الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الخلاف في قائد السرية:
قلت: اختلف في هذه السرية، وقائدها على قولين:
ذكر أهل المغازي المتقدمين، كابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، وابن عائذ هذه السرية، وأنَّ قائدها زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأنَّ سلمة بن الأكوع رضي الله عنه كان معهم في السرية، وأنه أصاب جارية جميلة من بني فزارة، ذكر أهل المغازي أنَّها بنت أُمّ قرفة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استوهبها من سلمة، فوهبها له، فأهداها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لخاله حزن بن أبي وهب1.
- وأخرج أهل الحديث "مسلم، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن أبي شيبة" عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال:
[3]
"غزونا فزارة وعلينا أبو بكر، أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا
…
فذكر الحديث"2.
1 انظر: ابن هشام: سيرة 4/617، الواقدي: مغازي 2/564-565، ابن سعد: طبقات 2/90-91، وابن سيد الناس: عيون 2/142.
وقال ابن سيّد الناس: "ذكر محمَّد بن إسحاق، ومحمَّد بن سعد: أنَّ أمير هذه السرية زيد بن حارثة، وقد رُوّينا في صحيح مسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أبا بكر إلى بني فزارة". (عيون الأثر 2/142) .
2 أخرجه مسلم (الصحيح4/25-26) ،وأحمد (المسند، حديث رقم: ئ 16517)، وأبو داود (انظر: عون المعبود، حديث رقم:2680) ،والنسائي (السنن الكبرى: 5/271) ، وابن ماجه (السنن، حديث رقم: 2846) ، جمعيهم من حديث عكرمة ابن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه بن الأكوع. إلاّ أن البعض اختصر الحديث. والله تعالى أعلم.
وذكر فيه قصة أسره لامرأةٍ من بني فزارة، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، وأنَّ أبا بكر نفله إيَّاها، وأنه قدم بها المدينة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله إيَّاها فوهبها له، فبعَثَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسرى بمكة1.وحاول المتأخرون من أهل المغازي الجمع، أو ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى، فقد نقل الحلبي، والزرقاني عن الشامي الجمع بين الروايتين حيث قال: "يُحتمل أنَّهما سريتان، اتَّفق لسلمة بن الأكوع فيهما ذلك، أي إحداهما لأبي بكر، والأخرى لزيد بن حارثة، ويؤيد ذلك أنَّ في سرية أبي بكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَثَ ببنت أُمّ قرفة إلى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين، وفي سرية زيد وهبها لخاله حزن بمكة. قال: ولم أرَ من تعرَّض لتحرير ذلك"2.
1 مِمَّا يجدر ذكره أنَّ أهل المغازي لم يذكروا سريَّة أبا بكر رضي الله عنه لبني فزارة، ما عدا ابن سعد (الطبقات 2/118) الذي عَنْوَن لها ب (سرية أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه إلى بني كلاب بنجد"، ثُمَّ يسوق بسنده عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه حديثه عن سرية أبي بكر رضي الله عنه إلى بني فزارة.
2 انظر: الحلبي: سيرة 3/181، الزرقاني: شرح 2/164.
وتعقَّبه الحلبي، والزرقاني، بأنَّ في هذا الجمع نظراً؛ لأنه يقتضي أنَّ أُمَ قرفة تعدَّدت، وأنَّ كُلَّ واحدة كانت لها بنت جميلة، وأنَّ سلمة بن الأكوع أسرهما، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أخذهما منه. وفي ذلك بعد، إلَاّ أن يُقال: لا تعدُّد لأُمّ قرفة وتسمية المرأة في سرية أبي بكر أُمّ قرفة وَهَمٌ مِن بعض الرواة، ويدل عليه أنَّ بعضهم أوردها ولم يسم المرأة أُمّ قرفة، بل قال: فيهم امرأة من بني فزارة معها ابنة لها من أحسن العرب1.
وفيه توهيم رواية الصحيح بلا حُجَّة، فإنَّ تسميتها فيه من زيادة الثقة، فما في الصحيح أصحَّ كما قال السهيلي2.
قلت: رجَّح السُهيلي ما ورد في روايات أهل الحديث حول الجارية التي استوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلمة ففدى بها أسيرين من المسلمين كانوا بمكّة على روايات أهل المغازي، ومنهم ابن إسحاق، الذين ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم وهبها لخاله حزن بمكّة3، ووافقه الزرقاني على ذلك مُعَمّماً هذا الحكم على باقي الرواة وبخاصّةً كون القائد أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وليس زيد ابن حارثة رضي الله عنه، كما ذكرت روايات أهل المغازي4.
1 الحلبي: سيرة 3/182.
2 الزرقاني: شرح 2/164.
3 السهيلي: الروض 7/528.
4 الزرقاني: شرح 2/164.
