الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الوصايا التي تزوَّد بها الجيش، وتوديعه:
وخرج معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى بلغ ثنية الوداع1، وهناك أوصاهم قائلاً:
[28]
"اخرجوا باسم الله، فقاتلوا في سبيل الله عدوّ الله وعدوّكم، إنَّكم ستدخلون الشام فستجدون رجالاً في الصَّوامِع2 معتزلين النَّاس فلا تعرضوا لأحدٍ منهم إلَاّ بخيرٍ، وستجدون آخرين للشياطين في رؤوسهم مفاحص3، فافلقوا هامهم4 بالسيوف، لا تَقْتُلُنَّ كبيراً ولا فانياً، ولا صغيراً ضرعاً5، ولا تَقْتُلُنَّ امرأةً،
1 ثَنِيَّةُ الوَدَاعِ - بفتح الواو - وهي اسم من التوديع، وهي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها مَن يريد الشام، واختلف في سبب تسميتها بذلك، والأشهر والصحيح أنه اسم جاهليّ قديم سُمِّيَ لتوديع المسافرين، وكان اسمها قديماً ثنية الركاب، وكانت هذه الثنية بين مسجد الراية، وقبر النَّفْس الزكية جوار سلع، وقد هُدِمَت اليوم وأُزِيلَت بكاملها مع المسجد، وأُقِيمَ مكانها مدخل نفق المناخة من جهة الشمال. (العباسي: عمدة الأخبار 283) .
2 جمع صومعة، وهي مكان عبادة الرهبان من النصارى.
3 أي أنَّ الشيطان قد استوطن رؤوسهم فجعلها له مفاحص، كما تستوطن القطا مفاحصها. (ابن الأثير: النهاية 3/385) .
4 الهامة: رأس كُل شيء. والمعنى: اضربوا رؤوسهم بالسيوف.
5 أي الصغير الضعيف.
ولا تُعْزِقُنَّ1 نخلاً"2.
لقد تضمنَّت تلك الوصية أرقى قانون للحرب العادلة، قانون عجزت حتى الآن كُلّ النُّظُم والتشريعات أن تصل إليه من حيث الإنصاف في معاملة الأعداء، واجتناب الأعمال اللاإنسانية من التعرُّض للنساء والأطفال والعَجَزَة، ورجال الدين المعتَزلين بأي نوعٍ من أنواع الأذى، لقد
1 أي: لا تقطعن. والعزق: القطع.
2 أخرجه ابن عساكر (تاريخ دمشق: المجلدة الأولى ص 391) من حديث ابن عائذ بسنده عن العطاف بن خالد المخزومي، وعن العطاف بن خالد، عن واقد بن محمَّد ابن زيد.
كما رواه الواقدي (مغازي 2/758) من طريق العطاف، عن خالد بن يزيد.
وأخرجه ابن عساكر: تاريخ دمشق (المجلدة الأولى ص 391) عنه، وقال تعليقاً على الخبرين: هذان إسنادان مرسلان، والمحفوظ أنَّ هذه وصية أبي بكر رضي الله عنه.
قلت: وإن كان الخبران مرسلين، فإنَّهما يتعاضدان فيما بينهما بالمتابعة، وإن كان الخبر الثالث من طريق الواقدي، لكنَّه تابع فيه الثقات، ولا يمنع أن تُشابِه وصيَّة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه، وصيَّة صاحبه ومعلِّمه الأوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه تلميذٌ نجيبٌ مِن مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد هاتين الوصيتين - وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصية أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه - ابن الأثير في (النهاية 3/415) في موضعٍ واحدٍ، مِمَّا يدُلُّ على كونهما حديثين متشابهين كما ذكرنا. كما يشهد للخبرين السابقين الأحاديث الصحيحة في وصايا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للسرايا التي يبعث بها لتقاتل مَن كَفَر بالله. والله تعالى أعلم.
كانت توصيات في الآداب الحربية، ودروس في الشرف العسكري، وأُسُس راسخة في المعاملة الإنسانية، والرأفة بغير المحاربين من النساء والشيوخ والأطفال، وتربيات عالية شريفة ما سمعت ولا دعت أُمة مثلها منذ فجر التاريخ حتى اليوم من غير سيد البشر محمَّد صلى الله عليه وسلم ".
إنَّ أرقى الأُمم في العصر الحاضر لا تزال في مجال محاولاتها الالتزام بقانون الشرف العسكري، لا تزال تحبو حبواً إذا ما قِسْنَا محاولاتها بما وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته هذه من قواعد راسخة لقانون الشرف العسكري1".
[29]
"ثُمَّ ودَّع النَّاس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلَّموا عليهم، فلمَّا ودَّعوا عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - بكى، فقالوا: "ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: "أما والله ما بي حُب للدُّنيا، ولا صبابة إليها، ولكني سمعت الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهُا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيَّا} . [سورة مريم، الآية: "71] ". فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟!
فقال المسلمون: "صحبكم الله، وردَّكم إلينا صالحين، ودفع عنكم". قال ابن رواحة:
لكنَّنِي أسأل الرحمن مغفرةً
…
وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا2
1 با شميل: غزوة مؤتة 262-264.
2 ذات فرغ: يعني ذات سعة. الزبدُ: رغوة الدم. (شرح السيرة للخشني 354) .
أو طعنةً بيدى حران مجهزة
…
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا1
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
…
أرشده الله من غازٍ وقد رشدا2
ثُمَّ أتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودَّعه، فقال:
وثبَّت الله ما آتاه من حسن
…
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصرا
إني تفرَّسْتُ فيك الخير نافلة
…
والله يعلم إني ثابت البصرا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
…
والوجه منك فقد أزرى به القدرا3
1 رجل حرَّان: عطشان، أي متعطِّش للقتل. مجهزة: سريعة القتل. (المصدر السابق) .
2 الجدث: القبر. (المصدر السابق) .
3 نافلة: هبة من الله. وأزرى به القدرا: أي قصد به. (شرح السيرة للخشني 354)
وهذا الخبر من رواية عروة عند البيهقي، وقد سبق تخريجها برقم [14] .
كما أخرج حادثة بكاء عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، وسببها: أبو نعيم في (الحلية 1/118) من طريق محمَّد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري أيضاً.