الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[8]
بينما وردت عن خليفة بن خياط في ذلك روايتان، خالف في إحداهما أهل المغازي بجعلها في السَّنة السَّابعة1، ووافقهم في الرواية الثانية2.
وقد احتجَّ ابن حجر على الترمذي - الذي ذكر أنَّ مؤتة كانت قبل عمرة القضاء3 - مستغرباً ذهول الترمذي عن بعض الأحداث التي تتعارض مع ذلك4".
1 ذكر ابن حجر (فتح 7/511) وتابعه الزرقاني (شرح 2/268)، والشامي (سبل 6/228) :"أنَّ خليفة بن خياط ذكر في تاريخه أنَّها كانت سنة سبع، ولم أجد ذلك في كتاب التاريخ، وإنَّما وجدته في كتاب الطبقات له (في ترجمة عبد الله بن رواحة 93) فلعلَّ ابن حجر ومتابعيه يقصدون ذلك. والله تعالى أعلم".
2 انظر: تاريخ خليفة 86-87.
3 ذكر ذلك الترمذي (سنن 4/217، كتاب الأدب، باب إنشاد الشعر) حيث قال بعد إيراده حديث أنس رضي الله تعالى عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:
خلوا بني الكُفَّار عن سبيله اليوم نضربكم على تنْزيله".. الخ الحديث.
قال: "ورُوِيَ في غير هذا الحديث: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وكعب بن مالك بين يديه. وهذا أصح عند بعض أهل الحديث، لأنَّ عبد الله ابن رواحة قُتِلَ يوم مؤتة، وإنَّما عمرة القضاء بعد ذلك".
4 قال الحافظ (فتح 7/502) : "وهو ذهول شديد، وغلط مردود، وما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك مع وفور معرفته، ومع أنَّ في قِصَّة عمرة القضاء اختصام جعفر وأخيه علي، وزيد بن حارثة في بنت حمزة، وجعفر قُتِل هو وزيد، وابن رواحة في موطنٍ واحدٍ، وكيف يخفى عليه - أعني الترمذي - مثل هذا؟! ثُمَّ وجدت عن بعضهم أنَّ الذي عند الترمذي من حديث أنس: أنَّ ذلك كان في فتح مكة، فإن كان كذلك اتجه اعتراضه، لكن الموجود بخط الكروخي راوي الترمذي ما تقدَّم، والله أعلم". وقال الشامي (سبل 5/300) أيضاً: وكذلك رأيته في عِدَّة نسخ من جامع الترمذي.
قلت: الترمذي رحمه الله تعالى لم يعترض من نفسه، وإنَّما أورد اعتراض بعض أهل
الحديث على الرواية فهو بذلك يعتبر ناقلاً لا معترضاً - سيِّما وأنه وُجِدَ في بعض مخطوطات السُّنَن (2/49/2) : قيل: "إنَّ عمرة القضاء كانت في سنة سبع، وكانت مؤتة في سنة ثمان، والله أعلم وأحكم.
وربَّما أنَّ الحافظ رحمه الله تعالى احتجَّ على عدم تعليق الترمذي على ذلك مع ما عُرِفَ عنه من العقلية الناقدة". والله تعالى أعلم.
[9]
هذا وقد وقع في بعض الروايات أنَّ فصول الجيش1 من المدينة كان في يوم جمعة2".
1 فصل من البلد، فصولاً: خرج منه. (القاموس: مادة الفصل) .
2 أخرج الترمذي (انظر: تحفة الأحوذي33/65-66) ، وأحمد (المسند 1/265) من حديث أبي معاوية عن الحجاج عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، قال فقدم أصحابه، وقال: أتخلَّف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثُمَّ ألحقهم. قال: فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم. رآه فقال: "ما منعك أن تقدو مع أصحابك؟ " قال: "أريت أن أُصلّي معك الجمعة ثُمَّ ألحقهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت غدوتهم".
قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه. قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: لم يسمع الحكم بن مقسم إلاّ خمسة أحاديث وعدّدها شعبة. وليس هذا الحديث فيما عدّها شعبة. وكأنّ هذا الحديث لم يسمعه الحكم من مقسم".
وقال الهيثمي (المجمع 6/156) : "فيه الحجاج بن أرطأة وهو مدلِّس، وبقية رجاله رجال الصحيح". وقال ابن كثير (البداية 4/242: "الحجاج بن أرطأة في روايته نظر".
وقال المباركفوري (التحفة 3/66) : "قال البيهقي: انفرد به الحجاج بن أرطأة، وهو ضغيف". انتهى. كذا في التلخيص. قلت: وحجاج بن أرطأة مدلِّس، وورد هذا الحديث عن الحكم بالعنعنة".
قلت: ويخشى أيضاً من تدليس الحكم؛ لأن عنعنه عن مقسم، وهو ثقة كما ذكر الحافظ في التقريب ص 152، إلاّ أنه ربما دلَّس. والله تعالى أعلم.
قال ابن كثير: (البداية 4/242) : "والمقصود من إيراد هذا الحديث أنه يقتضي أنّ خروج الأمراء إلى مؤتة كان في جمعة". والله أعلم.
أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه - قالها ثلاث مرَّات – ثُمَّ جاءت أُمّنا فذكرت يتمنا، وجعلت تُفَرِّح له1، فقال: العيلة تخافين عليهم وأنا وليُّهم في الدُّنيا والآخرة! "2.
وهكذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم عطوفاً رحيماً، رقيق القلب، يواسي أُسَر الشهداء ويدعو لهم ولأبنائهم، ويكفلهم برعايته وحنانه.
[94]
فهذا أُسامة بن زيد رضي الله عنهما، يقف أمامه عليه الصلاة والسلام، فيتذكَّر أباه، فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، وحناناً وعطفاً به3.
1 من أفرحه إذا غمَّه، وأزال عنه الفرح، وكأنَّما أرادت أنَّ أباهم توفي ولا عشيرة له.
2 أخرجه النسائي، (السنن الكبرى 5/180) ، وأحمد، (المسند، حديث رقم: 1749) ، والطبراني، (المعجم 2/105) ، وابن سعد، (الطبقات 4/36-37) .
جميعهم من حديث وهب بن جرير، عن أبيه عن محمّد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر.
قلت: صحّح إسناده ابن حجر، (فتح الباري7/511) ،وقال الهيثمي، (المجمع6/157) : رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في: (إرواء الغليل 5/285، وأحكام الجنائز21-166، وحاشية فقه السيرة للغزالي 370) : هو على شرط مسلم.
3 أخرجه ابن أبي شيبة، (المصنّف14/519) .وهذا لفظه، وابن سعد، (الطبقات4/63) ،
كلاهما من حديث يزيد بن هارون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي خازم، وسنده رجاله رجال الصحيح غير أنه مرسل.
وقد أخرجه ابن عساكر، (تاريخ 6/596) ، موصولاً من طريق البزّار، نا يحيى بن حبيب، نا أبو أسامة، نا إسماعيل، عن قيس، عن أسامة بن زيد، فذكره نحوه.
قلت: وسنده حسن. يحيى بن حيب، صدوق (تقريب 589) . وأبو أسامة صرَّح بالسماع من إسماعيل. وبقية رجاله ثقات. والله تعالى أعلم.
ولا غرابة في ذلك، فهو نبيُّ الرحمة المهداة.
فها هو - أيضاً عليه الصلاة والسلام، يخفِّفُ عن أصحابه لَمَّا اشتدَّ حزنهم على مَن أُصيب في مؤتة، وبكوا:
[95]
"وهم حوله، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: وما لنا لا نبكي وقد قُتِلَ خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل مِنَّا، قال: لا تبكوا، فإنَّما مثل أُمَّتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فاجتثَّ1 رواكبها، وهيأ مساكنها، وحلق سعفها2،فأطعَمَت عاماً فوجاً، ثُمَّ عاماً فوجاً، ثُمَّ عاماً فوجاً، ولعلَّ آخرها طعماً يكون أجودها قنواناً، وأطولها شمراخاً، والذي بعثني بالحق ليجدنَّ ابن مريم في أُمَّتي خلفاً من حواريه ".
وفي رواية أخرى: "ليدركن المسيح من هذه الأُمَّة أقوام إنَّهم لمثلكم أو خير منكم - ثلاث مرَّات - ولن يخزي الله أُمةً أنا أولها والمسيح آخرها"3.
1 اجتث: اقتلع.
2 أي قصَّ سعف نخلها، والسعف من النخل بمثابة الورق من الشجر.
3 أخرجه الحكيم الترمذي (نوادر الأصول ص 157) من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه، بلا سند، والجزء الأخير من الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (المصنف 4/517) ، وحسَّن ابن حجر (فتح 7/6) إسناده.
كما أخرجه الحاكم (المستدرك 3/43) وقال عنه: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: ذا مرسل، سمعه عيسى بن يونس عن صفوان، وهو منكر،.وصحَّحه المناوي (فيض القدير5/353) وعزاه إلى الترمذي في نوادر الأصول.
وهكذا كان وَجْدُ الصَّحابة - رضي الله تعالى عنهم - على مَن أُصِيبوا بمؤتة شديداً، وكان مِمَّا بُكِيَ به أهل مؤتة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[96]
قول حسَّان بن ثابت1:
تَأَوَّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ
…
وَهَمٌّ إذا نُوِّمَ الناسُ مُسْهِرُ2
لِذِكْرَى حَبِيبٍ هَيَّجت لِي عَبْرَةٌ
…
سَفُوحاً وَأَسْبَابُ البُكَاءِ التَّذَكُّرُ3
بَلَى! إنَّ فُقْدَانَ الْحَبِيبِ بَلِيَّةٌ
…
وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ
رَأَيْتُ خِيَارَ النَّاسِ تَوَارَدُواْ
…
شَعُوباً وخلفاً بعَدَهُم يَتأخَّرُ4
فَلا يُبْعِدَنَّ اللهُ قَتْلَى تَتَابَعُواْ
…
بِمُؤْتَةَ مِنْهُم ذُو الْجَناحَينِ جَعْفَرُ5
وزَيْدٌ، وعبدُ اللهِ حِينَ تَتَابَعُوا
…
جَمِيعاً وَأَسْبَابُ المَنِيَّة تَخْطُرُ
1 ذكره ابن هشام (سيرة 4/383-384) عن ابن إسحاق الذي رواه معضلاً بلا سند. وانظر ديوان حسان بن ثابت: 107-108.
2 تأوَّبني: أي عاودني ورجع إليَّ. وأعسر: معناه عسير. ومسهر: أي مانع من النوم.
3 عبرة: أي دمعة. والسفوح: السائلة.
4 تواردوا شعوب - بفتح الشين - اسم للمنية، من قولك: شَعبت الشيء إذا مزَّقته. وخلفاً: يعني مَن يأتي بعد.
5 أسباب المنية تخطر: يقال خطر في مشيته، إذا تبختر فيها وتحرَّك.
6 ميمون النقيبة: أي مسعود ومنجح فيما يطلبه، وأزهر: أي أبيض.
7 أبيٌّ: عزيزُ. سِيمَ: إذا كلَّف. مجسر: كثير الجسارة.
8 المعترك: موضع الحرب.
9 الحدائق: الجنات، واحدتها حديقة.
الفصل الثالث: حشد القوات الإسلامية
المبحث الأول: عدد الجيش، وتولية القيادة
…
المبحث الأول: عدد الجيش، وتولية القيادة:
[10]
"ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس إلى مؤتة". كما يذكر الواقدي، وابن سعد1، فاستجاب له حوالي ثلاثة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، وذلك حسب:[11] ما ذكره بعض أهل المغازي2".
وهو أكبر جيش إسلامي يتم حشده حتى ذلك الوقت، فإنَّ جيش المسلمين في الحديبية، ثُمَّ في خيبر - وهما الغزوتان اللتان سبقتا مؤتة - لم يتجاوز حاجز الألفين3، مِمَّا دلَّل على نجاح صلح الحديبية عملياً، وأنَّ قوة المسلمين في تنامي وتزايد مستمر.
[12]
بل إنَّ بعض الروايات ذكرت أنه تمَّ حشد ستَّة آلاف من المهاجرين والأنصار4.
1 أخرجه الواقدي (مغازي 2/755) ،وأخرجه ابن سعد. وقد سبق تخريجه برقم [3] .
2 ذكر ذلك عروة (انظر: ابن هشام: سيرة 4/373، الطبري: تاريخ 3/36، البيهقي: دلائل 4/358) وذكره ابن سعد (طبقات 2/128) .
3 انظر: عوض الشهري: مرويات غزوة خيبر 206-208، والحكمي: مرويات غزوة الحديبية 51.
4 أخرجه ابن عساكر: تاريخ دمشق (المجلدة الأولى ص 390) عن محمَّد بن عائذ، الذي رواه بسندٍ منقطعٍ، كما أنَّ في متنه شذوذاً، فالمحفوظ عن أهل المغازي أنَّهم كانوا ثلاثة آلاف. والله تعالى أعلم.
وفي الجرف1، عسكر الجيش الإسلامي كالعادة، وكان القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصدر أوامره الشريفة بإسناد قيادة الجيش لمولاه وحبِّه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال:
[13]
"إنْ قُتِلَ زيد، فجعفر، وإن قُتِل جعفر، فعبد الله بن رواحة"2".
وفي مرسل عروة عند البيهقي:
[14]
"فإن أُصيب فليرتض المسلمون رجلاً، فليجعلوه عليهم3".
قال أبو قتادة - رضي الله تعالى عنه:
1 الجُرْف - بالضم ثُمَّ السكون - ما تجرَّفته السيول فأكلته من الأرض، وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة، به كانت أموال لعمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه، ولأهل المدينة. وقيل: سُمِّيَ الجُرْف، لأنَّ تُبّعاً مرَّ به، فقال: هذا جرف الأرض، وكان يُسَمَّى: العرض، وكان الجرف في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بمثابة معسكر للجيوش النبوية. والجُرف اليوم من أحياء المدينة الشمالية الكبيرة، يمتد من مزارع العيون شرقاً، حتَّى طريق المدينة تبوك غرباً.
(انظر: ياقوت: معجم 1/128، السمهودي: وفاء: 4/1175) .
2 أخرجه البخاري (الصحيح 1/87) .
3 أخرجه البيهقي (الدلائل 4/359) بسنده من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق حدَّثنا محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير.
قلت: سنده حسن إلى عروة، ولكنَّه مرسل، وقد تفرَّد يونس بن بكير بهذه العبارة من بين الرواة عن ابن إسحاق، وقد ذكر نحوه الواقدي (المغازي 2/756) ، وابن سعد (الطبقات 2/128) عن شيوخه.
[15]
"فوثب جعفر، فقال: " يا رسول الله! ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً، فقال:"امض فإنَّك لا تدري أي ذلك خير1".
ويبدو أنَّ بعض الصحابة رضي الله عنهم قد تكلَّم في إمرة زيد وتقديمه على غيره:
[16]
فوضَّح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة زيد - رضي الله تعالى عنه - وأحقيته بالإمارة، وأنَّه مِن أحبّ الناس إليه2،فسمعوا وأطاعوا".
ولكن يبدو أن رواة الشيعة لم يرق لهم ذلك، ولم يقتنعوا به، وأخذوا كعادتهم يتلاعبون بالروايات، يُقَدِّمون ويُؤخِّرون حسب أهوائهم، ويفاضلون بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وفق ميولهم ونزعاتهم، ويظهر ذلك جلياً هنا من خلال:
1 أخرجه أبو داود (انظر: عون المعبود، حديث 434) ، وأحمد (المسند 5/376-377) ، والنسائي (السنن الكبرى 5/96)، وابن حبان (انظر: الإحسان في ترتيب صحيح بان حبان، حديث 7008) ، والبيهقي (الدلائل 2/376) ، والطبري (التاريخ 3/40)، كلّهم من طرق عن خالد بن سمير عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة رضي الله عنه. قال الهيثمي (المجمع 6/156) :"رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير خالد بن سمير وهو ثقة".
قلت: قال الحافظ: هو صدوق يهم قليلاً. (التقريب ص 188) ، إذاً فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى.
2 انظر: البخاري (الصحيح 4/213) ، وينصُّ ابن حجر (فتح 7/87) على أنَّ ذلك كان في مؤتة.
[17]
محاولاتهم الحطّ من قدر زيد - رضي الله تعالى عنه، وتقديم جعفر رضي الله عنه باعتباره من آل البيت - حتى في سياق الوقعة1".
ومكانة زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - عظيمة في الإسلام لا تؤثر فيها تلك المحاولات الفاشلة، ويكفي في فضله ومكانته ذكر الباري عز وجل لاسمه صريحاً في القرآن، يُتْلَى في المحاريب، وبيوت الله عز وجل إلى يوم القيامة2".
كما صحَّ عن الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنهما - أنَّها قالت:
[18]
"ما بعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيشٍ قَطُّ، إلَاّ أمَّره عليهم، ولو بقي بعده لاستخلفه"3".
1 انظر حديث ثابت بن دينار (رافضي، ضعيف) عند الطبراني (معجم 19/167)، وحديث علي بن زيد التيمي (قال عنه ابن عدي: كان يغالي في التشيع) عند عبد الرَّزَّاق (مصنف 5/266) .
