الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السّابع: الأحكام المستنبطة، والدّروس المستفادة:
أوّلاً: الأحكام المستنبطة:
قال ابن حجر: "وفيه جواز إمارة المولى، وتولية الصغار على الكبار، والمفضول على الفاضل، لأنّه كان في الجيش - الذي كان عليهم أُسامة - أبو بكر وعمر"1.
وقال البنا: "وفي الحديث منقبة عظيمة لزيد بن حارثة وابنه أُسامة - رضي الله تعالى عنهما "2.
واستدلّ أبو داود، والبيهقي بحديث أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، قال:"أمرني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أغير صباحاً على أُبنى، وأُحَرّق". في باب الحرق في بلاد العدوّ.
وقال في عون المعبود: "والحديث يدلّ على جواز إفساد أموال الحرب بالتحريق والقطع لمصلحةٍ في ذلك"3.
وقال في سبل السلام: "وقد ذهب الجماهير إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدوّ، وكرهه الأوزاعي، وأبو ثور، واحتجّا بأنّ أبا
1 فتح الباري 7/87.
2 الفتح الرباني 21/222.
3 عَنْوَن أبو داود (سنن 3/87) للباب بقوله: "باب الحرق في بلاد العدوّ"، وعَنْوَن له البيهقي (سنن 9/83)، بقول:"باب قطع الشجر، وحرق المنازل".
بكر رضي الله عنه وصَّى جيوشه ألاّ يفعلوا ذلك". وأجيب بأنّه رأى المصلحة في بقائه لأنّه علم أنّها تصير للمسلمين فأراد بقاءها لهم1.
وقال في المغني: "وقال إسحاق: التحريق سُنّة، إذا كان أنكى في العدوّ لقول الله تعالى:{مَا قَطَعْتُم مِّنْ لِيْنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} . [سورة الحشر، الآية: 5] . وروى ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّق نخل بني النّضير، وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله تعالى:{مَا قَطَعْتُم مِّنْ لِيْنَةٍ} 2.
كان في إصرار الصّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه على إنفاذ بعث أُسامة فضيلة ظاهرة لسيّدنا أبي بكر رضي الله عنه، وكان ذلك من كمال معرفته، وإيمانه، ويقينه، وتدبيره، ورأيه3.
ثانياً: الدّروس المستفادة:
يتبيّن من إصرار النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعث هذه السّريّة حتّى وهو في أشدّ حالات المرض مدى ما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم من الأهمية الاستراتيجية تعبوياً وسوقياً لإرسالها إلى تلك المنطقة، ربّما محاولة منه صلى الله عليه وسلم لإحكام تثبيت سلطان المسلمين في تلك المنطقة الحيوية بالنسبة للدولة الإسلامية، والتي أصبحت تمثل تطلّعات المسلمين لنشر
1 الصنعاني: سبل السلام.
2 ابن قدامة: المغني 13/147.
3 ابن تيمية: منهاج السنة 1/412.
الدّعوة الإسلامية، بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في أرض الجزيرة العربية، فبدأوا يتطلّعون لنشر الإسلام خارجها من خلال البوابة الشّمالية للجزيرة التي كانت منفذاً حيوياً وهامّاً وكبيراً لانطلاق الدعوة، ولكن كانت هنالك قوى سياسية وعسكرية جاثمة بقوّةٍ تسد ذلك المنفذ الحيوي، وتقف بصلابة في وجه نشر الدّعوة الإسلامية، فكان من الطبعي أن يتحرّك النّبيّ صلى الله عليه وسلم باعتباره القائد للأُمّة الإسلامية، بل باعتباره المعنى بالأمر بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من أبعاد، وذلك بموجب التكليف الإلهي المُنَاط به:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} . [سورة سبأ، الآية: 28] .
فكان لا بُدّ له من التحرّك سريعاً وبقوّةٍ لإفساح الطريق أمام الدّعوة الإسلامية، لكي تنساح في الأرض بسلاسةٍ وانسيابٍ بعد القضاء على العقبات، وإزالة المعوقات التي كانت تقف في طريقها لتبلغ مداها الذي قدّره الله عز وجل لها.
في تولية أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - على جيشٍ مُطَعَّمٍ بكبار الصحابة وفضلائهم، وهو في تلك المرحلة المبكّرة من عمره، تَبْرُزُ لنا عِدّة أُمور مهمّة:
أوّلاً: الطريقة القويمة والرائعة التي كان المربِّي الأوّل صلى الله عليه وسلم يُربّي بها أصحابه، ومن بعدهم أُمَّته على طاعة أولي الأمر منهم مهما كانوا.
ثانياً: كان في ذلك تأكيد وتوضيح على أنّ الإسلام يمحو ما قبله من أنظمة وعادات وتقاليد جاهلية تختصّ بشروط الرئاسة والقيادة، فالسنّ،
والشرف، والجاه، والمال، التي كانت تعدّ شروطاً أساسية لا يمكن إغفال شيءٍ منها فيمن يُراد توليته، أصبح بدلاً عنها في الإسلام التقوى، وحُبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والكفاءة القيادية، والنّجابة، والحِنْكة القتالية.
