الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الخلاف في سبب السرية:
بالنظر إلى أقوال أهل المغازي في سبب السرية، نجد هنالك قولين:
- القول الأوَّل: لابن إسحاق، الذي ذكر أنَّ سببها كان سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذه السرية مباشرةً، وبقيادة زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - نفسه إلى وادي القرى:
[1]
"فلقي به بني فزارة1 وأصيب بها ناسٌ من أصحابه، وانفلت زيد من بين القتلى. فلمَّا قدم زيد بن حارثة، نذر أنْ لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو فزارة"2.
1 بفتح الزاي المعجمة: قبيلة كبيرة مشهورة من غطفان، يُنسبون إلى فزارة بن ذبيان ابن بغيض، وكانت مساكنهم بنجد، ووادي القرى.
انظر: ابن قتيبة، المعارف 83، القلقشندي، قلائد الجمان 113.
2 ذكره ابن سيد الناس (عيون الأثر 2/142) عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، من الخامسة (تقريب 297)، كما ذكره ابن هشام (سيرة 4/617) عن ابن إسحاق الذي ساقه بلا سند عنده نحوه. وقد ورد موصولاً من طريق آخر. فقد أخرجه أبو نعيم (دلائل2/534) والمحاملي (الأمالي 183 رقم: 157) ، كلاهما من حديث إبراهيم بن يحيى بن محمّد بن عباد بن هانئ الشجري عن أبيه عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها، إلَاّ أنَّ فيه:"بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ امرأةً من بني فزارة يُقال لها أُم قِرفة قد جهَّزت ثلاثين راكباً من ولدها وولد، ولدها. قالت: اقدموا المدينة فاقتلوا محمَّداً، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللهم اثكلها بولدها، وبَعَث إليهم زيد بن حارثة، فالتقوا بالوادي.." ثُمَّ ذكره نحوه.
قلت: سنده فيه إبراهيم بن يحيى الشجري، لين الحديث (تقريب 95) ، وأبوه يحيى بن محمَّدضعيف كان يتلقَّن (تقريب596) ،وفيه عنعنةابن إسحاق فسند الحديث ضعيف.
وذكر الحلبي (سيرة2/181) ،والزرقاني (شرح 2/164) عن بعضهم أنَّه خبر منكر.
- القول الثاني: وقال به الواقدي، وابن سعد، حيث ذكرا أنَّ زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - خرج:
[2]
"في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة، من بني بدر1، فضربوه وضربوا أصحابه، وأخذوا ما كان معهم، ثُمَّ استبلَّ زيد2، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم"3.
1 هم بنو بدر بن عدي بن فزارة، وفيهم كانت رياسة بني فزارة في الجاهلية، وكانوا - أيضاً - يرأسون جميع غطفان وتدين لهم قيس، وإخوانهم ثعلبة بن عدي، ومنهم حذيفة بن بدر صاحب الفَرَس المعروفة بالغبراء التي هاجت - بسببها وسبب الفَرَس داحس - الحرب الشهيرة المعروفة باسميهما، ومن بني بدر بنو أُم قرفة التي ضُرِبَ بها المثل في العزَّة. (المعارف 83، قلائد الجمان 114) .
2 استبلَّ: أي برأ. (الصحاح 164) .
3 من رواية الواقدي (مغازي 2/564) ، وابن سعد (طبقات 2/90) ، وهذا لفظه عن شيوخه.
قلت: ولكن ابن سعد (طبقات 2/89) ذكر سرية لزيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - إلى وادي القرى، في رجب سنة ست، قبل الحديث عن هذه السرية، ولم يذكر أحداثها، وإنَّما ذكرها باختصار، ولم يُشِر إليها بعد ذلك، وكأنَّه يرى أنَّهما سريتان مختلفتان لزيد. والله تعالى أعلم.
هذا وقد جمع ابن سيد الناس بين روايتي ابن إسحاق، وابن سعد وقال:"كذا ثبت عن ابن سعد، لزيد سريتان بوادي القُرى، إحداهما في رجب، والثانية في رمضان"1.