وقد جمع ابن حجر بين ما ذكره أهل المغازي حول قيادة زيد ابن حارثة رضي الله عنه للسرية، وما ذكره مسلم من رواية سلمة رضي الله عنه، وكأنه - أي ابن حجر - معتبرٌ إيَّاها قصّةً واحدة1.
ولو أمعنا النَّظر في الروايتين: رواية أهل المغازي، ورواية أهل الحديث، لأمكن استنباط قرائن قوية تدل على اتّحاد القصة، وأنَّ أحداثها تدور حول سرية واحدة، فمن ذلك مثلاً:
- أنَّ كلتا الروايتين تشير إلى أنَّ السرية كانت موجهة لبني فزارة.
- أشارت روايات أهل الحديث أنَّ قائد السرية صبَّح القوم ثُمَّ أمر بشن الغارة عليهم دون سابق إنذار2، ووقع مثل ذلك في روايات أهل المغازي3.
1 قال ابن حجر (فتح 7/498-499، باب غزوة زيد بن حارثة) بعد أن ذكر حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا - وقد تتبعت ما ذكره أهل المغازي من سرايا زيد بن حارثة فبلغت سبعاً. كما قاله سلمة، وإن كان بعضهم ذكر ما لم يذكره آخرون
…
ثُمَّ ساق أسماء تلك السرايا إلى أن قال: والسابعة إلى ناس من بني فزارة
…
ثُمَّ قال: ولعلَّ هذهالأخيرة مراد المُصَنِّف، وقد ذكر مسلم طرفا منها من حديث سلمة بن الأكوع.
2 وقد جعل البيهقي هذا الحديث تحت باب جواز ترك دعاء مَن بلغته الدعوة. (السنن 9/107) .
3 وقع ذلك في رواية الواقدي، وابن سعد، والسبب أنهما ذكرا تفاصيل لم تذكرها الروايات الأخرى.
مِمَّا يدل على أنَّ هدف السريتين كان هو المباغتة لتأديب أولئك الأعراب، والمباغتة لا تكون إلَاّ لقومٍ قد بلغتهم الدعوة فأصرُّوا واستكبروا، وبدت منهم العداوة للمسلمين، وتبليغ الدعوة يكون إمَّا بكتاب يبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعثة دعوية، أو سرية سابقة كما حدث بالنسبة إلى بني فزارة، حيث أُرسل إليهم زيد ابن حارثة رضي الله عنه في سرية، فقاتلوه وأصابوا أصحابه، فكانت المباغتة في السرية الثانية لأجل تأديبهم لما كان منهم في السرية الأولى، والله تعالى أعلم.
- ذِكْر المرأة الفزارية وابنتها الجميلة اللتان أصابهما سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، ولو سمَّتهما المصادر الحديثية كما فعلت المصادر التاريخية، لَحُسِمَ النّزاع مبكراً. وإن كان بعض أهل المغازي المتأخرين قد ذكر ورود التسمية في بعض روايات الصحيح1. ولكن رواية مسلم التي بين أيدينا لم تُسَمّ المرأة، وكذلك روايات أهل الحديث الأُخرى. كُلُّ هذه القرائن تقوي الاعتقاد أنَّها سرية واحدة أُرْسِلَت إلى بني فزارة، ولكن هذه المرّة بقيادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كماذكرت روايات أهل الحديث، ويمكن توهيم روايات أهل المغازي التي ذكرت أنَّ القائد كان زيد ابن حارثة رضي الله عنه، فتوهيم روايات
1 انظر ما ذكره الحلبي (سيرة 3/182) ، والزرقاني (شرح 2/164) .
أهل المغازي أخف وطأة وأقل تبعية من توهيم روايات أهل الحديث بما فيها رواية الصحيح، لأنَّ روايات أهل المغازي على تخصصها فإنَّها جميعاً قد وردت من طرقٍ لا تخلو من مقال، وليس فيها رواية واحدة يمكن أن ترتقي إلى رواية الصحيح أو غيرها من الروايات الحديثية.
وربما وقع الوهم عند أهل المغازي بسبب ما ورد عندهم من خروج زيد ابن حارثة رضي الله عنه في السريتين، وبما أنه كان قائداً للسرية الأولى، ثُمَّ نذره بعد ذلك بسبب ما وقع له ولأصحابه من بني فزارة بغزوهم مرّةً ثانية، فجعلوه قائداً للسرية الثانية، ربما يكون قد خرج معهم ولم يكن قائداً، بل أُنيطت القيادة هذه المرَّة بالصّدّيق أبي بكر رضي الله عنه، لكون زيد رضي الله عنه قد أُصِيبَ في المرّة الأولى، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إراحته وإسناد القيادة لأبي بكر رضي الله عنه، وسمح لزيد بالخروج وفاءً لنذره، فشارك بفعالية بأحداث السرية، فوهم أهل المغازي، وذكروا أنه قائد للسرية، ولكن ما في الصحيح أصح، والله تعالى أعلم.