ثالثاً: الأدب الجمّ العظيم الذي كان يتمتّع به أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحُسن انقيادهم له، وطاعتهم وتوقيرهم لأمره حتّى بعد وفاته. قال الحلبي:"كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حتّى بعد أن ولي الخلافة إذا رأى أُسامة رضي الله عنه قال: السلام عليك أيُّها الأمير. فيقول أُسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين. تقول لي هذا؟ فيقول: لا أزال أدعوك ما عشت الأمير. مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت عليّ أمير"1.
كلّ تلك الأمور السابقة كانت عواملَ إيجابيةً وبنّاءةً في تحقيق ذلك النجاح العظيم، وتلك النتائج الإيجابية الرائعة التي حقّقتها تلك السرية، يقول الحلبي:"وكان في خروج هذا الجيش نعمة عظيمة، فإنّه كان سبباً لعدم ارتداد كثير من طوائف العرب أرادوا ذلك"2.
قال أبو هريرة رضي الله عنه في سياق حديثه عن البَعْث وذلك تقرير لهذه الحقيقة: "فجعل لا يمرّ بقبيل3 يريدون الارتداد إلاّ قالوا: لولا أنّ لهؤلاء
1 السيرة الحلبية 3/231.
2 المصدر السّابق.
3 قبيل: تصغير قبيلة.
قوّة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتّى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام"1.
كما كان في خروجه إرعاباً لأعداء الله عز وجل، وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيطاً لمعنوياتهم، ومحقاً لأرجافهم، وغبطتهم وسرورهم بموت النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال ابن تيمية:"كان ذلك مِمَّا أيَّد الله به الدين، وشدّ به قلوب المؤمنين، وأذلّ به الكُفّار والمنافقين"2.
ومِمَّا يدلّ على ذلك ويؤيّده هو اندهاش الروم وتعجُّبهم من فعل المسلمين، وقوّة تماسُكِهم رغم فداحة المصاب. أخرج ابن سعد بسنده عن هشام بن عروة قال:"قدم بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هرقل، وإغارة أُسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: ما بالى هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا"3.
1 سبق تخريجها برقم: [29] .
2 منهاج السنة 1/412.
3 سبق تخريجها برقم: [14] .
الخاتمة
وفي خاتمة البحث هذه أهمّ النتائج، والدراسات التي تمّ التوصل إليها:
1-
إن نقد المرويات التاريخية عملية ممتعة وشيقة، ولكنها بقدر ما هي كذلك متعبة وشاقة، وتحتاج إلى وقت طويل وتأن في العمل، لذلك يجب عدم التسرع في الحكم على العملية سلباً أو إيجاباً، بل يجب إعطاء العمل الفرصة اللازمة والتامّة لكي تكتمل جوانبه وتتضح خطوطة العريضة، فمشروع نقد المرويات التاريخية مشروع جديد، والعمل الذي قامت به الجامعة الإسلاميّة في المدينة النبويّة في هذا المجال تشكر عليه، ولكنه لا زال في بداياته، ويحتاج إلى وقت طويل وجهد ودعم متواصل من الجهات المعنية لتبرز ثماره اليانعة.
وحتى يكتب لهذا العمل النجاح والاستمرارية، فإن الباحث يقترح تشكيل لجنة مكوّنة من قسم التاريخ، وقسم السنة، وقسم أصول الفقه - للإفادة من منهج الأصوليّين في النقد الباطني للنصوص، باعتبار ذلك جزء مكمّل ومهمّ بالنسبة للروايات التاريخية - ويتبنى عمل هذه اللجنة قسم التاريخ ومركز السنة والسيرة النبويّة، أو أي قسم من هذه الأقسام المعنية، وذلك لوضع القواعد والأسس والأطر اللازمة والمنظمة لهذا العمل، والتي تجعل منه عملاً مستمراً وناجحاً ومتطوّراً في المستقبل إن شاء الله تعالى. كما تتيح المجال وبشكل أكبر وأقوى لكل متحمس من طلبة العلم
للخوض والمساهمة في هذا العمل البناء والمهمّ لخدمة تاريخنا الإسلامي العظيم، وفي نفس الوقت فإنه يجب تشجيع وتبني الأعمال المساهمة، سواء كانت رسائل جامعية أو بحوث ترقية أو كتب مؤلّفة مع التركيز على إخراج الرسائل الجامعية المتميزة وطباعتها. لأنه لا معنى لجهد يستمر سنوات ثم لا يرى النور. فإنّ في ذلك دافعاً قويّاً لاستمرار العمل ونجاحه وتطوّره وخروجه بالصيغة التي ترضى جميع الأطراف المؤيدين وحتى المعارضين له.