وانظر: اليعقوبي (تاريخ 2/54) ، وقد ضاهوا بذلك المستشرقين، إذ يقول أحدهم (إدوارد جيبون: إضمحلال الإمبراطورية 75) ، متحدِّثاً عن جيش مؤتة:"وقد بلغت دقة النظام، وشدَّة الحماس في هذا الدين الصَّاعِد، أن أنبل الزعماء عملوا دون تردُّدٍ كجنود تحت إمرة رجل كان مولى للنَّبِيِّ".
2 وذلك في الآية 37، من سورة الأحزاب.
3 أخرجه النسائي (سنن 5/52) وقال عنه ابن كثير (البداية 4/254) : إسناده جيد على شرط الشيخين، وهو غريب.
ذلك هو مبلغ تقدير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لكفاءة زيد القيادية، وثقته الكاملة به، وهو تقديرٌ عظيمٌ، وثقةٌ بالغةٌ، واعتمادٌ هائلٌ استحقَّه زيد بمزاياه القيادية أولاً وقبل كل شيء، فما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يولي ثقته الكاملة إلَاّ لمن يستحقها بجدارة، وقد لمسنا شجاعة زيد في الغزوات التي شهدها مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي سراياه التي قادها، ولمسنا شجاعته في الواجبات الأُخرى التي ألقاها على عاتقه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في استصحاب بناته وزوجته في الهجرة، في وَسَطٍ يعُجّ بالأعداء والحاقدين والموتورين من المشركين".
لقد قضى الإسلام مع ما قضى عليه من تقاليد الجاهلية، على الأنفة
من تأمير مَن لم تُقَدِّمه السن، والاستمساك بِعُرَى التَّفاضُل بالأنساب والأحساب والعشائر والقبائل".. إنَّ التَّفَاضُلَ في الإسلام يخضع للتقوى وصالح الأعمال، بالإضافة إلى الكفايات المناسبة للعمل المناسب، وقد رفعت مزايا زيد القيادية، وإيمانه الراسخ العميق إلى الإمارة1".
كما أنَّ مكانة جعفر - رضي الله تعالى عنه - وفضله لا تحتاج إلى كل ذلك التهويل، ومحاولة لَيّ النُّصوص، واختراع فضائل له لكونه من آل بيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فالعواطف الزائدة، والمحبَّة لآل البيت لا تجعلنا نعطيهم قدراً أكبر مِمَّا جعله الله تبارك وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ويكفي جعفراً رضي الله تعالى عنه فخراً ومكانةً أنه ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد قال له النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:
1 خطَّاب: القادة الشهداء في مؤتة: 60 – 64.
[19]
"أَشْبَهْت خَلْقِي وخُلُقِي"1، "وحسبه بذلك دليلاً على أنه كان على خُلُقٍ عظيم2".
ولمَّا قدم - رضي الله تعالى عنه - في جماعة من المسلمين من أرض الحبشة بأثر فتح خيبر، التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبَّل ما بين عينيه واعتنقه، وقال:
[20]
"والله ما أدري بأيهما أنا أُسَرّ!! أبقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟! "3.
[21]
وكان - رضي الله تعالى عنه - أحد السابقين الأولين، وكان أَحَد أصحاب الهجرتين4.
وقد وصفته زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها بقولها:
[22]
"ما رأيت شابّاً من العرب خيراً من جعفر"5.
وقال عنه أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه:
1 أخرجه البخاري (الصحيح 4/209) .
2 خطَّاب: القادة الشهداء 121.
3 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/35) عن الشعبي، وهو مرسل.
4 أخرجه البخاري (الصحيح 7/484-485) .
5 أخرجه ابن سعد: (الطبقات 4/41) . من حديث زكريا ابن أبي زائدة. عن العامر، وسنده رجاله ثقات، لكه منقطع.
[23]
"كان خير النَّاس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إنه إن كان ليخرج لنا العكة1 التي ليس فيها شيء فنشقّها ونلعق ما فيها"2.
وتجدرُ الإشارة أنه لأوَّل مرَّة في تاريخ غزوات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وسراياه يتم تولية أُمراء بالترتيب، "وما ولَّى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل وقعة مؤتة ولا ولَّى بعدها ثلاثة قادة أو قائدين على سرية واحدة، ولكن بُعْد نظره عليه الصلاة والسلام وتقديره لأهمية هذه السرية وخطورتها هو الذي جعله يولِّي ثلاثة قادة على سرية واحدة، مرَّة واحدة فقط في حياته العسكرية كلها"3.
وربَّما كان ذلك احتياطاً منه صلى الله عليه وسلم لما كان متوقعاً أن تحُفَّ الأخطار هذه الحملة لوجهتها البعيدة، ولعدم وقوع احتكاك سابق بمناطق تخضع لنفوذ دولة قوية كالامبراطورية البيزنطية التي كانت قبائل الشام وأطرافها موالية لها سياسياً4.
ومِنَ السَّذاجة أن يتبادر إلى الأذهان أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم مُسَبَّقاً المصير الذي كان ينتظر أعزَّ أصحابه5، فلم يُعرف عنه أبداً أنه ساق
1 العكة: زق صغير للسمن. وجمعه عكاك.
2 أخرجه البخاري (الصحيح 2/209) .
3 خطَّاب: القادة الشهداء 114-115.
4 أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيح 2/467.
5 ذكر الواقدي في روايته (مغازي 2/755-757) أنَّ يهودياً يُدْعى النعمان بن فنحص قال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يعهد لأمراء الجيش بالقيادة -: "أبا القاسم، إنْ كُنْتَ نبياً فسمَّيْتَ مَن سَمَّيت قليلاً أو كثيراً أُصيبوا جميعاً
…
" الخ. وقد تفرَّد الواقدي بهذه الرواية، والواقدي ضعيف متروك عند المحدثين، خاصّةً إذا انفرد.
أتباعه إلى حتوفهم، أو رمى بهم في عمليات ينتحرون فيها، كُلُّ ما هنالك أنَّ كثرة مشاغله منعته من قيادة الجيش بنفسه1.
وبما أنَّ الجيش لم يكن تحت قيادة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد جرت العادة أن يكون الانخراط فيه تطوعياً حسب الاستطاعة، وذلك وفق التعليمات النبوية الكريمة، درءاً منه صلى الله عليه وسلم للمشقة الحاصلة للمجاهدين وأُسَرِهِم، وإذا لم يكن الأمر نفيراً عامّاً كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالتناوب في الخروج للجهاد، فكان يقول:
[24]
"ليخرج من كُلِّ رجلين، رجل، والأجر بينهما"2.
[25]
بل كان يحُضُّ على تخلُّف البعض لرعاية أُسَر المجاهدين، وأنَّ مَن يقوم بذلك له مثل أجر المجاهد والغازي3".
وكان صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأُمِّي يعتذر عن الخروج على رأس بعض السرايا والبعوث حتى لا يشق على المسلمين".
1 عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 295.
2 أخرجه مسلم (الصحيح، حديث رقم 138، ورقم 1896) .
3 أخرج البخاري (فتح الباري 6/49) ، ومسلم (الصحيح 3/1503)، عن زيد بن خالد رضي الله تعالى عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ جَهَّزَ غازِياً في سبيل الله فقد غزا، ومَن خَلَفَ غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا".
أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال:
[26]
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشُقَّ على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي"1.
وهكذا فقد خلت قائمة الجيش من كبار الصحابة أمثال أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي عبيدة، رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم، بينما كان من المشاركين غير القادة الثلاثة: "عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو قتادة، وخالد ان الوليد، وعوف بن مالك، وجابر بن عبد الله، وثابت بن أقرم، وأبو موسى الأشعري، وواقد بن عبد الله التميمي، وأبو سلمة بن هشام، وعقيل ابن أبي طالب، وعبد الرحمن بن سمرة، ويعلى بن منية، وأبو اليسر2،
1 أخرجه مسلم (الصحيح 4/145) .
2 ترددت هذه الأسماء في الروايات التي تحدَّثت عن المعركة في المصادر المختلفة. كما ذكر ابن الأثير (أُسْد الغابة 4/331)، وابن حجر (إصابة 3/55) في ترجمة عُيَيْنة بن عائشة المري: أنه كان مِمَّن شارك في مؤتة، وذلك نقلاً عن ابن ماكولا.
وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وكان معهم بعض المسلمين من اليمن من أمداد حمير1".
ويذكر ابن سعد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهم:
[27]
"لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة2، فتجهَّز الناس، وتهيأوا للخروج".
1 أمداد حمير: قال في النهاية (4/308) : الأمداد: جمع مدد، وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمُدُّون المسلمين في الجهاد.
قلت: وربَّما كان أولئك من الذين استنفرهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم للحديبية، أولخيبر، أو كانوا من بقايا الوفود الذين قرَّروا البقاء في المدينة بجوار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حيث لم تذكر الروايات في جميع المصادر أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم استنفر القبائل لغزوة مؤتة. والله تعالى أعلم.
2 سبق تخريجه برقم [3] .
المبحث الثاني: الوصايا التي تزوَّد بها الجيش، وتوديعه:
وخرج معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى بلغ ثنية الوداع1، وهناك أوصاهم قائلاً:
[28]
"اخرجوا باسم الله، فقاتلوا في سبيل الله عدوّ الله وعدوّكم، إنَّكم ستدخلون الشام فستجدون رجالاً في الصَّوامِع2 معتزلين النَّاس فلا تعرضوا لأحدٍ منهم إلَاّ بخيرٍ، وستجدون آخرين للشياطين في رؤوسهم مفاحص3، فافلقوا هامهم4 بالسيوف، لا تَقْتُلُنَّ كبيراً ولا فانياً، ولا صغيراً ضرعاً5، ولا تَقْتُلُنَّ امرأةً،
1 ثَنِيَّةُ الوَدَاعِ - بفتح الواو - وهي اسم من التوديع، وهي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها مَن يريد الشام، واختلف في سبب تسميتها بذلك، والأشهر والصحيح أنه اسم جاهليّ قديم سُمِّيَ لتوديع المسافرين، وكان اسمها قديماً ثنية الركاب، وكانت هذه الثنية بين مسجد الراية، وقبر النَّفْس الزكية جوار سلع، وقد هُدِمَت اليوم وأُزِيلَت بكاملها مع المسجد، وأُقِيمَ مكانها مدخل نفق المناخة من جهة الشمال. (العباسي: عمدة الأخبار 283) .
2 جمع صومعة، وهي مكان عبادة الرهبان من النصارى.
3 أي أنَّ الشيطان قد استوطن رؤوسهم فجعلها له مفاحص، كما تستوطن القطا مفاحصها. (ابن الأثير: النهاية 3/385) .
4 الهامة: رأس كُل شيء. والمعنى: اضربوا رؤوسهم بالسيوف.
5 أي الصغير الضعيف.
ولا تُعْزِقُنَّ1 نخلاً"2.
لقد تضمنَّت تلك الوصية أرقى قانون للحرب العادلة، قانون عجزت حتى الآن كُلّ النُّظُم والتشريعات أن تصل إليه من حيث الإنصاف في معاملة الأعداء، واجتناب الأعمال اللاإنسانية من التعرُّض للنساء والأطفال والعَجَزَة، ورجال الدين المعتَزلين بأي نوعٍ من أنواع الأذى، لقد
1 أي: لا تقطعن. والعزق: القطع.
2 أخرجه ابن عساكر (تاريخ دمشق: المجلدة الأولى ص 391) من حديث ابن عائذ بسنده عن العطاف بن خالد المخزومي، وعن العطاف بن خالد، عن واقد بن محمَّد ابن زيد.
كما رواه الواقدي (مغازي 2/758) من طريق العطاف، عن خالد بن يزيد.
وأخرجه ابن عساكر: تاريخ دمشق (المجلدة الأولى ص 391) عنه، وقال تعليقاً على الخبرين: هذان إسنادان مرسلان، والمحفوظ أنَّ هذه وصية أبي بكر رضي الله عنه.
قلت: وإن كان الخبران مرسلين، فإنَّهما يتعاضدان فيما بينهما بالمتابعة، وإن كان الخبر الثالث من طريق الواقدي، لكنَّه تابع فيه الثقات، ولا يمنع أن تُشابِه وصيَّة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه، وصيَّة صاحبه ومعلِّمه الأوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه تلميذٌ نجيبٌ مِن مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد هاتين الوصيتين - وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصية أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه - ابن الأثير في (النهاية 3/415) في موضعٍ واحدٍ، مِمَّا يدُلُّ على كونهما حديثين متشابهين كما ذكرنا. كما يشهد للخبرين السابقين الأحاديث الصحيحة في وصايا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للسرايا التي يبعث بها لتقاتل مَن كَفَر بالله. والله تعالى أعلم.
كانت توصيات في الآداب الحربية، ودروس في الشرف العسكري، وأُسُس راسخة في المعاملة الإنسانية، والرأفة بغير المحاربين من النساء والشيوخ والأطفال، وتربيات عالية شريفة ما سمعت ولا دعت أُمة مثلها منذ فجر التاريخ حتى اليوم من غير سيد البشر محمَّد صلى الله عليه وسلم ".
إنَّ أرقى الأُمم في العصر الحاضر لا تزال في مجال محاولاتها الالتزام بقانون الشرف العسكري، لا تزال تحبو حبواً إذا ما قِسْنَا محاولاتها بما وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته هذه من قواعد راسخة لقانون الشرف العسكري1".
[29]
"ثُمَّ ودَّع النَّاس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلَّموا عليهم، فلمَّا ودَّعوا عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - بكى، فقالوا: "ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: "أما والله ما بي حُب للدُّنيا، ولا صبابة إليها، ولكني سمعت الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهُا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيَّا} . [سورة مريم، الآية: "71] ". فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟!
فقال المسلمون: "صحبكم الله، وردَّكم إلينا صالحين، ودفع عنكم". قال ابن رواحة:
لكنَّنِي أسأل الرحمن مغفرةً
…
وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا2
1 با شميل: غزوة مؤتة 262-264.
2 ذات فرغ: يعني ذات سعة. الزبدُ: رغوة الدم. (شرح السيرة للخشني 354) .
أو طعنةً بيدى حران مجهزة
…
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا1
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
…
أرشده الله من غازٍ وقد رشدا2
ثُمَّ أتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودَّعه، فقال:
وثبَّت الله ما آتاه من حسن
…
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصرا
إني تفرَّسْتُ فيك الخير نافلة
…
والله يعلم إني ثابت البصرا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
…
والوجه منك فقد أزرى به القدرا3
1 رجل حرَّان: عطشان، أي متعطِّش للقتل. مجهزة: سريعة القتل. (المصدر السابق) .
2 الجدث: القبر. (المصدر السابق) .
3 نافلة: هبة من الله. وأزرى به القدرا: أي قصد به. (شرح السيرة للخشني 354)
وهذا الخبر من رواية عروة عند البيهقي، وقد سبق تخريجها برقم [14] .
كما أخرج حادثة بكاء عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، وسببها: أبو نعيم في (الحلية 1/118) من طريق محمَّد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري أيضاً.
الفصل الرابع: حشد القوات الرومانية وحلفائها من القبائل المتنصرة
المبحث الأول: الخلاف في عددهم
…
المبحث الأوَّل: الخلاف في عددهم:
تحرَّكت القوات الإسلامية من المدينة صوب الشام في مسير اقترابي حَذِر.
[30]
ويذكر الواقدي أنَّهم نزلوا وادي القرى في طريقهم إلى الشام، وأقاموا أيَّاماً1، ولكن أنباء حركتهم وصلت إلى الروم قبل وصول المسلمين إليهم2، فنذروا وجمعوا لهم جموعاً كثيرة من الروم وحلفائهم من القبائل العربية الشامية المتنصرة.
هذا وقد اختلفت الروايات فيهم، وفي عدَّتهم، ففي مرسل عروة: "ذكر أنَّهم كانوا مائة ألف من الروم:
[31]
"وانضم إليهم من لخم3، وجذام، والقين4، وبَهْرَاء5، وبلىّ،
1 الواقدي: مغازي 2/760.
2 خطَّاب: الرسول القائد صلى الله عليه وسلم 305، 307.
3 لَخْم - بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة - وهم من بني كهلان بن سبأ، وكان لهم مُلْك بالحيرة، ثُمَّ كان لبقاياهم مُلك بأشبيلية، ومن لخم بني الدار، ومنهم تميم الداري الصحابي. (القلقشندي: قلائد الجمان 69) .
4 بنو القين قبيلة كبيرة من قضاعة، ينسبون إلى القين بن جسر، ووهم ابن التين، فقال: بنو القين قبيلة من تميم. (ابن حزم: جمهرة أنساب العرب424، ابن حجر: فتح 8/74) .
5 بَهْرَاء - بفتح الباء الموحدة، وسكون الهاء، وفتح الراء المهملة - وهم بنو بهراء بن الحافي بن قضاعة، والنسبة إليهم بَهْرَائي، ومنهم جماعة من الصحابة منهم المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه، وكان بينهم وبين اللخميين ملوك الحيرة حروب. (القلقشندي: قلائد الجمان 49) .
مائة ألف منهم1".
وتابعه في ذلك ابن إسحاق في رواية يونس عنه2، وابن الأثير3، والطبري، والبيهقي، كلاهما بسنديهما إليه4، وتابعه من المتأخرين كُلٌّ من:"ابن عبد البر، وابن سيد الناس، وابن القيم، وابن كثير، وابن حزم، والعامري، والحلبي، والذهبي5".
[32]
وذكر السهيلي حكايةً عن ابن إسحاق: "أنَّهم كانوا خمسين ومائة ألف6".
[33]
بينما يذكر الواقدي في روايته: "أنَّهم كانوا مائة ألف من القبائل العربية المتنصرة7".
