّوم1.
فكيف يُقال بعد ذلك أنَّ مؤتة حفَّزت على قيام الوحدة العربية بين المسلمين والقبائل العربية المتنصِّرة في الشام؟!.
1 ذكر ذلك الزهري انظر: (الهيثمي، مجمع 6/160)، وذكره موسى بن عقية انظر:(البيهقي: دلائل 4/364-365) .