ثم تعرض أعمال هذه اللجنة في المستقبل، وفي أقرب فرصة في أي مؤتمر من المؤتمرات التي تعالج مثل هذه القضايا، وذلك لتوسيع دائرة المشاركة على مستوى العالم الإسلامي للاستفادة من الخبرات الرائدة في هذا المجال، وكسب المزيد من التأييد، وإتاحة الفرصة لتلاقح الأفكار، وتعدد الخبرات التي تعطي العمل زخماً من القوة والثبات والاستمرارية، مع التطوير الذي يعتبر أمراً مهماً وضرورياً لنجاح العمل.
2-
لم تكن معركة مؤتة والسرايا الشمالية عبارة عن معارك تأديبية تأثرية انتقامية كما يحلو للبعض ترديده، وإنما كانت تدخل ضمن نطاق واستراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم الجهادية والمبنية على عملية التدرج تطبيقاً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّن الكُفَّار} . [سورة التوبة، الآية: 123] . وتمهيداً للفتوحات الإسلامية في المنطقة بالقضاء على القوى العسكرية والسياسية التي كانت تقف حجر
عثرة في وجه نشر الدعوة الإسلامية، وإخضاع تلك القوى لسلطان المسلمين، إما بالدخول في الإسلام، أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، تطبيقاً لقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلَا يَحَرِّمُونَ مَا حَرَّم اللهُ وَرَسُولُه وَلَا يَدِيْنُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} . [سورة التوبة، الآية: 123] .
وفي ذلك أكبر دليل على أن العملية الجهادية والعملية الدعوية كانتا تسيران جنباً إلى جنب، وأنهما عمليتان مدروستان بدقة ونظام، وليستا أموراً عشوائية أملتها ظروف وقتية طارئة، كما يدعي بعض المستشرقين، ولم تكن أيضاً دفاعية، كما يذكر بعض الكتاب المسلمين، وإنما غايتها وهدفها الأسمى هو إعلاء كلمة الله عز وجل في تلك البقعة المباركة من العالم.
3-
لقد كانت الوصايا النبوية لقادة السرايا والبعوث من أعظم وصايا الحرب على مرّ التاريخ، بل إنها تمثّل قانون للحرب العادلة، التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وذلك إنها توضح بجلاء نوع الحرب في الإسلام والتي هي حرب فروسية بمعنى الكلمة، وردّ بليغ على المغرضين من أعداء الأمة الذين يروجون الأكاذيب ويلقون الشبه حول الحرب، والجهاد في الإسلام، في محاولة منهم لتشويه هذه الحقائق الناصعة لهذه الحرب العظيمة.
4-
وضح من خلال سياق الأحداث حول بعض السرايا والبعوث اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بوسائل الحرب الاستخبارتية وتمثل ذلك في بثّ العيون، وتوظيف الأدلاء، وبعث الطلائع إلى أرض العدوّ لجمع المعلومات عنه، وفي ذلك درس بليغ للأمة بالاهتمام بهذه الوسائل وغيرها من الأسباب الشرعية، وتطبيقها في حربها مع أعدائها لما تمثله من أهمية بالغة بالنسبة لعوامل النصر وأسبابه.
5-
تميّزت بعض السرايا والبعوث ببعض الابتكارات النبوية العسكرية، مثل الشعار في المعركة، والهجوم الفجري المباغت، وغير ذلك، وهي دروس استفادها وطبقها قادة تلك السرايا من توصيات النبي صلى الله عليه وسلم، وتطبيقاته في غزواته.
6-
وضح من خلال أحداث بعض السرايا والبعوث الدور العظيم الذي كان يتميز به المسجد النبوي الشريف، حيث كان بمثابة جامعة عظيمة تعقد فيه مجالس العلم والذكر، ويلتقي فيه الصحابة رضي الله عنهم بمعلمهم العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنه كان عبارة عن قاعدة عسكرية تنطلق منه السرايا والبعوث النبوية، وتعقد فيه مراسم تولية قادة تلك السرايا والبعوث، مما يدل على دقة التنظيم في إعداد السرايا وبعثها، وإن ذلك كان يتم وفق خطة مدروسة منظمة بعيداً عن العشوائية والارتجال كما يزعم البعض.
7-
ما ورد في ثنايا الحديث عن بعض السرايا والبعوث من التحذير النبوي من أسباب انتشار بعض الأوبئة والأمراض، يعتبر من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث تحققت نبوءته صلى الله عليه وسلم في ذلك زماننا الحاضر الذي انتشرت فيه الأوبئة والأمراض التي حذر منها ومن أسبابها المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً.
8-
كانت المكتسبات التي أفادها المسلمون من غزوة مؤتة وبعض السرايا النبوية الشمالية عظيمة جداً، حيث كانت النتائج السوقية لها كبيرة، أفادت المسلمين في التعرف على خواص الروم، وحلفائهم مما كان له أبلغ الأثر في المعارك التي خاضها المسلمون معهم فيما بعد.
9-
تميزت الغزوة والسرايا والبعوث النبوية الشمالية بكثير من الأحكام الشرعية المستنبطة، والدروس والعبر المستفادة.