1 ذكره ابن هشام (سيرة4/375) من حديث ابن إسحاق عنه، وسنده حسن إلىعروة.
2 ذكر ذلك ابن كثير (البداية 4/242 - 243) .
3 ابن الأثير: الكامل 2/235.
4 الطبري: تاريخ 3/37، البيهقي: دلائل 4/360.
5 انظر: (ابن عبد البر: درر 222، ابن سيد الناس: عيون 2/198، ابن القيم: زاد3/381، ابن كثير: البداية 4/243، ابن حزم: جوامع 220، العامري: بهجة1/390، الحلبي: سيرة 2/786، الذهبي: تاريخ، قسم المغازي 481) .
6 السهيلي: الروض 7/41.
7 المغازي 2/760.
وتابعه القسطلاني، إلَاّ أنّه ذكر أنَّهم كانوا مائة ألف من المشركين1، وكذلك المسعودي، إلَاّ أنه ذكر أنَّهم جموع الروم2".
وكان هنالك اضطراب في رواية ابن سعد حيث ذكر أولاً أنَّ شرحبيل بن عمرو الغساني جمع أكثر من مائة ألف، ثُمَّ يعود فيذكر:
[34]
"أنَّ هرقل قد نزل مآباً من أرض البلقاء في مائة ألف من بهراء
…
الخ"3.
ووردت أقوال أخرى حكاها بعض أهل المغازي، دون نسبتها إلى قائليها، حيث قال السهيلي: وقيل: "كان العدو مائتي ألف من الروم، وخمسين ألفاً من العرب، ومعهم من الخيول والسلاح ما ليس مع المسلمين4". ونقل ذلك الحلبي أيضاً5".
وقال الزرقاني، والشامي:"كانوا أكثر من مائتي ألف6".
1 القسطلاني: مواهب 1/549.
2 المسعودي: التنبيه والإشراف 265.
3 سبق تخريجها برقم [3] .
4 السهيلي: الروض الأنف 7/41.
5 الحلبي: سيرة 2/787.
6 انظر: (الزرقاني: شرح 2/271، الشامي: سبل 6/251) .
وقال ابن حجر: "قيل: أكثر من مائة ألف1".
[35]
ولم تُحَدِّد روايات الزهري، وموسى بن عقبة، ومحمَّد بن عائذ العدد، وإنَّما ذكرت أنَّهم جموع كثيرة من الروم، ونصارى العرب من قضاعة، وتنوخ، وبهراء، وغيرهم من نصارى العرب2".
ووقع مثل ذلك في رواية أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه 3". ويصفهم خليفة بن خياط بأنَّهم جموع هرقل4 دونما تحديد".
ويرى العقَّاد صعوبة جمع تلك الجيوش الجرَّارة وتسييرها في مثل تلك السرعة، ويرجِّح أنَّ "هرقل إنَّما كان في جموعه هنالك في زيارة الشكر التي نذر لله أن يؤدِّيها إذا هو ظفر بالفرس، وردَّ منهم صليب الكنيسة الكبرى الذي حملوه معهم يوم أَنْ فتحوا بيت المقدس، وربَّما كان هرقل قد بارح بيت المقدس في ذلك الحين، وتخلَّفت جيوش ركابه لأداء هذه الفريضة معه أو القيام بمراسم الحفاوة في تلك الزيارة التاريخية5".
وذلك استنتاجٌ مبنيٌّ على رواياتٍ ضعيفة، فقد ذكرت المصادر أنَّ هرقل كان في الشام قبل مؤتة بخمسة أشهر على الأقل، حينما استقبل دحية الكلبي - رضي الله تعالى عنه - سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ثُمَّ من بعده أبا سفيان بن حرب ومَن معه الذين سألهم عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أسئلةً دقيقةً وشخصيةً، وقد أظهر هرقل حينها احتراماً بالغاً للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بل وصدَّق
1 ابن حجر: فتح 7/513.
2 سبق تخريجها برقم [2] .
3 سبق تخريجها برقم [15] .
4 سبق تخريجها برقم [8] .
5 محمود عباس العقاد: عبقرية خالد بن الوليد 52-53.
به، ولكنَّه لم يُسلم خوفاً على ملكه، وكان ذلك بعد الحديبية، كما ذكر أبو سفيان راوي الخبر1".
وذهب الدويدار أبعد من ذلك حينما أكد على أنَّ الروايات تكاد تجمع على تلك الأعداد الضخمة التي استقبل بها الرومان المسلمين في مؤتة2".
وتلك مبالغة لا تقل عن مبالغة بعض الروايات التي ذكرناها في تحديدها لعدد جيش الروم وحلفائهم في مؤتة".
ولا ريب أنَّ المبالغات التي أعقبت هذه المعركة، كثَّرت من عدد العدو وجعلته يبلغ هذا الرقم الخيالي3، وإن كان بمستطاع القبائل العربية الضاربة في المنطقة أن تؤلِّف مع الجيش الروماني قوةً ضخمة، ولكنَّ الأمر لم يكن على تلك الدرجة البالغة من الخطورة، "فإنَّ الحملة الإسلامية كانت مكوَّنة من ثلاثة آلاف، وأنَّ أنباء مسيرها كانت معروفة، فلا يمكن أن يوجه إليها الروم مثل هذا العدد الحاشد من الجيوش، على أنَّ هذه الأعداد الضخمة لم تستخدمها بيزنطة في قتالها مع الفرس4".
1 انظر: البخاري (الصحيح 1/5)، وانظر:(أحمد عادل: الطريق إلى دمشق 130-131، 148) .
2 الدويدار: صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم 517.
3 عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 296.
4 الشريف: مكة والمدينة 534.
[36]
فقد ذكرت المصادر أنَّ جيش هرقل الذي أعاد به كرامة الإمبراطورية البيزنطية عندما هزم جيوش كسرى، حتى استطاع دخول المدائن، كان لا يزيد عدده عن سبعين ألفاً1".
"ولم يستخدم الروم هذه الأعداد، إلَاّ فيما بعد عندما اشتبكوا مع الدولة الإسلامية اشتباكاً حقيقياً خطيراً2".
لذلك فإنه من الأصوب الأخذ بروايات الزُّهري، وابن عقبة، وابن عائذ، التي لم تُحَدِّد القوَّات بعددٍ معيَّنٍ، وإنَّما ذكرت أنَّهم جموع كثيرة "وكُلّ ما يمكن تصوُّره أنَّ قوَّة العدو كانت أكبر من قوَّة المسلمين، أو أنَّها كانت أضعافها"3".
ويعتقد الجنرال أكرم أنَّها رُبَّما كانت تتراوح بين عشرة آلاف، وخمسة عشر ألفاً4.
إنَّ التحديد الذي ورد في بعض الروايات التي ذكرناها بتلك الأعداد الضخمة، ربَّما كان اجتهاداً من بعض الرواة والإخباريين، أو حتى بعض شهود العيان الذين ربَّما نقل عنهم عروة وغيره من المؤرِّخين.
1 انظر: "الطبري: تاريخ 2/183، الكندي: فتوح مصر 35، ابن عساكر: تاريخ دمشق: المجلدة الأولى 531، أحمد عادل كمال: الطريق إلى دمشق 39".
2 الشريف: مكة والمدينة 534.
3 المصدر السابق.
4 الجنرال أكرم: سيف الله خالد بن الوليد 105.
كما لم تزودنا المصادر البيزنطية بمعلوماتٍ وافرة عن الأحداث التي كانت بين بيزنطة والمسلمين، بما في ذلك أحداث معركة مؤتة، فنستطيع من خلالها معرفة عدد الجيش البيزنطي والحلفاء فيها، حيث كان الاعتماد على المصادر الإسلامية في ذلك، والتي نادراً ما تخطيء في وصف الأحداث، لاعتمادها على الإسناد الذي يصل في كثيرٍ من الأحيان إلى شهود العيان، أو حتَّى المشاركين في تلك الأحداث، وتلك عملية دقيقة ومرتَّبة لم يُسْبَق المسلمون فيها أبداً، بل لم تعرفها أُمة من الأُمم على الإطلاق، غير الأُمة الإسلامية.
ولكن حتَّى شهود العيان والمشاركون في صميم الأحداث لا يستطيعون في بعض الأحيان التعرُّف بدقة على عدد جند العدوّ1.
بل يعتمدون أحياناً على الحدس والتخمين في إحصاءاتهم لجيوش الأعداء، لأنه لم تكن هنالك إحصاءات دقيقة معلومة عن عدد الجند والجيوش، كما هو الحال اليوم2.
1 في غزوة بدر العظمى ابتكر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طريقة ذكية عَرَفَ من خلالها عدد جيش قريش، حيث سأل الأسرى الذي أمسك بهم المسلمون: كم ينحرون؟ قالوا: يوماً عشرة، ويوماً تسعة. قال القوم: ما بين الألف والتسعمائة.
(أخرجه أحمد: المسند 2/193، والواقدي: مغازي 1/53) .
وانظر: (العليمي: مرويات غزوة بدر 99) .
2 بل إنَّ الكثير من دول العالم اليوم لا تُعْطِي إحصاءات دقيقة وصحيحة لجيوشها لاعتبارات أمنية.
ورُبَّما أنَّ بعض شهود معركة مؤتة من المسلمين شاهدوا تلك الكثافة العَدَدِيَّة والعُدَدِيَّة من الجند الروماني المجهَّز بأحدث الأسلحة والعتاد، فهالهم ذلك المنظر الذي لم يتعوَّدوه من قبل، فقدَّروا عددهم اجتهاداً، ذلك التقدير الضخم.
روى الواقدي بسنده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال:
[37]
"شهدت مؤتة، فلمَّا رأينا المشركين، رأينا ما لا قِبَل لنا به من العدد والسلاح والكراع، والديباج، والحرير، والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أقرم1: "يا أبا هريرة، مالك؟! كأنَّك ترى جموعاً كثيرة، قلت:"نعم". قال: "إنَّك لم تشهد بدراً معنا، إنَّا لَم نُنْصَر بالكثرة2".
ومهما قيل في مبالغة الذين سجَّلوا تعداد الروم وحلفائهم، فإنَّ الحقيقة تبقى واضحة للدارسين بأنَّ الرُّوم وحلفاءهم كانوا أضعاف تعداد المسلمين، كما أنَّهم يقاتلون في بلادهم دفاعاً عنها، بينما يقاتل المسلمون بعيداً عن قاعدتهم الرئيسية المدينة، وبذلك تكون المزايا العسكرية في التفوُّق العَدَدِيّ والعُدَدِيّ، وفي قرب قواعد الروم إلى قوَّاتهم المقاتلة، هذه المزايا مع الروم على المسلمين بلا مراء3.
1 في الأصل (أرقم) ، والتصحيح من الإصابة.
2 الواقدي: مغازي 2/670.
3 خطَّاب: القادة الشهداء 180.
المبحث الثاني: الخلاف في قادتهم:
وكما اختلفوا في عددهم، اختلفوا أيضاً في قوَّادهم.
[38]
ففي رواية عروة - وهي الرواية الأكثر شهرة بين روايات أهل المغازي في هذه الغزوة - يذكر أنَّ الروم كانوا بقيادة ملكهم هرقل، والحلفاء من القبائل العربية المتنصرة، كانوا بقيادة رجلٍ من بلى، ثُمَّ أحد أراشة يُقال له:"مالك بن زافلة1".
[39]
أمَّا رواية الواقدي فيشوبها بعض الاضطراب، حيث ذكر أنَّ الذي حشد الجموع رجلٌ من الأزد، يُقال له:"شرحبيل بن عمرو2، وأنه قدَّم الطلائع أمامه بقيادة أخيه سدوس، فقتله المسلمون، فخاف شرحبيل وتحصَّن3، وبعث أخاً له آخر، يُقال له: "وبر بن عمرو، ثُمَّ يذكر بعد ذلك أنَّ هرقل نزل مآب، من أرض البلقاء في بهراء، ووائل، وبكر، ولخم، وجذام، في مائة ألف، عليهم رجل من بلى، يُقال له:"مالك4".
1 من رواية عروة عند ابن هشام، وقد سبق تخريجها برقم [31] .
2 شرحبيل بن عمرو هذا هو أحد أمراء هرقل على الشام، وهو الذي قَتَل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله تعالى عنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب وقعة مؤتة، كما ذكر الواقدي ومتابعيه.
3 تحصَّن: أي دخل موضعاً حصيناً لا يوصل إلى جوفه.
4 المغازي 2/760.
وتابعه في ذلك تلميذه ابن سعد، كما مرَّ في المبحث السابق1".
[40]
ويذكر الزهري، وموسى بن عقبة في روايتهما أنه كان عليهم ابن أبي سبرة الغساني2".
[41]
أمَّا ابن عائذ فلم تحدِّد روايته اسم القائد3".
[42]
وكان للمسعودي رأي آخر، حيث يذكر أنَّ هرقل أنفذ الجيوش للقاء المسلمين من مكان إقامته في أنطاكية، وكان على الروم تيادوقس البطريق4، وعلى متنصرة العرب من غسَّان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني5".
1 سبق تخريجها برقم [3] .
2 أعتقد - والله تعالى أعلم - أنَّ ذلك تصحيف (ابن أبي شمر الغساني) ملك بصرى والجولان، واسمه الحارث بن جبلة، حيث لم تذكر المصادر الأُخرى أنَّ هنالك حاكم آخر في المنطقة اسمه (ابن أبي سبرة) ، كما أنَّ مشاركة ابن أبي شمر في الأحداث من حيث أنه هو الذي هدَّد بالمسير إلى المسلمين حينما وصله كتاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ترجِّح ما ذكرناه. والله تعالى أعلم.
3 أخرجه ابن عساكر (تاريخ دمشق، المجلدة الأولى ص 396) من حديث ابن عائذ عن الوليد بن مسلم، ولكنه منقطع.
4 البطريق: رتبة عسكرية بيزنطية تُمَاثل أمير الجيش عند المسلمين في ذلك الوقت. وهي تساوي رتبة لواء في الجيوش العربية الحديثة.
انظر: (مجلة الأزهر، رقم 43، الجزء السابع، ص 644) .
5 المسعودي: التنبيه والإشراف 265.
ويؤكِّد بروكلمان ما ذهب إليه المسعودي، مُصَحِّحاً اسم القائد البيزنطي وأنه (ثيودورس)1.
وأعتقد أنَّ ما ذهب إليه المسعودي، وأكَّده بروكلمان من قيادة ثيودورس أخي الأمبراطور هرقل لجيوش الحلفاء في مؤتة هو الأصوب، لأنه لم يرد ذكر هرقل في أحداث المعركة رغم شهرته ومعرفة المسلمين له جيداً، فلو كان هو القائد فعلاً لما أغفلت المصادر الإسلامية - ومنها التي ذكرت قيادته لجيوش الروم - أخباره في ميدان المعركة وأحداثها.
كما أنَّ القول بقيادته للمعركة يتعارض مع ما هو مألوف في نظام الحكم في بيزنطة في ذلك الحين، حيث لم يسبق لإمبراطور بيزنطي قاد جيشاً إلَاّ مرَّتين: "الأولى حينما قاد الإمبراطور موريس حملة لمحاربة الآفار، والثانية حينما قاد هرقل نفسه الجيش البيزنطي في محاولة منه لاسترداد هيبة الإمبراطورية البيزنطية التي فُقِدَت حينما دحرت القوات الفارسية القوات الرومانية في معركة فحل الفاصلة - التي ورد ذكرها في القرآن2 - ثُمَّ خرَّبت بيت المقدس، واحتلَّت شطراً كبيراً من أرض الإمبراطورية، حتى أحدقت بالقسطنطينية، وقد قُوبِل كُلٌّ من الإمبراطوريين
1 انظر: عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 296، بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية 59.
وثيودورس: هو أخو الإمبراطور هرقل، وقد قُتِلَ في معركة اليرموك علي يد المسلمين
(الطبري: تاريخ 3/401) .
2 في الآيتين 2 - 3 من سورة الروم.
بمقاومة عنيفة ومعارضة شديدة من مستشاريهما حين قرَّرا قيادة جيشهما آنذاك1".
والأهم من ذلك كُلِّه هو أنَّ هرقل، بعد أن وصله كتاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وعرف صدق نبوءته صلى الله عليه وسلم، أصبح غير متحمسٍ للقاء المسلمين في ميادين القتال، لمعرفته التامَّة بأنَّهم سيظهرون على غيرهم من الأُمَم بما فيهم الرومان2، عَرَفَ ذلك من خلال كُتُب النصارى التي بشَّرت بنبي الإسلام أحمد صلى الله عليه وسلم 3، ومن خلال المنجّمين الذين حذروه من أمة الختان التي ستسلب مكّة منه".
وهكذا، فإنه في معارك أُخرى جرت بعد ذلك بين المسلمين والبيزنطيين، لم يتولّ هرقل قيادة أي معركة منها، حتى المعارك الحاسمة الضخمة، كاليرموك مثلاً، والتي تُعدّ من حيث حشد القوَّات فيها مِن قِبَل الطرفين، والاستعدادات المبكرة لها، واستشعار الروم وملكهم بخطر المسلمين المستفحل عليهم4، وما كان سيترتب عليها من نتائج في حال ظفر أو هزيمة أيٍّ من الفريقين، أكبر بكثر من مؤتة". والله تعالى أعلم".
1 ذكر ذلك (الباز، العريني: الدولة البيزنطية 124) نقلاً عن:
Ostrogarowski. G. History of Byzantine State: 90.
