الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: حشد القوات الإسلامية
المبحث الأول: عدد الجيش، وتولية القيادة
…
المبحث الأول: عدد الجيش، وتولية القيادة:
[10]
"ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس إلى مؤتة". كما يذكر الواقدي، وابن سعد1، فاستجاب له حوالي ثلاثة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، وذلك حسب:[11] ما ذكره بعض أهل المغازي2".
وهو أكبر جيش إسلامي يتم حشده حتى ذلك الوقت، فإنَّ جيش المسلمين في الحديبية، ثُمَّ في خيبر - وهما الغزوتان اللتان سبقتا مؤتة - لم يتجاوز حاجز الألفين3، مِمَّا دلَّل على نجاح صلح الحديبية عملياً، وأنَّ قوة المسلمين في تنامي وتزايد مستمر.
[12]
بل إنَّ بعض الروايات ذكرت أنه تمَّ حشد ستَّة آلاف من المهاجرين والأنصار4.
1 أخرجه الواقدي (مغازي 2/755) ،وأخرجه ابن سعد. وقد سبق تخريجه برقم [3] .
2 ذكر ذلك عروة (انظر: ابن هشام: سيرة 4/373، الطبري: تاريخ 3/36، البيهقي: دلائل 4/358) وذكره ابن سعد (طبقات 2/128) .
3 انظر: عوض الشهري: مرويات غزوة خيبر 206-208، والحكمي: مرويات غزوة الحديبية 51.
4 أخرجه ابن عساكر: تاريخ دمشق (المجلدة الأولى ص 390) عن محمَّد بن عائذ، الذي رواه بسندٍ منقطعٍ، كما أنَّ في متنه شذوذاً، فالمحفوظ عن أهل المغازي أنَّهم كانوا ثلاثة آلاف. والله تعالى أعلم.
وفي الجرف1، عسكر الجيش الإسلامي كالعادة، وكان القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصدر أوامره الشريفة بإسناد قيادة الجيش لمولاه وحبِّه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال:
[13]
"إنْ قُتِلَ زيد، فجعفر، وإن قُتِل جعفر، فعبد الله بن رواحة"2".
وفي مرسل عروة عند البيهقي:
[14]
"فإن أُصيب فليرتض المسلمون رجلاً، فليجعلوه عليهم3".
قال أبو قتادة - رضي الله تعالى عنه:
1 الجُرْف - بالضم ثُمَّ السكون - ما تجرَّفته السيول فأكلته من الأرض، وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة، به كانت أموال لعمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه، ولأهل المدينة. وقيل: سُمِّيَ الجُرْف، لأنَّ تُبّعاً مرَّ به، فقال: هذا جرف الأرض، وكان يُسَمَّى: العرض، وكان الجرف في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بمثابة معسكر للجيوش النبوية. والجُرف اليوم من أحياء المدينة الشمالية الكبيرة، يمتد من مزارع العيون شرقاً، حتَّى طريق المدينة تبوك غرباً.
(انظر: ياقوت: معجم 1/128، السمهودي: وفاء: 4/1175) .
2 أخرجه البخاري (الصحيح 1/87) .
3 أخرجه البيهقي (الدلائل 4/359) بسنده من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق حدَّثنا محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير.
قلت: سنده حسن إلى عروة، ولكنَّه مرسل، وقد تفرَّد يونس بن بكير بهذه العبارة من بين الرواة عن ابن إسحاق، وقد ذكر نحوه الواقدي (المغازي 2/756) ، وابن سعد (الطبقات 2/128) عن شيوخه.
[15]
"فوثب جعفر، فقال: " يا رسول الله! ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً، فقال:"امض فإنَّك لا تدري أي ذلك خير1".
ويبدو أنَّ بعض الصحابة رضي الله عنهم قد تكلَّم في إمرة زيد وتقديمه على غيره:
[16]
فوضَّح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة زيد - رضي الله تعالى عنه - وأحقيته بالإمارة، وأنَّه مِن أحبّ الناس إليه2،فسمعوا وأطاعوا".