وقال الزرقاني معلّقاً: "وقد التبس سبب السرية الذي هو السير للتجارة بالسرية نفسها على مَن زعم أنَّ قول اليعمري2، لشيخه الدمياطي3، كذا ثبت عند ابن سعد لزيد سريتان بوادي القرى، إحداهما في رجب، والأخرى في رمضان، مشكل لاقتضائه أنه أُرسل غازياً في المرَّتين لبني فزارة مع أنَّه إنَّما كان في الأولى تاجراً اجتاز بهم، كما دلَّ عليه كلام ابن سعد، ففيه اطلاق السرية على الطائفة الخارجة للتجارة، ولا يختص ذلك بالخارجة للقتال أو تحسس الأخبار، وهو وهم فكلام ابن سعد كما علمت إنما هو في سبب غزوة زيد لهم في رمضان، مع أنَّ الثلاثة مع كونهم حُفَّاظاً متقنين لم ينفردوا بأنَّهما سريتان لزيد، بل سبقهم إلى ذلك الواقدي، وابن عائذ، وابن إسحاق، وإن خالفهم في سببها، ولم يذكر تاريخاً"4.
1 ابن سيّد النَّاس، عيون 2/145.
2 هو: محمَّد بن محمَّد بن سيد الناس اليعمري، صاحب كتاب عيون الأثر في السيرة النبوية، توفي عام 734 هـ.
3 هو: عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، له كتاب في السيرة النبوية، وتوفي عام705هـ.
4 الزرقاني: شرح المواهب 2/164.
وقال في مكانٍ آخر محاولاً الجمع بين القولين: "ويجمع بتعدُّد السبب بأن يكون لما صحَّ1 ذهب للتجارة فنهبوه، فرجع وأخبره صلى الله عليه وسلم"2.
قلت: ذلك يقتضي أنَّ زيد بن حارثة رضي الله عنه خرج ثلاث مرَّات خلال شهرين، وهو أمر متعذّر لصعوبة المواصلات في ذلك الوقت، ومشقة السفر خاصّةً وأنه قد ذكر أنَّ زيد قد جرح جراحاً بليغة في المرَّة الأولى حتى اعتقد بنو فزارة بأنَّه قد مات، وشفاؤه من تلك الجراح يتطلب وقتاً ليس بالقصير، كما أنه من المستبعد أن يخرج للتجارة مارّاً بديار أولئك القوم الذين بدت عداوتهم للمسلمين وخاصّةً أنَّ زيداً رضي الله عنه قد غزاهم في المرّة الأولى، فخروجه لمجرَّد التجارة يُعَدُّ مجازفة عظيمة، ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يوافقه عليها أبداً.
لذلك أرى أنه لا يمكن الجمع بين القولين، بل لابدَّ من ترجيح أحدهما على الآخر، وهو في نظري قول ابن إسحاق، فهو بالإضافة إلى كونه أقوى إسناداً مدعوماً بالواقع، فالمسلمون في تلك الفترةلم يفرضوا سلطانهم على تلك المنطقة بَعْدُ، حتَّى تصبح طريقاً سالكةً لتجارتهم إلى الشام، بل كانوا في موقف المواجهة مع القبائل القاطنة في تلك المنطقة خاصّةً وأنَّها حليفة قوية ليهود
1 يعني: زيد بن حارثة رضي الله عنه.
2 شرح المواهب 2/164.
خيبر الذين كان المسلمون يعُدُّون العُدَّة السريعة لمواجهتهم بعد الحديبية، وتوقيع الهُدنة مع قريش، نظراً لنشاطات زعمائهم المعادية للمسلمين ودورهم الكبير في تأليب الأحزاب في الخندق والذي شاركت فيه بعض تلك القبائل1 القاطنة في تلك المنطقة بفعالية كبيرة.
1 ذكرت الروايات التاريخية أنَّ من القبائل التي شاركت بقوة في غزوة الأحزاب:
قبائل غطفان، وهي فزارة، وبنو مرة، وأشجع، وغيرها.
انظر: ابن الجوزي: الوفا بأخبار المصطفى 692.
وهذه القبائل جميعها تسكن تلك المنطقة وتشارك بحلف قديم مع اليهود في خيبر وما حولها.