2 في حديث أبي سفيان الذي أخرجه البخاري (الصحيح 1/5) قال هرقل: ((فإن كان ما تقول حقّاً، فسيملك موضع قدميَّ هاتين
…
)) الخ.
3 انظر: سورة الصف، الآية:6.
4 بدليل أنَّ هرقل ودَّع بعد المعركة سورية الوداع الأخير.
الفصل الخامس: سير الأحداث
المبحث الأول: إحداث الطريق إلى مؤتة
المطلب الأول: تشاور المسلمين في معان
…
المطلب الأول: تشاور المسلمين في معان:
وفي مآب من البلقاء1، احتشدت جيوش الحلفاء من الروم والقبائل العربية المتنصرة، فلمَّا علم المسلمون بأمر جموعهم المتفوقة عليهم فواقاً ساحقاً، أقاموا على معان2 ليلتين يفكرون في أمرهم، واستشار زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - أصحابه، فقال له بعضهم:
1 مآب - بعد الهمزة المفتوحة ألف، وباء موحدة - وهي مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء، افتتحها أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه سنة ثلاث عشرة، وجاء في تقويم البلدان: أنَّ مآب مدينة قديمة قد بادت، وصارت قرية تُسَمَّى الربة، وهي من معاملة الكرك على أقل من نصف مرحلة إلى الشمال منها، وهي اليوم قرية صغيرة حيّة من محافظة الكرك.
(انظر: الحموي: معجم 5/31، الملك المؤيد: تقويم البلدان 47، علي العتوم: تجربة مؤتة 39) .
2 معان - بالفتح، وآخره نون - وهي مدينة في أطراف الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء، وهي عاصمة إقليم الشراة، ومفترق طرق. ومعان اليوم إحدى مدن الأردن المزدهرة، ويبلغ عدد سكانها حوالي خمسةً وعشرين ألف نسمة، وجديرُ بالذِّكر أنَّ معان تبعد عن المدينة المنورة حوالي (810) كيلاً، وعن مؤتة حوالي (150) كيلاً.
(انظر: البكري: معجم 4/1172 - 1241، الحموي: معجم 5/135، البلادي: معجم 300، رحلات في بلاد العرب 147، علي العتوم: تجربة مؤتة 28 نقلاً عن الدستور الأردنية 10/9/1984 م ص 7) .
[43]
"نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإمَّا أن يُمدَّنا بالرجال، وإمَّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له"1.
ويذكر الوليد بن مسلم2 أنَّ بعض المسلمين نصح زيد بالانصراف، مكتفياً بما حقَّقه من مكاسب معنوية، قائلاً له:
[44]
"قد وطئت البلاد، وأخفت أهلها، فانصرف، فإنه لا يعدل العافية شيء، وعبد الله بن رواحة ساكت، فسأله زيد عن رأيه فقال: "إنَّا لم نسر إلى هذه البلاد ونحن نريد الغنائم، ولكنَّا خرجنا نريد لقاءهم، ولسنا نقاتلهم بعددٍولاعُدَّة، فالرأي المسير إليهم"3.
[45]
"فشجَّع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: "يا قوم، والله إنَّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة وكثرة، ما نقاتلهم إلَاّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنَّما هي إحدى الحسنيين، إمَّا ظهور، وإمَّا شهادة، قال:"فقال الناس: "قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس"4. وقبل زيد رأيه وسار إليهم.
1 من مرسل عروة عند ابن هشام، وقد سبق تخريجه برقم [31] .
2 الوليد بن مسلم القرسي، مولاهم، أبو العباس الدمشقي (ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية) من الثامنة. مات آخر سنة أربع، أو أوَّل سنة خمس وتسعين. (تقريب 584) .
3 من رواية ابن عائذ عن الوليد بن مسلم، وقد سبق تخريجها برقم [41] .
4 من مرسل عروة عند ابن هشام، وقد سبق تخريجه برقم [31] .
"إنَّ تشجيع عبد الله بن رواحة المسلمين على قتال الروم وحلفائهم، واستجابة المسلمين لهذا التشجيع، له دلالة لا يُمكن أن يختلف فيها اثنان، هي أنه كان يثق ثقةً عالية برجاله، وأنَّ رجاله كانوا يثقون به ثقةً مُطْلَقة، والثقة المتبادلة بين القائد ورجاله من أهمِّ مزايا القائد المتميِّز، ولا يمكن أن يثق الرجال بقائدهم ثقةً مُطلَقة عفواً وبدون أسباب، كما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا يولي المراكز القيادية إلَاّ لأشخاص لهم مؤهلات عالية، ومزايا واضحة المعالم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحرِصُ أعظم الحِرْص على تولِّي الرجل المناسب للعمل المناسب، تطبيقاً لتعاليم الإسلام في الولاية، وثقة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن رواحة، وثقة رجال عبد الله بن رواحة به، أسبابها وحوافزها واحدة، وهي تَمَتُّع عبد الله بن رواحة بالإضافة إلى عمق إيمانه، بمزايا قيادية أهَّلته لأن يكون أحد قادة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم 1".
ويعتقد بعض المحلِّلين والمنَظِّرين العسكريين، وغيرهم من المؤرِّخين المعاصرين، أنَّ تشجيع عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - للمسلمين، واندفاعه بهم نحو العدوّ، رغم تفوقهم العددي، وقُرْب قواعدهم، كان مغامرة خطرة، ومجازفة مهلكة، وخطأً عسكرياً فادحاً، وذلك بموجب المقاييس المادية2".
1 خطَّاب: القادة الشهداء 182-183.
2 انظر: خطَّاب: القادة الشهداء 181، الغزالي: فقه السيرة 366، باشميل: غزوة مؤتة 284-285.
ولكن المقاييس المادية تُطَبَّق على الذين يعتمدون الوسائل المادية وحدها في حروبهم، أمَّا الذين يحاربون حرباً عقديَّة، جهاداً في سبيل الله، ودفاعاً عن عقيدتهم، وعن حُرِّية انتشارها، فلا تُطَبَّق عليهم المقاييس المادية وحدها، التي تُطَبَّق على غيرهم في حروبٍ استثماريَّةٍ أو توسُّعِيَّةٍ من أجل أمجادٍ شخصيةٍ، وأحقاد عنصرية أو طائفية، وعلى ذلك فلا تُطَبَّق هذه المقاييس المادية على أمثال عبد الله بن رواحة، لأنَّهم كانوا يخوضون حرباً عقديَّة لا دخل للمادَّة فيها من قريبٍ أو بعيد، وإلَاّ فماذا يمكن أن يُقال في غزوة بدر الكبرى الحاسمة، بالنسبة للمقاييس المادية وحدها، وكان تفوُّق المشركين على المسلمين بنسبة ثلاثة على واحد في الأشخاص، وبنسبة مائة على واحد بالخيل، والخيل أنجح سلاح في الحروب القديمة؟!
لقد حرَّض عبد الله بن رواحة المسلمين على القتال لأغراضٍ عقديَّة، فكان تحريضه خطأً بالنسبة للمقاييس المادية، ولكنه كان عين الصَّواب بالنسبة للجهاد والحرب العادلة التي كان يخوضها المسلمون حينذاك1.
ولكي نعرف مدى اندفاع عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - وحماسه لخوض حرب عقائدية إيمانية هدفها إعلاء كلمة الله عز وجل، وإعزاز دينه، وأقصى ما يتمناه فيها هو نيل شرف الشهادة، وبذل روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل، يحدِّثُنا زيد ابن أرقم - رضي الله تعالى عنه - وكان من المشاركين في مؤتة - قال:
1 خطَّاب: القادة الشهداء 182-183.
[46]
"كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو يُنشِد أبياته هذه:
إذا أويتني وحملت رحلي
…
مسيرة أربعٍ بعد الحساء1
فشأنك أنعم وخلاك ذم
…
ولا أرجع إلى أهلي ورائي2
وجاء المسلمون وغادروني
…
بأرض الشام مشتهى الثواء3
في أبيات"
…
قال: "فلمَّا سمعتهنَّ منه بكيت". قال: "فخفقني بالدرة4، وقال: "ما عليك يا لُكع5 أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل6"7".
1 الحساء: جمع حسى، وهو ماء يغور في الرمل، وإذا بُحِثَ عنه وُجِد.
(شرح السيرة للخشني 28) .
2 قوله: ولا أرجع، فهو مجزوم على الدعاء، دعا على نفسه أن يستشهد ولا يرجع إلى أهله. (المصدر السابق) .
3 الثواء: الإقامة. (المصدر السابق) .
4 خفقني: أي ضربني. والدرة: السوط. (أبو ذر: شرح السيرة 29) .
5 اللكع: اللئيم. (المصدر السابق) .
6 شعبتا الرحل: طرفاه المقدّم والمؤخّر. والحقيبة: ما يجعله الراكب وراءه إذا ركب. (المصدر السابق) .
7 ذكره ابن هشام (سيرة 4/376) من حديث ابن إسحاق، حدّثني عبد الله بن أبي بكر أنه حُدّث عن زيد بن أرقم وسنده فيه مبهم. وقد أخرج ابن عساكر (تاريخ دمشق، عبد الله بن جابر، وعبد الله بن زيد ص 348) بسنده عن الزهري بعضه. وأخرج البعض الآخر بسنده عن ابن إسحاق موصولاً ومختصراً، إلى زيد، وسنده حسن.
وكما اندفع عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - بفورة حماس إيمانية زخمة، اندفع - أيضاً - بفورة حماس شاعرية رائعة، راح يُصَوِّر فيها مقام المسلمين في معان، ثُمَّ انطلاقهم بقوة وحماس إيماني نحو عدوهم المتربص في مآب:
[47]
جلبنا الخيل من أجام قرح1
…
تغر من الحشيش لهاالعكوم2
حذوناها من الصوان سبتاً3
…
أزل كأنَّ صفحته أديم4
أقامت ليلتين على معان
…
فأعقب بعد فترتها جموم5
فرحنا والجياد مسومات
…
تنفس في مناخرها السموم6
فلا وأبي مآب لنأتينها
…
وإن كانت بها عرب وروم
1 قرح: هو موضع كان بوادي القرى من صدره، فغلب عليه اسم العُلا لأنه أعلى الوادي، وكان سوقاً مشهورة في الجاهلبة، وهو اليوم مدينة العُلا.
(البلادي: معجم المعالم 250، ومرداد: مدائن صالح 64) .
2 العكوم: جمع عكم. وهو الجنب. (أبو ذر: شرح السيرة 27) .
3 حذوناها: أي جعلنا لها حذاءً وهو النَّعل. والصوان: حجارة مُلْس، واحدتها: صوانة. والسبت: النعال التي تُصْنَع من الجلود المدبوغة.
4 أزل: أملس. صفحته ظاهرة. والأديم: الجلد. (المصدر السابق) .
5 الجموم: استراحة الفرس. (المصدر السابق) .
6 مسومات: أي مرسلات. والسموم: الريح الحارَّة. (المصدر السابق) .
عبأنا أعنتها فجاءت
…
عوابس والغبار لها بريم1
1 البريم: الحزام. وأصل البريم خيط تنظمه المرأة ثُمَّ تشده على وسطها. (المصدر السابق) .
وهذا الشعر ذكره ابن هشام (سيرة 4/375-376) عن ابن إسحاق الذي رواه معضلاً بلا سند.
المطلب الثاني: التحرشات العائية التى تعرض لها المسلمون في طريقهم إلى مؤتة
…
المطلب الثاني: التحرُّشات العدائية التي تعرَّض لها المسلمون في طريقهم إلى مؤتة:
ومضى زيد - رضي الله تعالى عنه - بالجيش، فسار بهم في مناطق تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية، فكان من الطبعي أن يتعرَّضوا لبعض التحرُّشات العدائية من أهل تلك البلاد الذين كانوا يدينون بولائهم سياسياً، وعقائدياً، للدولة البيزنطية، وإن كانت بينهم خلافات مذهبية متأصلة1، ولكنَّهم اتَّحدوا ضد المسلمين.
فيذكر ابن عائذ بسندٍ منقطعٍ ساقه إلى بعض أهل تلك المنطقة من بني سلامان أنَّ زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - سار بالمسلمين:
[48]
"على جبال بين الشراة والبلقاء، على ريفها وعمارتها، فمر بقرية من قرى الجبال، يُقال لها: "أكثب2، فشدَّ أهلها على ساقة3 المسلمين فأصابوهم بجراحة، وقتلوا رجلاً من المسلمين، فبلغ ذلك جماعة الجيش، فاستأذنوا زيد بن حارثة في الرجعة إليهم والانتقام منهم، فقال زيد: "لا أرى ذلك، لأنَّ عدوَّكم أمامكم قد جمعوا لكم، ودنوا منكم، فأكره أن تفلّوا حدَّكم4 ونشاطكم
1 كان نصارى الشام يعاقبة، ونساطرة، وهم يخالفون مذهب الدولة البيزنطية الملكاني.
2 لم أجد لها ترجمة في كتب البلدان.
3 الساقة: مؤخرة الجيش.
4 أي تضيِّعوا نشاطكم وقوَّتكم.
بقتال غيرهم، ثُمَّ لا آمن أن يجمعوا لكم فيكونوا من ورائكم، فتكونوا بين عسكرين"1.
لقد كان رأي زيد - رضي الله تعالى عنه: "المضي قُدُماً، وعدم استنْزاف قوة المسلمين في قتالٍ قد يُعيق تقدُّمهم نحو عدوّهم، وربَّما كان ذلك سبباً لوقوع المسلمين بين فكَّي كمَّاشة".
وقد مرَّ بنا سابقاً في روايتي الواقدي، وابن سعد، تلك التحرُّشات العدائية التي قام بها شرحبيل بن عمرو الغساني - الذي جمع جموع العرب المتنصرة - وذلك بإرساله الطلائع لتعيق تقدم المسلمين، ولكن محاولاته باءت بالفشل الذريع، حيث قَتَل المسلمون أخاه سدوس، قائد الطليعة الأولى، مِمَّا أثار الذُّعْر والهلع في قلب شرحبيل، فتحصَّن2".
1 أي تضيِّعوا نشاطكم وقوَّتكم.
2 سبق تخريجهما برقمي [3] ، [10] .
المبحث الثاني: وصف المعركة
المطلب الأول: تعبئة المسلمين
…
المطلب الأول: تعبئة المسلمين:
تحرَّك المسلمون نحو جيوش الروم، وحلفائهم من القبائل، فحصل التماس الأوَّل في تخوم البلقاء "ولكن المسلمين رأوا أنَّ منطقة قرية مؤتة، بين الكرك1 والطفيلة2، أنسب لقبول المعركة فيها، وذلك لوجود العوارض الطبيعية التي يستطيعون التحصُّن بها، نظراً لقلَّة قوتهم بالنسبة إلى الأعداء"3.
فما "مِن شكٍّ أنَّ قوة العدو كانت أضخم كثيراً من قوة الجيش الإسلامي، وإن لم تبلغ العدد الذي ذكره الإخباريون، وكان التكافؤ منعدماً بين القوتين من حيث العدد، ومن حيث عُدَّة الحرب"4.
1 الكَرَك - بفتح أوَّله وثانيه، وهي مدينة تاريخية تقوم على مجموعة من الجبال التي يتخلَّلها وادٍ عميقٍ، وفيها القلعة الحصينة المشهورة، وهي على سن جبل عالٍ تحيط بها أودية إلَاّ من جهة الربض، وكان الصليبيون احتلُّوها فأخافوا الحجَّاج المارِّين بهذا الطريق، وقد هاجمها صلاح الدِّين حتَّى فُتِحَت صُلْحاً عام 584 هـ، وهي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية.
انظر: (ياقوت: معجم 4/453، البلادي: رحلات 151-185، لانكستر هاردنج: آثار الأردن 129-130) .
2 بلدة الطفيلة بلدة رائعة الجمال ببساتينها ومناظرها الخلَاّبة، تبعد خمسين كيلاً عن مؤتة، ولها طريق يذهب جنوباً إلى أذرح، فمعان، وطريق يذهب شمالاً إلى مؤتة، فالكَرَك. (علي العتوم: تجربة مؤتة 85، البلادي: رحلات 151) .
3 خطَّاب: الرسول القائد رضي الله عنه 307، وانظر: ابن هشام: سيرة 4/377.
4 الشريف: مكة والمدينة 535.
وفي مؤتة تعبأ المسلمون، ونظَّموا صفوفهم، كما يذكر ابن إسحاق:
[49]
"فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يُقال له: قطبة بن قتادة1، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار، يُقال له: عباية بن مالك2، ثُمَّ التقى الناس"3.
وقد لاحظ المسلمون تفوّق الروم وحلفائهم عليهم، ولكنَّهم لم يكترثوا بذلك4.
1 قطبة بن قتادة العذري. ذكره ابن إسحاق فيمن شهد مؤتة، وأنشد له فيها شعراً، وجوَّز ابن الأثير أن يكون هو قطبة بن قتادة السدوسي، وفيه بُعْد (ابن حجر: إصابة 3/238) .
2 قال ابن هشام (سيرة 4/377) : ويُقَال: عبادة بن مالك. ولم أعثر على ترجمته.
3 من رواية ابن إسحاق، وقد سبق تخريجها برقم [1] .
4 خطَّاب: الرسول القائد صلى الله عليه وسلم 307.
المطلب الثاني: وصف حي لقتال القادة الثلاثة واستشهادهم:
وبدأ هجوم المسلمين باندفاع قائدهم زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو صفوف العدو "فحارب مستقتلاً مستميتاً حتَّى مزَّقته رماح العدو"1 وذلك وفق وصف رواية عروة:
[50]
"حتى شاط في رماح القوم"2.
إنَّ ذلك الوصف يدل على قوة اندفاع زيد - رضي الله تعالى عنه - واستماتته في القتال، مع عدم اكتراثه بقوة العدو، وكثافته العَدَدِيَّة والعُدَدِيَّة، وهو أمر يدل على فرط شجاعته وجرأته واستهانته بالموت ما دام في سبيل الله عز وجل.
وكلمة (شاط) 3 تعطي عمقاً بعيداً عن مدى شراسة الحملات التي قام بها ذلك البطل المغوار في العمق داخل صفوف العدو، وما تمزيق جسده الطَّاهر برماحهم إلَاّ نتيجة حتمية لتلك الجرأة العظيمة التي كان يتمتع بها، ويحمل بها على العدو، معطياً من نفسه القدوة الصالحة لجنده، وما ذلك إلَاّ لعلو نفسه، وقوة رباطة جأشه.
1 خطَّاب: الرسول القائد صلى الله عليه وسلم 307.
2 سبق تخريجها برقم [31] .
3 أصل الإشاطة: الإحراق، أي كأنه احترق برماح الأعداء من شدَّة تمزيقها له، وكأنَّهم حنقوا عليه نتيجة الحملات الشرسة والقوية التي كان يحمل بها عليهم في العُمْق.
نعم! لَمَّا كانت نفس زيد بن حارثة الكلبي - رضي الله تعالى عنه - حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرةً توَّاقةً للمعالي، دفَعَ جسده الطاهر الزكي الثَّمَن غالياً في أحضان رماح العدو وحرابهم1، وما كاد يسقط القائد البطل شهيداً في سبيل الله تعالى، حتَّى تلقَّف منه اللواء، ومِن ثَمَّ خلفه في القيادة - حسب أمر القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل آخر شاب من آل بيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم موئل البطولات، وأركان الشجاعة، ولا غَرْوَ في ذلك، فهو جعفر ابن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل الأبطال، وقائد الشجعان.
وتقدَّم البطل الشاب بفرسه يصول ويجول براية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ما ألحمه القتال، ترجَّل عن فرسه، كما يذكر أَحَد شهود العيان:
[51]
"والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء، فعقرها، ثُمَّ قاتل القوم"2، راجلاً، وهو يرتجز:
1 يذكر ابن دريد (الاشتقاق 551) أنَّ الذي باشر قتل زيد رضي الله تعالى عنه، هو مالك بن رافلة قائد العرب المتنصِّرة. ولم أر أحداً قال به غيره.
والله تعالى أعلم.
2 أخرجه أبو داود (السنن 3/62-63) ، وذكره ابن هشام (السيرة 4/378) ، من حديث ابن إسحاق، قال: حدَّثَني ابن عبَّاد، عن أبيه عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، حدَّثني أبي الذي أرضعني، وهو أحد بني مرة بن عوف وكان في تلك الغزوة.
وقال أبو داود: "هذا الحديث ليس بالقوي".
وقال الزرقاني (شرح المواهب 2/272) مُعَقِّباً: "وكأنه يريد ليس بصحيح، وإلَاّ فهو حسن، كما جزم به الحافظ، وتبعه المصنِّف".
وقال مغلطاي (الزهر الباسم، الجزء الثاني والعشرين ص 24) : "على أنَّ لقائلٍ أن يقول: ليس الحديث بضعيف، بل هو صحيح على رسم مسلم في ابن إسحاق، ومحمَّد بن سلمة، وأمَّا يحي بن عباد فوثَّقه غير واحد، وأبوه حديثه في الصحيحين، وجهالة اسم الصحابي لا تضر".
وقال أحمد شاكر (حاشية سنن أبي داود 3/63) : "صرَّح ابن إسحاق بسماعه من يحي بن عباد، والإسناد صحيح".
قلت: الإسناد حسن كما جزم بذلك الحافظ (فتح7/511) ، والقسطلاني (المواهب 1/551) ، والألباني (صحيح سنن أبي داود 2/489) وذلك لأنَّ ابن إسحاق صدوق. والله تعالى أعلم.
يا حبَّذا الجنَّة واقترابها
…
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قددنا عذابها
…
كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إذا لاقيتها ضرابها
ثُمَّ اندفع يقاتل بشجاعة نادرة، وجرأة لا مثيل لها، ورباطة جأش عظيمة، والضربات تنهال عليه من كُلِّ جانبٍ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورميل نبل، دون أن تثنيه عن الاستمرار، أو تعيق تقدمه بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يمثل رمزاً عظيماً للمسلمين في معاركهم، لأجل ذلك كان تركيز العدوّ على إسقاطها شديداً، فلمَّا أعياهم البطل جعفر - رضي الله تعالى عنه - بقوة تماسُكه، ورباطة جأشه العظيمة، ورأوا أنَّ الضربات على جسده لم تزده إلَاّ إمعاناً وتقدُّماً نحو صفوفهم، عندها حوَّلوا ضرباتهم إلى اليد العظيمة التي كانت تمسك اللواء بقوة، وتقاتل به
بلا هوادة، فقطعوها، وظنَّ الأعداءُ أنَّها النهاية، وأنَّ اللواء سوف يسقط، فتسقط معه معنويات المسلمين، ولكنَّ القائد العظيم تلقَّفه:
[52]
"بشماله، فقُطِعَت، فاحتضنه بعضديه"1، ولكن "ورغم استبسال جعفر وثباته هذا، فقد انتهى صموده الرائع بأن سقط شهيداً بعد أن اعتورته سيوف الرومان، وهو يحتضن اللواء في إصرارٍ وتصميمٍ، حتَّى صعدت روحه الطاهرة، ليأخذ مكانه بين الصِّدِّيقين والشُّهداء"2.
بل بين الملائكة:
1 ذكره ابن هشام (السيرة 4/378) روايةً عن مبهم، ولكن له شاهد، أخرجه الحاكم (المستدرك 3/232) من حديث عطاء، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال فيه حكايةً عن جعفر رضي الله تعالى عنه: ”ثُمَّ أخذت اللواء بيدي اليُمنى فقُطِعَت، ثُمَّ أخذت بيدي اليُسرى فقُطِعَت
…
" الخ. وقد سكت عنه الحاكم، والذهبي، وأخرجه الطبراني كما في (المجمع للهيثمي 9/273) وقال عنه الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين، وأحدهما حسن. وقال عنه ابن حجر (فتح الباري 7/76) : إسناده جيد. وقال ابن كثير (البداية 4/246) : ومِمَّا يشهد لِمَا ذكره ابن هشام مِن قطع يمينه وهي مُمْسِكة باللواء، ثُمَّ شماله، ما رواه البخاري: ثنا محمَّد بن أبي بكر ثنا عمر ابن علي، عن إسماعيل بن أبي خلَاّد، عن عامر قال: "كان ابن عمر إذا حَيِّا ابن جعفر قال: السَّلام عليك يا ابن ذي الجناحين".
2 با شميل: غزوة مؤتة 296.
[53]
"فقد صحَّ أنَّ الله قد عوَّضه من يديه جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة1، ويأكل من ثمارها حيث شاء، فلذلك سُمِّيَ
1 أحاديث الجناحين كثيرة، منها الصحيح، والحسن، والضعيف. وهي بمجموعها تُدَلِّل وتؤكد صحَّة الخبر:
أ - أخرج البخاري (الصحيح 5/87) حديث ابن عمر من طريق الشعبي قال: "كان ابن عمر إذا حيَّا ابن جعفر قال: السلام عليك با ابن ذي الجناحين". قال ابن حجر (فتح الباري 7/76) : كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن جعفر.
ب- قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هنيئاً لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء". أخرجه الطبراني بإسنادٍ حسنٍ. انتهى.
ج- وأخرج الطبراني، كما في (مجمع الزوائد 9/273) بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حديثاً طويلاً عن المعركة، قال في آخره:"ذا جناحين يطير بهما حيث شاء، مخضوبة قوادمه بالدماء". قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما حسن.
د- وأخرج ابن سعد (الطبقات 4/39) بسنده من حديث حمَّاد بن زيد، عن عبد الله ابن المختار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرَّ بِيَ جعفر بن أبي طالب الليلة في ملأٍ من الملائكة له جناحان
…
". وقد وصله الحاكم بإسناده عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، فذكر نحوه. وقال الحاكم (المستدرك 3/234) : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص. وابن حجر (فتح الباري 7/76) .
هـ- وأخرج ابن سعد أيضاً (الطبقات 4/39) بسنده عن الحسن البصري أنه قال: "إنَّ لجعفر جناحين يطير بهما في الجنَّة
…
". وسنده إلى الحسن لا بأس به، إلَاّ أنه مرسل. أخرجه ابن سعد (الطبقات4/39) من حديث حسين بن عبد الله ابن ضمير، عن أبيه، عن جده، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. فذكر مثله مرفوعاً. وحسين كذَّبه مالك وغيره.
و وأخرج الترمذي (انظر: تحفة الأحوذي، مناقب جعفر بن أبي طالب، حديث رقم 3852) بسنده عن أبي هريرة-رضي الله تعالى عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "رأيت جعفراً يطير في الجنَّة مع الملائكة". قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلَاّ من حديث عبد الله بن جعفر، وقد ضعَّف يحي بن معين وغيره عبد الله بن جعفر، وهو والد علي ابن المديني.
وأخرجه الحاكم (المستدرك 3/231) بسنده من طريق علي بن عبد الله بن جعفر المديني به نحوه، إلَاّ أنه قال فيه:"ملكاً يطير مع الملائكة بجناحين".
وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي في التلخيص: المديني واهٍ. وقال ابن حجر (فتح الباري 7/76) في إسناده ضعف.
وصحَّحه الألباني في ثلاثة مواضع (الأحاديث الصحيحة 1226، ومشكاة المصابيح 6153، وصحيح سنن الترمذي 2963) .
قلت: والصحيح أنه ضعيف لضعف عبد الله بن المديني، كما ذكر الذهبي، وابن حجر. والله تعالى أعلم.
ز- وأخرج الطبراني (المعجم 2/107) ، والحاكم (المستدرك 3/231) بسنديهما من طريق زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت البارحة الجنَّة فرأيت فيها جعفراً يطير مع الملائكة". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقال مصطفى عبد القادر عطا (حاشية المستدرك 3/231) حذفه الذهبي من التلخيص لضعف سلمة بن وهرام. قال أحمد: روى مناكير أخشى أن يكون ضعيفاً. وقال أبو داود: ضعيف.
قلت: ولكنَّ ابن حجر (التقريب 248) قال عنه: صدوق، وقال في التهذيب 2/384: وثَّقه أبو زرعة، وابن معين. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس برويايات الأحاديث التي يرويها عنه غير زمعة. انتهى.
ولكن في إسناده زمعة ابن صالح، قال عنه ابن حجر (التقريب 217) : ضعيف، وحديثه عند مسلم مقرون.
ح -وأخرج ابن عساكر: تاريخ دمشق (عبد الله بن جابر - عبد الله بن زيد ص 27) بسنده من طريق عمر بن هارون البلخي، عن عبد الملك بن عيسى الثقفي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:"لَمَّا جاء نعي جعفر بن أبي طالب دخل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس، فوضع عبد الله ومحمَّداً ابني جعفر على فخذه، ثُمَّ قال: "إنَّ جبريل أخبرني أنَّ الله عز وجل استشهد جعفراً، وإنَّ له جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنَّة
…
".
وأخرجه الطبراني كما ذكر الهيثمي (المجمع 9/373) وقال عنه: فيه عمر بن هارون، وهو ضعيف، وقد وُثِّق، وبقية رجاله ثقات.
قلت: عمر بن هارون قال عنه ابن حجر (تقريب 417) : متروك.
ط -وقال السيوطي (الخصائص 74) : أخرج الدارقطني في غرائب مالك عن ابن عمر قال: "كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال الناس: يا رسول الله ما هذا؟ قال: مرَّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأٍ من الملائكة فسلَّم عليَّ". قال عنه ابن حجر (الإصابة 1/238) : ضعيف.
ي -وأخرج ابن سعد (الطبقات4/39) بسنده عن إسماعيل بن أبي خالد، عن رجلٍ، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لقد رأيته في الجنَّة - يعني جعفراً - له جناحان مضرجان بالدماء مصبوغُ القوادم".
قلت: سنده ضعيف لجهالة الراوي عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولانقطاع السند إسماعيل بن أبي خالد من الرابعة. والله تعالى أعلم.
ك -وأخرج ابن سعد أيضاً (الطبقات 4/39) من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ لجعفر بن أبي طالب جناحين يطير بهما في الجنَّة مع الملائكة".
قلت: سنده ضعيف، حسين بن عبد الله بن ضميرة، كذَّبه مالك وغيره، ولجهالة أبيه. والله تعالى أعلم.
ل -كما أخرج الطبري (التاريخ 3/41) بسنده من طريق ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر قال: لَمَّا أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاب جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد مرَّ جعفر البارحة في نفرٍ من الملائكة له جناحان مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة أرضاً باليمن".
قلت: سنده ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، ولإرساله، عبد الله بن أبي بكر، من الخامسة، كما أنَّ في متنه نكارة. والله تعالى أعلم.
..............................................................................................
ابن ضمير، عن أبيه، عن جده، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. فذكر مثله مرفوعاً. وحسين كذَّبه مالك وغيره.
و وأخرج الترمذي (انظر: تحفة الأحوذي، مناقب جعفر بن أبي طالب، حديث رقم 3852) بسنده عن أبي هريرة-رضي الله تعالى عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "رأيت جعفراً يطير في الجنَّة مع الملائكة". قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلَاّ من حديث عبد الله بن جعفر، وقد ضعَّف يحي بن معين وغيره عبد الله بن جعفر، وهو والد علي ابن المديني.
وأخرجه الحاكم (المستدرك 3/231) بسنده من طريق علي بن عبد الله بن جعفر المديني به نحوه، إلَاّ أنه قال فيه:"ملكاً يطير مع الملائكة بجناحين".
وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي في التلخيص: المديني واهٍ. وقال ابن حجر (فتح الباري 7/76) في إسناده ضعف.
وصحَّحه الألباني في ثلاثة مواضع (الأحاديث الصحيحة 1226، ومشكاة المصابيح 6153، وصحيح سنن الترمذي 2963) .
قلت: والصحيح أنه ضعيف لضعف عبد الله بن المديني، كما ذكر الذهبي، وابن حجر. والله تعالى أعلم.
ز- وأخرج الطبراني (المعجم 2/107) ، والحاكم (المستدرك 3/231) بسنديهما من طريق زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت البارحة الجنَّة فرأيت فيها جعفراً يطير مع الملائكة". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقال مصطفى عبد القادر عطا (حاشية المستدرك 3/231) حذفه الذهبي من التلخيص لضعف سلمة بن وهرام. قال أحمد: روى مناكير أخشى أن يكون ضعيفاً. وقال أبو داود: ضعيف.
...................................................................................................
قلت: ولكنَّ ابن حجر (التقريب 248) قال عنه: صدوق، وقال في التهذيب 2/384: وثَّقه أبو زرعة، وابن معين. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس برويايات الأحاديث التي يرويها عنه غير زمعة. انتهى.
ولكن في إسناده زمعة ابن صالح، قال عنه ابن حجر (التقريب 217) : ضعيف، وحديثه عند مسلم مقرون.
ح -وأخرج ابن عساكر: تاريخ دمشق (عبد الله بن جابر - عبد الله بن زيد ص 27) بسنده من طريق عمر بن هارون البلخي، عن عبد الملك بن عيسى الثقفي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:"لَمَّا جاء نعي جعفر بن أبي طالب دخل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس، فوضع عبد الله ومحمَّداً ابني جعفر على فخذه، ثُمَّ قال: "إنَّ جبريل أخبرني أنَّ الله عز وجل استشهد جعفراً، وإنَّ له جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنَّة
…
".
وأخرجه الطبراني كما ذكر الهيثمي (المجمع 9/373) وقال عنه: فيه عمر بن هارون، وهو ضعيف، وقد وُثِّق، وبقية رجاله ثقات.
قلت: عمر بن هارون قال عنه ابن حجر (تقريب 417) : متروك.
ط -وقال السيوطي (الخصائص 74) : أخرج الدارقطني في غرائب مالك عن ابن عمر قال: "كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال الناس: يا رسول الله ما هذا؟ قال: مرَّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأٍ من الملائكة فسلَّم عليَّ". قال عنه ابن حجر (الإصابة 1/238) : ضعيف.
ي -وأخرج ابن سعد (الطبقات4/39) بسنده عن إسماعيل بن أبي خالد، عن رجلٍ، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لقد رأيته في الجنَّة - يعني جعفراً - له جناحان مضرجان بالدماء مصبوغُ القوادم ".قلت: سنده ضعيف لجهالة الراوي عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولانقطاع السند إسماعيل بن أبي خالد من الرابعة. والله تعالى أعلم.
ك -وأخرج ابن سعد أيضاً (الطبقات 4/39) من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ لجعفر بن أبي طالب جناحين يطير بهما في الجنَّة مع الملائكة".
قلت: سنده ضعيف، حسين بن عبد الله بن ضميرة، كذَّبه مالك وغيره، ولجهالة أبيه. والله تعالى أعلم.
ل -كما أخرج الطبري (التاريخ 3/41) بسنده من طريق ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر قال: لَمَّا أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاب جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد مرَّ جعفر البارحة في نفرٍ من الملائكة له جناحان مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة أرضاً باليمن".
قلت: سنده ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، ولإرساله، عبد الله بن أبي بكر، من الخامسة، كما أنَّ في متنه نكارة. والله تعالى أعلم.
الطيَّار في الجنَّة"1.
1 أخرجه الحاكم (المستدرك 3/232) من حديث سعدان بن الوليد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، وسكت عنه.
وأخرجه الطبراني في الأوسط، كما ذكر (الهيثمي: مجمع 9/273) وقال الهيثمي: وفيه سعدان بن الوليد لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
قلت: قال عنه ابن حجر (فتح 7/76) : إسناده جيِّد. انتهى. أمَّا سعدان بن الوليد، فهو سعيد بن يحي، ولقبه سعدان، كما تبيَّن في رواية الحاكم الثانية للخبر (3/234-235) وهو صدوق، له حديث واحد عند البخاري (تقريب 242) ، وبذلك يستقيم قول ابن حجر في إسناده. والله تعالى أعلم.
كما أخرجه الطبراني، كما في (المجمع) وقال عنه الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما حسن.
"ويكون أوَّل من حاز على لقب طيَّار في التاريخ الإسلامي، ويتفرَّد به دون النَّاس أجمعين"1. ولكنَّه في ذات الوقت ليس طيَّاراً عادياً، أو حتى رائد فضاء، بل طيَّاراً في الجنَّة مع الملائكة المقرَّبين، يطير مع جبريل، وميكائيل، وقد ميَّزه الله سبحانه وتعالى عن الملائكة بأن جعل جناحيه مضرجين، مخضوبةً قوادمه بالدماء2. وذلك علامة على أنَّهما وسام شرف علوي مُنِحَ له مكان يديه اللتين ضحَّى بهما بإصرارٍ في سبيل الله تعالى، وهو يقاوم بقوة وعنادٍ عجيبين ألَاّ تسقط راية رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً.
نعم! سقط القائد الشاب شهيداً، وفي جسده بضعٌ وتسعون ما بين طعنة ورمية، منها:
[54]
"خمسون بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره، يعني في ظهره"3.
وفي ذلك "بيان فرط شجاعته وإقدامه"4.
1 منير غضبان (فقه السيرة 548) .
2 سبق تخريجه برقم [53] . انظر الحديث رقم (ج) .
3 أخرجه البخاري (الصحيح 5/86) .
4 ابن حجر (فتح 7/512) .
فلمَّا قُتِلَ جعفر، أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثُمَّ تقدَّم بها، وهو على فرسه، وكان لمقتل صاحبيه الواحد تلو الآخر على ذلك النحو المؤثِّر، أثره في نفسه، فيذكر ابن إسحاق بسندٍ حسنٍ عن شاهد عيان من بني مرة، أنه:
[55]
"جعل يستنْزل نفسه ويتردَّد، بعض التردُّد، ويرتجز:
أقسمت يا نفس لتنزلنَّه
…
لتنزلن أو لتكرهنَّه
إن أجلب الناس وشدُّوا الرنَّة1
…
مالي أراك تكرهين الجنَّة
قد طال ما كنت مطمئنة
…
هل أنت إلَاّ نطفة في شنَّة2
وقال أيضاً:
يا نفس إلَاّ تُقْتَلي تموتي
…
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيتِ فقد أُعْطِيتِ
…
إنْ تفعلي فعلهما هُدِيتِ
يريد صاحبيه زيداً، وجعفراً، ثُمَّ نزل، فلمَّا نزل أتاه ابن عم له بعرق3 من لحم، فقال: شُدَّ بهذا صُلبك، فإنَّك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثُمَّ انتهس منه نهسة4، ثُمَّ سمع الحطمة5 في
1 أجلب الناس: يُقَال: أجلب القوم إذا صاحوا واجتمعوا. والرَّنة: صوت فيه ترجيع شبه البكاء.
2 النطفة: الماء القليل الصافي. والشَّنة: القربة القديمة.
3 العرق: العظم الذي عليه بعض لحم.
4 انتهس: أي أخذ منه بفمه يسيراً.
5 الحطمة: الكسرة. والمراد بها هنا اشتداد القتال بين الطرفين.
ناحية النَّاس، فقال: وأنت في الدُّنيا! ثُمَّ ألقاه من يده، ثُمَّ أخذ سيفه، فتقدَّم، فقاتل حتَّى"1.
[56]
"طُعِنَ، فاستقبل الدم بيده، فدلك به وجهه، ثُمَّ صُرِعَ بين الصَّفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذُبُّوا2 عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتَّى يحوزوه3، فلم يزالوا كذلك حتَّى مات مكانه"4.
وينفي بعض المعاصرين رواية تردُّد عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، كونها تتعارض مع موقفه قبل ذلك من تشجيعه للمسلمين لملاقاة الروم، وتحرُّقه للشهادة في سبيل الله5.
بينما يربط بعضهم هذا الموقف بما عُرِفَ من تقلبات نفسية الشُّعراء وحساسيتهم6.
1 سبق تخريجه برقم [51] .
2 الذَّبُّ: الدفع، والمنع. (القاموس: ذَبَّ) .
3 الحوز: الجمع وضم الشيء، كالحيازة والاحتياز. (القاموس: الحوز) .
4 أخرجه ابن عساكر: تاريخ (عبد الله بن جابر، عبد الله بن زيد ص 357) من طريق أبي إسحاق الفزاري بسنده عن مصعب بن شيبة.
وكذلك ذكره الذهبي (تاريخ الإسلام، قسم المغازي 497-498) ، وابن الأثير (أُسْد الغابة 3/238) تعليقاً عن مصعب.
قلت: وهو منقطع، مصعب بن شيبة العبدري لم يدرك الوقعة.
5 انظر: (الدويدار: صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم 521-523) .
6 انظر: (عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 297) .
بينما ما حدث من عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - لا يعدو كونه أمراً طبعياً، وموقفاً من مواقف ضعف النفس البشرية يعتريها أوقات الشدة والأزمات، وهو بالتالي لا يُدلِّل على خَوَرِ عبد الله رضي الله تعالى عنه وجُبْنَه، كما يفهمه البعض من ظاهر الرواية، فذلك أمرٌ مفروغٌ منه، فعبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - مشهودٌ له بالشجاعة، والجرأة، ورباطة الجأش، وليس اختيار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو الخبير في أصحابه - له قائداً من قوَّاد هذه الموقعة العظيمة التي كانت في عمق الأراضي الخاضعة لنفوذ الدولة البيزنطية، وبعيداً عن قاعدة المسلمين، وانتدابه له سابقاً في أقوى سراياه وبعوثه، وأصعبها مهمّة وجُرأة، وهي سرايا المغاوير، إلَاّ دليلاً من الأدلة القاطعة على ذلك.
والصحابة - رضي الله تعالى عنهم، وإن كانوا مشهورين بالشجاعة والجرأة وحُب الموت في سبيل الله تعالى، فهم في النهاية ليسوا ملائكة، بل بشر يعتريهم الخوف والضَّعْف في مواطنهما، بل ربَّما مغادرة ميدان المعركة، كما حدث من بعضهم في بعض المواقع، وقد سوَّغ لهم الشرع التحيُّز إلى فئة، وعدم الاستقتال.
إنَّ ما حدث من عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - أمرٌ طبعي يمكن أن يحدث لكُلِّ إنسان في مثل تلك الظروف الصعبة والمواقف المحرجة.
ولكن معالجة الموقف بمثل تلك القوة، والشجاعة، ورباطة الجأش، لا تحدث من كُلِّ إنسان، فما قام به عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، لا يقوم به إلَاّ رجال أبطال مؤمنون أمثاله، ولو كان غير ذلك لأطلَقَ لنفسه العنان، ولما استطاع مصابرتها والتغلُّب على فلتاتها.
وكان يمكن أن يمر ذلك الموقف دون أن يحس به أحد من الناس، ولكنَّ رجلاً شجاعاً، شاعراً، مؤمناً، مرهف الحسّ، صادقاً مع نفسه، كعبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، لا يمكن أن يدعه يمر عليه هكذا بسهولة، دون أن يُصَوِّر أحاسيسه تجاهه تصويراً صادقاً قوياً، ويُعَبِّر عن خلجات نفسه نحوه تعبيراً دقيقاً رائعاً بصوتٍ عالٍ مرتفعٍ، استطاع معه شهود العيان، ومِن ثَمَّ الرواة تسجيله بمدادِ العزَّةِ والكرامة، لتتطلَّع عليه الأجيال الإسلامية تلو الأجيال، فتعتبر، ولعلَّه أراد ذلك فعلاً، وبالإضافة إلى ما ذكرناه، فإنَّ سند الرواية التي نقلت الخبر، ساقه ابن إسحاق بطريق حسن إلى شاهد عيان1، شارك في المعركة، وقد يعتضد بالمتابعات إلى درجةٍ أعلى، كما أنه لم يصح حديث السرير الذي ذكره ابن إسحاق بلاغاً بلا سند
[57]
وذُكِرَ فيه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنَّ منْزلة عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - دون منْزلة صاحبيه في الجنَّة نتيجة تردُّده"2.
1 سبق تخريجها برقم [55] .
2 أخرجه الهيثمي (مجمع 6/159-160) وعزاه للطبراني من حديث ابن إسحاق، وقال عنه: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
قلت: أُدْخِل هذا الحديث في حديث عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، الذي رواه عن أبيه الذي أرضعه من بني مرّة. والدليل على ذلك أنَّ ابن إسحاق روى هذا الحديث بلاغاً، ووقع ذلك في السيرة عند ابن هشام (4/380) ، وعند البيهقي (دلائل 2/368)،وعند ابن عساكر: تاريخ (عبد الله بن جابر، عبد الله بن زيد ص 349) .
وقد حكم عليه ابن كثير رحمه الله تعالى بالانقطاع، وعارضه بحديثٍ الصحيح1.
[58]
كما أنَّ الأحاديث الأُخرى المماثلة، جاءت من طُرُق واهية لا يُعْتَدُّ بها2.
1 ابن كثير (البداية 4/245) .
2 أخرج عبد الرزَّاق (المصنَّف 5/266) عن ابن عيينة، عن ابن جدعان، عن ابن المسيب قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مثّلوا لي في الجنَّة في خيمة من دُرّ، كُلّ واحد منهم على سرير، فرأيت زيداً، وابن رواحة في أعناقهما صدوداً، وأمَّا جعفر فمستقيم ليس فيه صدود
…
الخ".
قلت: سنده ضعيف آفته ابن جدعان علي بن زيد التيمي، ضعَّفوه. وذكر ابن أبي حاتم، والعجلي أنه يتشيَّع. وقال ابن عدي: كان يغالي في التشيُّع. وذكر حمَّاد بن زيد أنه كان يقلب الحديث.
قلت: وهذه الرواية التي ذكرها تفوح منها رائحة التشيُّع بقوَّة. والله تعالى أعلم.
كما أخرج الطبراني (معجم 19/167-168) من طريق ثابت بن دينار، عن أبي اليسر، حديث أبي عامر الأشعري الذي ذكر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"دخلت الجنَّة فرأيت جعفراً ذا جناحين مضرجين بالدماء، وزيد مقابله، وابن رواحة معهما، كأنه يعرض عنهما، وسأخبركم عن ذلك، إنَّ جعفراً حين تقدَّم فرأى القتل لم يصرف وجهه، وزيد كذلك، وابن رواحة صرف وجهه".
قال الهيثمي (مجمع 6/161) : فيه ثابت بن دينار، أبو حمزة، وهو ضعيف. وقال عنه ابن حجر (تقريب 132) : رافضيٌّ ضعيف.
قلت: ويظهر التشيُّع في روايته بذكره حديث جعفر رضي الله تعالى عنه فقط من بين أُمراء الوقعة في بداية حديثه عنها. والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث: اشتعال المعركة بين الجيشين:
هذا وقد أشعلت الحملات والاختراقات البطولية - التي قام بها القادة الثلاثة في العمق داخل صفوف العدو رغم تفوقه العَدَدِي والعُدَدِي - أشعلت حماس المسلمين جميعاً، واشتعل القتال على طول الجبهة، وأبدى المسلمون من صنوف البطولات الجماعية، والفردية، أسوة بقوَّادهم ما أذهل الروم وحلفاءَهم.
[59]
فهذا عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - كما يذكر الأوزاعي في رواية - وفي مجلس من مجالس الأنصار في المدينة، ومعهم نفر منهم، حين نزل قول الله تبارك وتعالى:{إنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} . [سورة الصّفّ، الآية 4:] . يعاهدون الله تبارك وتعالى على الجهاد في سبيله حتى الموت، فلمَّا أخذ عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - الراية، فصاح بأولئك النَّفر الذين حضروا ذلك المجلس، فتلا عليهم الآية وقال لهم: إنَّ ما كنتم عاهدتم الله عليه قد جاء مصداقه، "اصدقوا الله يصدقكم، فجاءوا يخبُّون1 كأنَّهم
1 الخَبَب - محرَّكة - ضرب من العدو، أو كالرمل، أو أن ينقل الفرس أيامنه جميعاً، وأياسره جميعاً، أو أن يراوح بين يديه، والسرعة خب خباً وخبيباً وخبباً. (القاموس: خبب) .
بقر نُزِعَت من تحتها أولادها، فتقدَّموا بين يديه، فلمَّا شدَّ على الروم شدُّوا معه حتى شُدِخُوا1 جميعاً"2.
وهذا عوف بن مالك الأشجعي3 - رضي الله تعالى عنه -، أحد شهود العيان والمشاركين في مؤتة، يُحَدّثنا عن إحدى تلك البطولات، فيقول:
1 الشدخ: الكسر في كل شيء رطب أو يابس، وقيل: هو التهشيم. وقال الليث: الشدخ كسرك الشيء الأجوف، كالرأس ونحوه. وفي الحديث: فشدخوه بالحجارة. (اللسان، والقاموس: شدخ) .
2 أخرجه ابن عساكر: تاريخ (عبد الله بن جابر - عبد الله بن زيد ص 351-352) من حديث ابن عائذ بسندٍ صحيحٍ عن الأوزاعي، لكنَّه منقطع، الأوزاعي من السابعة، والمجلس الذي ورد ذكره في الحديث أخرجه ابن عساكر (تاريخ 5/314- 315) من طريق ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون} إلى قوله تعالى: {صَفّاً كَأَنهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 2-4] ، نزلت في نفرٍ من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلسِ من المجالس: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملنا به حتى نموت. قال ابن رواحة: لا أزال حبيساً في سبيل الله عز وجل حتى أموت، فَقُتِلَ شهيداً رحمه الله.
وأخرجه ابن المبارك في (الجهاد: 16) به نحوه، وسنده فيه عنعنة ابن جريج، وهو ثقة لكنَّه كان يدلِّس. كما أخرجه الطبري (تفسير 28/84) بسنده عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه، وفيه أيضاً عنعنة ابن أبي نجيح، وهو ثقة ربَّما دلَّس.
3 عوف بن مالك الأشجعي، أبو حمَّاد، ويقال: أبو عبد الرحمن. ذكر ابن حجر في التقريب أنه من مسلمة الفتح.
قلت: وأظنه سبق قلم منه رحمه الله، حيث ذكر في الإصابة والتهذيب عن الواقدي أنه شهد خيبر، أو كأنَّ ابن حجر لم يأخذ بقول الواقدي لضعفه، ولكن يشهد له هذا الحديث الصحيح كما جزم بذلك أبو عمر، وكانت معه راية أشجع يوم الفتح وسكن الشام وعمَّر، ومات في خلافة عبد الملك بن مروان سنة ثلاثٍ وسبعين.
انظر: (ابن سعد: طبقات 4/280-281، ابن عبد البر: الاستيعاب هامش الإصابة 3/131، ابن حجر: إصابة 3/43، تهذيب 4/424، تقريب 433) .
[60]
"خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مدَدِّيُّ1 من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجلٌ من المسلمين جزوراً2، فسأله المدَدِّيُّ طائفة من جلده3، فأعطاه إيَّاه، فاتَّخذه كهيئة الدرق4، ومضينا، فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب، فجعل الرومي يفري5 بالمسلمين، فقعد له المدَدِّيُّ خلف صخرة، فمرَّ به الرومي فعرقب فرسه6، فخرَّ7 وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه"8.
1 أي: من أمداد اليمن، وقد سبق التعريف بهم.
2 الجزور: البعير، أو الناقة المجزورة، أي المنحورة.
3 طائفة من جلده: أي قطعة من جلده.
4 الدرق: ضرب من الترسة، الواحدة: درقة، تُتَّخذ من الجلود.
5 كناية عن المبالغة في القتل.
6 عرقب فرسه: أي قطع عرقوبه، وهو عصب غليظ في رجل الدَّابة بمنْزلة الركبة في يدها.
7 خرَّ: أي سقط من علو.
8 أخرجه مسلم (الصحيح 4/24) ، وأبو داود (سنن 3/163) وهذا لفظه. وأحمد (المسند، حديث رقم: 239960) . كلّهم من حديث الوليد بن مسلم، حدَّني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك رضي الله عنه. كما أخرجه ابن حبان (انظر: الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان حديث 4822) به نحوه. إلَاّ أنه قال فيه: "إنَّ مَدَدِيّاً في غزوة تبوك رافقهم
…
" فذكر باقي الحديث نحوه.
قلت: قوله: "في غزوة تبوك" وهم، فالثابت أنَّ ذلك كان في غزوة مؤتة كما مرَّ. والله تعالى أعلم.
[61]
ويتصدَّى عقيل بن أبي طالب1 - رضي الله تعالى عنه - لرجلٍ آخر فيقتله بعد مبارزةٍ بالسيوف2.
ولكن، ومع تلك البطولات التي أبداها المسلمون قُوَّاداً وأفراداً، إلَاّ أنه بمقتل عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، آخر قائد مُعَيَّن في المعركة، انفرط عِقد المسلمين و"صار المسلمون لا قائد لهم يحفظ نظامهم"3.
"وأصبح الموقف الآن خطيراً، ومن الممكن أن يتحوَّل بسهولة إلى ما هو أسوأ، ويؤدي إلى هزيمة تامة للمسلمين"4.
1 عقيل بن أبي طالب الهاشمي، أخو عليّ وجعفر، وكان الأسنّ. (صحابي، عالمٌ بالنّسب)، مات سنة ستّين. وقيل: بعدها. (تقريب 369) .
2 ذكره الطبراني في (المعجم الأوسط 1/265-266) من حديث جابر بن عبد الله، وقال عنه الهيثمي: فيه عبد الله بن محمَّد بن عقيل، وهو حسن الحديث، وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات.
قلت: قال عنه ابن حجر: (تقريب 321) : صدوق، في حديثه لين.
3 أبو زيد، شلبي: سيف الله خالد بن الوليد 63.
4 الجنرال أكرم: سيف الله 105.
المطلب الرابع: تولي خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - القيادة وانسحابه بالمسلمين:
ويدرك ثابت بن أقرم، أخو بني العجلان - رضي الله تعالى عنه1 - هذه الحقيقة، فيحاول تدارك الموقف، ويحتوي خطورته قبل تفاقمها، فيخطف اللواء من يد عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - قبل أن يسقط أرضاً:
[62]
"ثُمَّ سعى به حتى إذا كان أمام الناس ركزه، ثُمَّ قال: إليَّ أيها الناس فاجتمع إليه الناس"2.
[63]
"فقال: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجلٍ منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد"3 - رضي الله تعالى عنه.
1 ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي بن العجلان البلوي، حليف الأنصار، ذكره موسى ابن عقبة في البدريين، واتَّفق أهل المغازي على أنَّ ثابت بن أقرم قُتِل في عهد أبي بكر قتله طليحة بن خويلد الأسدي. (إصابة 1/190) .
2 أخرجه ابن سعد (طبقات 2/130) من حديث أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه. وسنده ضعيف. كما مرَّ في ص 272، حاشية رقم:(3) .
3 من رواية ابن إسحاق بسندٍ حسن إلى شاهد العيان من بني مرَّة. وقد سبق تخريجها برقم [55] .
"وثابت أبى القيادة، لا نُكُوصاً1 عن الموت، بل شعوراً بوجود الأكفأ منه في الجماعة، وحملانه الراية خشية أن تسقط من آيات الجرأة في هذا الموقف العصيب"2.
"ولقد كان خالد عند ظن أصحابه، لمعت عبقريته القتالية في لحظة الامتحان الخطير هذه، فجعل هدفه أن ينسحب بالمسلمين"3.
فقد "كانت المهمَّة الأساس المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبة من القتال أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدَّر الموقف واحتمالاته المختلفة قدراً دقيقاً، ودرس ظروف المعركة درساً وافياً، وتوقع نتائجها، اقتنع بأنَّ الانسحاب بأقل خسارة ممكنة هو الحل الأفضل"4.
ولأنَّ "قتال الانسحاب شاق مرهق، وبخصاصة وأنَّ خالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة"5، "لاحتمال انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، والهزيمة كارثة تؤدي إلى خسائر فادحة بالمنهزمين"6.
من أجل ذلك رأى القائد الذكي المحنَّك، أنه حتى يؤَمِّن انسحابه من ميدان المعركة بقوَّةٍ وانتظام، وبأقل خسائر، لا بدَّ أن يستخدم
1 نَكَصَ عن الأمر نُكُوصاً، ونَكْصاً ومنكصا: تكأكأ عنه وأحجم.
2 الغزالي: فقه السيرة 368.
3 خليل: دراسة في السيرة 298.
4 ياسين سويد: معارك خالد بن الوليد 171.
5 الغزالي: فقه السيرة 369.
6 خطَّاب: الرسول القائد صلى الله عليه وسلم 308.
أُسلوب (الهجوم أفضل وسيلة للدفاع) ، فبدأ في "تحقيق هدفه، بأن رسم خطَّةً سعى فيها إلى إيهام العدو أنَ المسلمين لازالوا في أماكنهم يقاتلون، فدفع مقدمتهم إلى مناوشة العدو"1. بينما تحرَّك ببقية الجيش، وأعاد تنظيم قوَّاته، وألَّف مؤخرة قوية لحماية الانسحاب من ميدان المعركة.
"لقد كان خالد قائداً ماهراً، محرِّكاً للجيوش لا نظير له، أُلْهِمَ القيادة إلهاماً، فهو يستعين في مواقفها بكُلِّ ما عرفت الحرب من فنٍّ يستخدمه على السليقة2، وعلى البصيرة الملهمة، فدار بالجيش دورةً ضمَّ بها صفوفه، ثُمَّ قاتل به في غير اندفاع، ومع ذلك في غير تراجع، وكان بذاته قدوةً للمسلمين"3.
يقول - رضي الله تعالى عنه - واصفاً قوَّة الانسحاب الذي نفَّذه مع المسلمين، وشِدَّة القتال، وضراوته في أثناء الانسحاب، نتيجة ضغط العدوِّ عليهم -:
[64]
"لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلَاّ صفيحة يمانية"4.
ولمَّا رأى المسلمون ما يصنعه خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه، ازدادت حميتهم للقتال، واشتعل حماسهم، فهاجموا بعنف على طول
1 خليل: دراسة في السيرة 299.
2 السليقة: يعني على الفطرة والطبيعة.
3 الشريف: مكة والمدينة 536.
4 أخرجه البخاري (الصحيح 5/87) .
الجبهة، فالمثل الذي ضربه خالد - رضي الله تعالى عنه - لهم قد أثار الحميَّة والشجاعة في صفوف المسلمين، وازدادت المعركة عنفاً1، لدرجة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو يصف أحداث المعركة للصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في المدينة:
[65]
"الآن حمي الوطيس "2.3.
نعم! لقد حمي وطيس المعركة بين الطرفين، حتى إنَّ المسلمين نسوا ما أصابهم بفقدان قادتهم الثلاثة في بداية المعركة:
[66]
فيندفع قطبة بن قتادة العذري، قائد ميمنة المسلمين، إلى الأمام، فيطعن مالك بن رافلة الأراشي، قائد العرب المتنصرة، حلفاء الروم في المعركة، برمحٍ مضى فيه ثُمَّ انحطم، كما وصف ذلك في شعره الذي قاله مفتخراً بقتله:
طعنت ابن رافلة بن الأراشي
…
برمحٍ مضى فيه ثُمَّ انحطم
ضربتُ على جِيدِه ضربةً
…
فمال كما مال غصن السلم4
1 الجنرال أكرم: سيف الله 106.
2 الوطيس: الضراب في الحرب، ولم يُسمع هذا الكلام من أحد قبل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو من فصيح الكلام عبَّر به عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق.
(الشامي: سبل 6/259-260) .
3 أخرجه ابن عساكر (تاريخ 5/544) من رواية ابن عائذ بسنده عن العطَّاف بن خالد وهو منقطع.
4 من رواية ابن إسحاق، وقد سبق تخريجها برقم [5] .
المبحث الثالث: شهداء المسلمين في المعركة، وقتلى العدو:
وهكذا أُسدِل الستار على تلك المعركة العظيمة، وفقد المسلمون من رجالهم بضعة عشر شهيداً، بالإضافة إلى القادة الثلاثة - رضي الله تعالى عنهم - أجمعين.
هذا وقد اختلفت المصادر في تسمية بعضهم، بينما اتَّفقت في تسمية الأغلبية منهم، وهذه تسمية مَن اتَّفق عليه أصحاب المغازي منهم: من قريش، ثُمَّ من بني هاشم: جعفر بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه، ثُمَّ زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
ومن بني عدي بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة - رضي الله تعالى عنه.
ومن بني عامر بن لؤي، ثُمَّ من بني مالك بن حسيل: وهب بن سعد بن أبي السرح - رضي الله تعالى عنه.
ومن الأنصار، ثُمَّ من بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، وعباد بن قيس - رضي الله تعالى عنه.
ومن بني مازن بن النجار: سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء - رضي الله تعالى عنه.
ومن بني غنم بن مالك بن النجار: الحارث بن النعمان بن أسامة بن نضلة بن عبد عوف - رضي الله تعالى عنه 1.
1 ذكر ذلك كُلٌّ من: ابن إسحاق (ابن هشام: سيرة4/388) ،والواقدي (مغازي2/769)، وموسى بن عقبة (ابن عساكر: تاريخ، السيرة النبوية، المجلدة الأولى، ص 392) .
هؤلاء هم الذين اتفق عليهم أهل المغازي، أمَّا المختلف فيهم فهم كالتالي:
زاد ابن هشام، نقلاً عن ابن شهاب الزهري: أبا كليب، أو كلاب، وأخاه جابر، ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول، وهما لأب وأم. وهما من بني مازن بن النجار.
ومن بني مالك بن أفصى: عمرو، وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعيد بن عامر بن ثعلبة1.
وزاد موسى بن عقبة2، وابن سعد3، وابن الكلبي4، والزبير بن بكار5: هبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي6.
1 ابن هشام (سيرة 4/389) .
2 أخرجه ابن عساكر (تاريخ، السيرة النبوية، المجلدة الأولى ص 392) .
3 ذكره الشامي (سبل 6/245) نقلاً عنه.
4 ذكره الشامي (سبل 6/245) وعزاه إليه.
5 ذكره الشامي (سبل 6/245) نقلاً عنه.
6 قال الشامي (سبل 6/245) : وقال عروة، وابن شهاب الزهري، وابن إسحاق، وابن سعد: استشهد بأجنادين. وقال سيف بن عمر: استشهد باليرموك.
وقال ابن عبد البر (الاستيعاب، هامش الإصابة 3/609) قيل: "إنه قُتِلَ يوم مؤتة، وقال الحسن بن عثمان: وقال الواقدي أيضاً: إنه استشهد يوم أجنادين، وهو عندي أشبه، لأنه لم يذكره ابن عقبة فيمن قُتلَ يوم مؤتة".
قلت: ولكن في الرواية التي أخرجها ابن عساكر عن موسى بن عقبة، ذكره فيمن استشهد بمؤتة، فليتأمل ذلك. والله تعالى أعلم.
وزاد موسى بن عقبة أيضاً: عبد الله بن الربيع الأنصاري. ومن بني رزيق: معاذ بن ماعص. وقال الشامي: ووقع في نسخة من مغازي موسى بن عقبة: أنَّ الذي استشهد بمؤتة، أخاه عبَّاد1.
وزاد ابن سعد، والعدوي، وابن جرير الطبري2: زيد بن عبيد بن المعلَّى الأنصاري3.
[80]
وزاد ابن إسحاق، كما في الإصابة، وجزم به في الزَّهر4: عبد الله بن سعيد بن العاص بن أُمية5.
[81]
وزاد البلاذري، والكلبي: الهوبجة بن بجير بن عامر بن سفيان بن أُسيد بن زائدة بن حصين، الضبِّي6.
"أمَّا العدو فلا توجد معلومات عن مقدار خسارته، ولكنَّها لا شكَّ كانت جسيمة، لأنَّ كُلَّ قائدٍ من قادة المسلمين الذين تولَّوا القيادة
1 هذه النسخة هي التي نقل منها ابن عساكر.
2 ذكره الطبري في كتاب الصحابة له، وهو مفقود.
3 ذكر ذلك عنهم الشامي (سبل 6/244) .
4 قال مغلطاي "الزهر الباسم: الجزء الثاني والعشرين، ص 27) : قيل: إنَّ اسمه كان قبل الإسلام الحكم، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أسلم: عبد الله".
وانظر: مصعب الزبيري: نسب قريش 174.
5 انظر: (ابن حجر: إصابة 1/344، 2/319، ومغلطاي: الزهر الباسم، الجزء الثاني والعشرين، ص 27) .
6 انظر: (البلاذري: أنساب: اللوحة2/414/ أ، والكلبي: جمهرة النسب 296) وفيه: فيقال إنَّ جسده فُقِد.
المبحث الرابع: الخلاف في نتيجة المعركة:
اختلف أهل المغازي حول نتيجة مؤتة اختلافاً كبيراً، وثمرة هذا الخلاف ثلاثة أقوال:
[83]
القول الأوَّل: إنَّ المسلمين هَزموا الروم هزيمة منكرة في مؤتة.
وهذا القول أشار إليه الزهري، فيما رواه عنه الطبراني1، ونقله عنه ابن هشام بلاغاً2، وهو اختيار موسى بن عقبة3، ورواه ابن عائذ بسنده عن العطَّاف بن خالد4، ورجَّحه البيهقي5، وابن كثير6.
1 سبق تخريج رواية الزهري برقم [2] .
2 انظر: (ابن هشام: سيرة 4/383) .
3 سبق تخريج رواية موسى بن عقبة برقم [2] ، ويلاحظ على رواية موسى أنَّها مطابقة تماماً لرواية الزهري، مِمَّا يُعْطِي انطباعاً أنه رواها عنه. والله تعالى أعلم.
4 سبق تخريجه برقم [71] .
5 قال البيهقي (دلائل 4/375) : قد اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، منهم مَن ذهب إلى ذلك، ومنهم مَن زعم أنَّ المسلمين ظهروا على المشركين وانهزم المشركون، وحديث أنس بن مالك عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"ثُمَّ أخذها خالد ففتح عليه"، يدل على ظهوره عليهم. والله تعالى أعلم بالصواب.
6 قال ابن كثير (البداية 4/249-250) بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه: "وهذا يقتضي أنَّهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم، وقتلوا من أمرائهم، وقد تقدَّم فيما رواه البخاري أنَّ خالداً رضي الله عنه قال: اندقَّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلَاّ صفحة يمانية. وهذا يقتضي أنَّهم أثخنوا فيهم قتلاً، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلُّص منهم. هذا وحده دليلٌ مستقلٌّ، وقد ذكر ابن إسحاق: أنَّ قطبة بن قتادة العذري – وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على مالك بن زافلة، ويقال: رافلة، وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال يفتخر بذلك:
طعنت بن رافلة الأراشي
…
برمحٍ مضى فيه ثُمَّ انحطم
فذكر شعره إلى أن قال:
وسقنا نساء بني عَمِّه
…
غداة رقوقين س وق النعم
وهذا يؤيد ما نحن فيه، لأنَّ مِن عادة أمير الجيش إذا قُتِلَ أن يفرَّ أصحابه، ثُمَّ إنه صرَّح في شعره بأنَّهم سبوا من نسائهم. وهذا واضح فيما ذكرناه. والله أعلم.
84] القول الثاني: إنَّ الروم هم الذين هَزموا المسلمين.
وجزم به الواقدي1، وكاتبه ابن سعد2، وقال به طائفة من المستشرقين3، ومن تبعهم من المستغربين وغيرهم من بعض الباحثين
1 ذكر الواقدي (مغازي 2/763-764) خمس روايات تُدَلِّل على هزيمة خالد بالناس. ثُمَّ قال - مُعَلِّقاً على روايةٍ ذكرها حول اشتداد المعركة حينما أخذ خالد ابن الوليد رضي الله تعالى عنه الراية-:والأول أثبت عندنا أنَّ خالداً انهزم بالناس.
قلت: وهذا خلاف ما نقله عنه ابن كثير (البداية 4/249) من أنه اختار الرأي الأوَّل. والله تعالى أعلم.
2 قال ابن سعد (الطبقات 2/129) في روايته: "فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فأخذ اللواء، وانكشف الناس، فكانت الهزيمة".
3 انظر مثلاً ما قاله (لانكستر هاردنج: آثار الأردن 133، وجان جلوب: الفتوحات العربية 136) . وانظر:
East Of The Jordan، By: Fr.Eng - Enehoade، Page: 185
[المعاصرين1.
[85]
القول الثالث: انسحاب خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه بالمسلمين - بعد تولِّيه القيادة - من ميدان المعركة بعد قتالٍ قويّ ومرير، ثُمَّ إحجام الروم عن مهاجمة المسلمين بعد خطَّته الإيهامية الذكية بتغييره مراكز الجيش، ومِن ثَمَّ انسحاب كُلّ طرف عن الآخر دون قتال.
وهذا القول وردت به رواية حسنة إلى شاهد عيان من المعركة2، وهو اختيار محمَّد بن إسحاق3، ورواه ابن عائذ بسنده عن
1 انظر: بولس سلمان: خمسة أعوام في شرق الأردن 210، وجورجي زيدان: تاريخ التمدُّن الإسلامي 61، ومحمَّد لطفي جمعة: ثورة الإسلام 1016، وإبراهيم العدوي: الامبراطورية البيزنطية 37، وعمر فرُّوخ: تاريخ صدر الإسلام 69، ورشيد الجميلي: تاريخ العرب في الجاهلية 324 نقلاً عن الدكتور العتوم، تجربة مؤتة: 159-161.
2 من رواية عبَّاد بن عبد الله، عن أبيه من بني مرَّة، وقد سبق تخريجها برقم [51] .
3 استدلَّ ابن إسحاق على رأيه بشعر أحد شهود المعركة، وهو قيس بن المسحر اليعمري، الذي قال فيه:
وقفت بها مستجيراً فنافذاً
…
ولا مانعاً من كان حُمَّ به القتلُ
على أنَّني آسيت نفسي بخالدٍ
…
ألا خالدٌ في القومِ ليس له مثلُ
قال ابن إسحاق: فبيَّن قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره، أنَّ القوم حاجزوا وكرهوا الموت، وحقَّق انحياز خالد بمن معه. انظر (ابن هشام: سيرة 4/383) .
رجلٍ من بني سلامان1، وابن عبد البر2، وابن حزم3، وابن سَيّد النَّاس4، ورجَّحه ابن القيم5، واعتمده معظم المؤرِّخين المعاصرين. وهذا القول وسط بين القولين السابقين، وهو الراجح فيما يبدو لي لعدَّة اعتبارات، فهو قول غالبية أهل المغازي كما رأينا.
كما أنَّ القول بهزيمة المسلمين غير صحيح لثلاثة أُمور:
أولاً: الروايات في ذلك ضعيفة، فهي عن الواقدي، وتلميذه ابن سعد الذي يعدّ في غالب الظَّن ناقلاً عن شيخه، والواقدي متروك خاصّةً إذا انفرد. ورواية أبي موسى التي ذكرها ابن سعد ضعيفة أيضاً.
ثانياً: مخالفة هذه الروايات لرواية الصحيح، وقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه: ففتح الله عليهم.
ثالثاً: قلة قتلى المسلمين في المعركة، وعدم وقوع أسرى منهم في أيدي العدو، وكل ذلك يخالف ما يكون عليه المنهزم عادةً في المعركة.
أيضاً القول بهزيمة الروم وحلفائهم في المعركة، غير صحيح، لثلاثة أسباب:
1 سبق تخريجه برقم [4] .
2 الدرر 223.
3 جوامع السيرة 222.
4 عيون الأثر 2/201.
5 قال ابن القيم (زاد 2/156) : والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أنَّ كُلَّ فئة انحازت عن الأُخرى.
أولاً: لو أنَّ المسلمين هَزموا الروم وحلفاءهم في مؤتة، لاشتهر ذلك، وذاع صيته، ولتواتر تواتراً يُؤمن بجانبه الكذب، وبخاصّةً أنَّ أوَّل مواجهة قتالية بين المسلمين والروم كما كانت بدر أوَّل مواجهة قتالية بين المسلمين والمشركين، وقد تواترت نتيجتها، وذاع صيتها، وبلغ صداها أرجاء الجزيرة العربية.
ثانياً: وقوع عدد كبير من الأسرى في أيدي المسلمين، وذلك ما لم تذكره الروايات.
ثالثاً: طرد الروم وحلفائهم من المناطق التي كانت خاضعة لسلطانهم في منطقة مؤتة، وما حولها، وإخضاعها لنفوذ المسلمين، وذلك لم يحدث، حيث استمر الروم وحلفاؤهم في المنطقة يُشَكِّلون تهديداً للمسلمين، بدليل بَعْث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سرايا وبُعُوث إلى تلك المنطقة بعد مؤتة، ثُمَّ مسيره صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس جيش العُسْرة إلى تبوك.
إذاً القول الراجح: هو أنَّ سيف الله المسلول، خالد بن الوليد رضي الله عنه قام "بعملية انسحاب بارعة دلَّت على مهارته الحربية الفائقة"1.
ولقد "كانت عملية التراجع والانسحاب التي قام بها خالد بن الوليد في أثناء معركة مؤتة من أكثر العمليات في التاريخ العسكري مهارةً ونجاحاً"2.
1 با شميل: غزوة مؤتة 261.
2 ياسين سويد: معارك خالد بن الوليد 171.
"ومثل هذا التدبير من خالد، ليس بالعمل الميسور الذي يستطيعه كُلّ قائد، بل هو عمل عظيم جسيم يتطلَّب مهارةً وحزماً، ورباطة جأش، وثقةً بنصر الله، وكثيراً ما عرف التاريخ قُوَّاداً عِظاماً كان السر في شهرتهم إنجاء جيوشهم من مثل هذا الموقف الحرج الذي لو اختلَّ أقل تدبير فيه لفني الجيش"1، ولكن خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - كان له قصب السِّبْق في ذلك، فعلى الرغم من ضغط القوَّات المتحالفة على المسلمين بشدَّة، وكثرة كاثرة، استطاع ذلك البطل أن ينظم انسحاباً قوياً ناجحاً دون أدنى خسائر تُذْكَر، مع الإثخان في العدو، وهو أمر يخالف ما جرت به العادة من أنَّ المنسحِب هو الذي في الغالب يتكبَّد الخسائر، فلمَّا صار العكس وأفلت خالد - رضي الله تعالى عنه - بجيشه من قبضة العدوّ رغم تشديدهم الضغط عليهم، اعتبره المصطفى صلى الله عليه وسلم فتحاً، بل نصراً مؤزَّراً، استحق عليه اللقب الذي قلَّده إياه القائد الأعلى للقوَّات الإسلامية، وهو الذي شاهد أحداث المعركة عِياناً بواسطة النقل الإلهي.
"ولقد عرف له الرسولُ صلى الله عليه وسلم حسن تدبيره"2، "ونجاحه في الانسحاب بجيشه بانتظام دونما خسارة تذكر"3، "فلقَّبه سيف الله وهو وسام لم يمنحه أحَد من الصحابة"4، "بل هو أوَّل وسام يمنح لقائد في
1 أبو زيد شلبي: خالد بن الوليد 64.
2 أبو زيد شلبي: خالد بن الوليد 64.
3 با شميل: غزوة مؤتة 261.
4 أبو زيد شلبي: خالد بن الوليد 64.
تاريخ الإسلام"1، بل في التاريخ البشري عامة، "ولعلَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم كان أسبق من غيره، في تقدير القوَّاد العِظام"2. "ولعمري مهما أجاد الإنسان في وصفه ومدحه، فلن يصفه بأحسن ولا بأوفى مِمَّا وصفه به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "3.
لقد "مضى خالد بلقب سيف الله في مؤتة، والذين يدَّعون ذلك كثيرون، أمَّا الذي يملك الشهادة من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحده في الدُّنيا هو خالد بن الوليد"4. أخرج الحاكم، وصحَّحه، عن الشعبي، عن عبد الله بن أبي أوفى: "أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تُؤذوا خالداً، فإنه سيفٌ من سيوفِ الله صبَّه على الكُفَّار"5.
"إنَّ الجماعة المسلمة بحاجةٍ أنْ تُفْقَه معادن الرجال، وتضع الرجال في مواضعهم وهي تخوض معركتها مع العدوّ"6.
1 با شميل: غزوة مؤتة 261.
2 أبو زيد شلبي: خالد بن الوليد 64.
3 المصدر السابق.
4 منير غضبان: فقه السيرة 546.
5 المستدرك 3/338.
6 منير غضبان: فقه السيرة 546.
المبحث الخامس: ردة فعل أهل المدينة لنتيجة المعركة:
"لقد صمد المسلمون في معركة مؤتة صموداً هو أروع ما يصنع الإيمان الصادق، وقد دفع المسلمون الثمن غالياً دونما شك، تمثَّل هذا الثمن الغالي بصورةٍ رئيسية في مصرع قادة الجيش الرئيسيين الثلاثة، الواحد بعد الآخر، وبأُسلوبٍ تمثَّلت فيه أرقى معاني البطولة، واسترخاص الأرواح في سبيل الله"1.
وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصف بطولتهم، واسترخاصهم أرواحهم في سبيل الله، ومدى غبطتهم وسرورهم بمصيرهم بما "رأوا من فضل الشهادة"2 بقوله:
[86]
"وما يسرهم أنَّهم عندنا"3.
"إنَّ روعة المقاومة الإسلامية في معركة مؤتة التاريخية، والتي يسرت للمسلمين انسحاباً منظَّماً مشرفاً بعد ذلك الصدام الهائل، انسحاباً يمثِّل في واقعه أعلى درجات الانتصار بالنسبة لظروف المعركة الصعبة"4.
وتكفينا هنا شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصف ذلك الانسحاب القوي بالفتح والدلالة التي تعلو على الريب في هذه المعركة.
1 با شميل: غزوة مؤتة 286-287.
2 ابن حجر: فتح 7/513.
3 أخرجه البخاري. (انظر: فتح الباري 6/180) .
4 با شميل: غزوة مؤتة 288.
إنَّ شجاعة المسلمين وبسالتهم بلغتا حداً كبيراً، وقد أكسبهم هذا الروح العالي إقداماً حقَّر أمامهم كبرياء الأُمم التي عاشت مع التاريخ دهراً تصول وتجول لا يوقفها شيء1.
"إنَّ الاستهتار بالخطر، والطيران إلى الموت ليس فروسية احتكرها الرجال المقاتلون وحدهم، بل هي قوَّة غامرة قاهرة تعدَّت الرجال إلى الأطفال، فأصبحت الأمة كلها أُمة كفاح غالٍ عزيز، وحسبك أنَّ جيش مؤتة لَمَّا عاد إلى المدينة قابله الصبيان بصيحات الاستنكار، يقولون: يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله؟! إنَّ أولئك الصِّغار الأغرار يرون انسحاب خالد ومَن معه فِراراً يُقابل بحثو التراب.
أي جيل قوي نابه هذا الجيل الذي صنعه الإيمان بالحق؟!.. أي نجاح بلغته رسالة الإسلام في صياغة أولئك الأطفال العظام؟!.. مَن آباؤهم؟!.. مَن أُمَّهاتهم؟!.. كيف كان الآباء يُرَبُّون؟!.. وكيف كانت الأمَّهات يُدَلِّلْن؟!.. إنَّ مسلمة اليوم بحاجة ماسّة إلى أن تعرف هذه الدروس"2.
"وحين ترتفع الوتيرة الإيمانية لدى الفتيان الناشئين في الجيل الإسلامي إلى هذا المستوى، فلا شك أنَّ هذا التغيير هو الكفيل بتغيير حال المسلمين {إنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم} ، [سورة الرعد: الآية: 11] "3.
1 الغزالي: فقه السيرة 369.
2 المصدر السابق.
3 منير غضبان: فقه السيرة 548.
وتعيير أهل مؤتة بالفُرَّار لم يكن من الصبيان وحدهم، بل تعدَّاهم
إلى بقية النَّاس مِمَّن لم يخرج، وبقي في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد "استنكر المسلمون على الجيش أن يعود من غير أن ينتصر، وعيَّروا رجاله حتى أحرجوا بعضهم"1.
أخرج الحاكم بسندٍ صحيحٍ عن أُمِّ سلمة - رضي الله تعالى عنها -:
[87]
" أنَّها قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصَّلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع المسلمين؟ قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كُلَّما خرج صاح به النَّاس: يا فُرَّار، أفررتم في سبيل الله عز وجل! حتَّى قعد في بيته فما يخرج، وكان في غزوة مؤتة مع خالد بن الوليد"2.
وفي اللحظة المناسبة، يتدخَّل القائدُ البصيرُ المُحَنَّك الذي يدرك معنى النَّصر الحقيقي، ويدرك ظروف وملابسات معركة مؤتة، وما أبداه المسلمون فيها من بسالةٍ، وبطولاتٍ حقيقيةٍ أذهلت أعداءهم.
1 الشريف: مكة والمدينة 537.
2 أخرجه الحاكم (المستدرك 3/45) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم
ولم يخرِّجاه. ووافقه الذهبي.
وذكره ابن هشام (سيرة 4/382-383) من حديث ابن إسحاق بسنده، عن بعض آل الحارث بن هشام، عن أُمِّ سلمة رضي الله تعالى عنها، وسنده فيه مبهم.
وقد وضَّح الواقدي (مغازي 2/765) في روايته ذلك المبهم، وهو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو فقيه، ثقة، يروي عن أُمِّ سلمة. (تقريب 623) .
ويدرك ما قام به خالد والمسلمون من تنظيم انسحابٍ رائعٍ ومنظَّمٍ. يتدخَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوةْ ليرُدَّ عن الجيش البطل الشجاع، ويرُدَّ على تعيير أهل المدينة لهم بالفُرَّار قائلاً:
[88]
"ليسوا بالفُرَّار، ولكنَّهم الكُرَّار إن شاء الله تعالى"1.
ويأمر سلمة وغيره مِمَّن تحرَّج من تعيير المسلمين بالخروج إلى الصَّلاة دون حرج، ودون وجل، فهم أبطال كُرَّار على العدوِّ إن شاء الله تعالى، وليسوا فُرَّاراً.
وحتَّى يُرَسِّخ هذه الحقيقة في نفوس الجميع، اجتمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع الجيش وقائده البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقام عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، فقصَّ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
[89]
"قصة المددي، وما فعل خالد. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟ " قال: يا رسول الله! لقد استكثرته. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد! رُدَّ عليه ما أخذت منه". قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد، ألم أفِ لك؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: وما ذلك؟ فأخبرته. فغضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "2.
[90]
"فقال: لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أُمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجلٍ استرعى إبلاً وغنماً فرعاها ثُمَّ تحيَّن سقيها، فأوردها حوضاً فشرعت فيه، فشربت صفوه وتركت كدره، فصفْوُهُ لكم، وكَدَره عليهم"3.
1 من مرسل عروة، وقد سبق تخريجه برقم [31] .
2 من رواية عوف عند أبي داود، وقد سبق تخريجها برقم [60] .
3 من رواية عوف عند أبي داود، وقد سبق تخريجها برقم [60] .
المبحث السادس: حزن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قتلى مؤتة:
وهكذا دافع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن خالد وأصحابه، وكرَّمهم في أكثر من مناسبة، ولكنَّه مع ذلك قد وَجِدَ على مَن استشهد منهم، فكما رأينا سابقاً كيف وَصَفَ للنَّاس حادث استشهادهم، وعيناه تذرفان بأبي هو وأُمِّي، - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
كذلك تُحَدِّثنا أُم المؤمنين، أم عبد الله، عائشة - رضي الله تعالى عنها - فتقول:
[91]
"لَمَّا جاء قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فيه الحُزْن، قالت عائشة: وأنا أطَّلِع من صائر الباب - تعني مِن شِقّ الباب - فأتاه رجل، فقال: إي رسول الله! إنَّ نساء جعفر1.. وذكر بكاءهُنَّ، فأمره أن ينهاهُنَّ
…
"2.
ثُمَّ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمر أهله، فقال:
[92]
"اصنعوا لأهل جعفر طعاماً فإنَّهم قد جاءهم ما يشغلهم"3.
1 قال ابن حجر (فتح 7/514) : يُحتمل أنه يريد زوجاته، ويحتمل أن يريد من يُنسب إليه من النساء في الجملة. وهذا الثاني هو المعتمد، لأنا لا نعرف لجعفر زوجة غير أسماء بنت عميس.
2 أخرجه البخاري (الصحيح 5/87) .
3 أخرج أبو داود، (انظر: عون المعبود، حديث: 3116) .
والترمذي، (انظر: تحفة الأحوذي، حديث: 1003) .
وابن ماجه، (السنن، حديث: 1610) .
والحاكم، (المستدرك 1/527) .
والدارقطني، (2/78-79) .
والبيهقي، (السنن 4/61) .
والطبراني، (المعجم 2/108) .
جميعهم من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر.
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وذكر المنذري عن الترمذي أنه قال: "هذا حديث حسن صحيح".
قلت: ربما كان ذلك من اختلاف نسخ الترمذي. والله تعالى أعلم.
وصحّحه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصحّحه ابن السكن كما في التعليق المغني. (حاشية سنن الدارقطني 2/79) .
غَداة مَضَواْ بِالْمُؤْمِنِينَ يَقُودُهُم
…
إلى المَوْتِ مَيْمُون النَّقِيبَةِ أَزْهَرُ6
أغرٌّ كَضَوْءِ البَدْرِ مِن آلِ هَاشِمٍ
…
أَبِيٌّ إذَا سِيمَ الظَّلامَةَ مُجْسِرُ7
فَطَاعَنَ حَتَّى مَالَ غَيْرَ مُوَسَّدٍ
…
بِمُعْتَرَكٍ فِيهِ القَنَا مُتَكَسِّرُ8
فَصَارَ مَعَ المْسْتَشْهِدِينَ ثَوَابه
…
جِنَانٌ وَمُلْتَفُّ الْحَدَائِقِ أَخْضَرُ9
المبحث السادس: حزن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قتلى مؤتة
…
قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما:
[93]
"ثُمَّ أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثُمَّ قال: ائتوني ببني أخي، فجيء بنا، كأنَّا أفراخ1، فقال: ادعوا إليَّ الحلَاّق، فجيء بالحلَاّق فحلق رؤوسنا، ثُمَّ قال: أمَّا مُحَمَّدٌ فشبيه عمنا أبي طالب، وأمَّا عبد الله فشبيه خَلْقِي وخُلُقي، ثُمَّ أخذ بيدي فأشالها2، فقال: اللَّهُمَّ اخلف جعفراً في
1 أفراخ: جمع فرخ، وهو ولد الطائر.
2 أشالها: أي رفعها بيده.