ولكن يبدو أن رواة الشيعة لم يرق لهم ذلك، ولم يقتنعوا به، وأخذوا كعادتهم يتلاعبون بالروايات، يُقَدِّمون ويُؤخِّرون حسب أهوائهم، ويفاضلون بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وفق ميولهم ونزعاتهم، ويظهر ذلك جلياً هنا من خلال:
1 أخرجه أبو داود (انظر: عون المعبود، حديث 434) ، وأحمد (المسند 5/376-377) ، والنسائي (السنن الكبرى 5/96)، وابن حبان (انظر: الإحسان في ترتيب صحيح بان حبان، حديث 7008) ، والبيهقي (الدلائل 2/376) ، والطبري (التاريخ 3/40)، كلّهم من طرق عن خالد بن سمير عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة رضي الله عنه. قال الهيثمي (المجمع 6/156) :"رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير خالد بن سمير وهو ثقة".
قلت: قال الحافظ: هو صدوق يهم قليلاً. (التقريب ص 188) ، إذاً فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى.
2 انظر: البخاري (الصحيح 4/213) ، وينصُّ ابن حجر (فتح 7/87) على أنَّ ذلك كان في مؤتة.
[17]
محاولاتهم الحطّ من قدر زيد - رضي الله تعالى عنه، وتقديم جعفر رضي الله عنه باعتباره من آل البيت - حتى في سياق الوقعة1".
ومكانة زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - عظيمة في الإسلام لا تؤثر فيها تلك المحاولات الفاشلة، ويكفي في فضله ومكانته ذكر الباري عز وجل لاسمه صريحاً في القرآن، يُتْلَى في المحاريب، وبيوت الله عز وجل إلى يوم القيامة2".
كما صحَّ عن الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنهما - أنَّها قالت:
[18]
"ما بعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيشٍ قَطُّ، إلَاّ أمَّره عليهم، ولو بقي بعده لاستخلفه"3".
1 انظر حديث ثابت بن دينار (رافضي، ضعيف) عند الطبراني (معجم 19/167)، وحديث علي بن زيد التيمي (قال عنه ابن عدي: كان يغالي في التشيع) عند عبد الرَّزَّاق (مصنف 5/266) .
وانظر: اليعقوبي (تاريخ 2/54) ، وقد ضاهوا بذلك المستشرقين، إذ يقول أحدهم (إدوارد جيبون: إضمحلال الإمبراطورية 75) ، متحدِّثاً عن جيش مؤتة:"وقد بلغت دقة النظام، وشدَّة الحماس في هذا الدين الصَّاعِد، أن أنبل الزعماء عملوا دون تردُّدٍ كجنود تحت إمرة رجل كان مولى للنَّبِيِّ".
2 وذلك في الآية 37، من سورة الأحزاب.
3 أخرجه النسائي (سنن 5/52) وقال عنه ابن كثير (البداية 4/254) : إسناده جيد على شرط الشيخين، وهو غريب.
ذلك هو مبلغ تقدير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لكفاءة زيد القيادية، وثقته الكاملة به، وهو تقديرٌ عظيمٌ، وثقةٌ بالغةٌ، واعتمادٌ هائلٌ استحقَّه زيد بمزاياه القيادية أولاً وقبل كل شيء، فما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يولي ثقته الكاملة إلَاّ لمن يستحقها بجدارة، وقد لمسنا شجاعة زيد في الغزوات التي شهدها مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي سراياه التي قادها، ولمسنا شجاعته في الواجبات الأُخرى التي ألقاها على عاتقه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في استصحاب بناته وزوجته في الهجرة، في وَسَطٍ يعُجّ بالأعداء والحاقدين والموتورين من المشركين".
لقد قضى الإسلام مع ما قضى عليه من تقاليد الجاهلية، على الأنفة
من تأمير مَن لم تُقَدِّمه السن، والاستمساك بِعُرَى التَّفاضُل بالأنساب والأحساب والعشائر والقبائل".. إنَّ التَّفَاضُلَ في الإسلام يخضع للتقوى وصالح الأعمال، بالإضافة إلى الكفايات المناسبة للعمل المناسب، وقد رفعت مزايا زيد القيادية، وإيمانه الراسخ العميق إلى الإمارة1".
كما أنَّ مكانة جعفر - رضي الله تعالى عنه - وفضله لا تحتاج إلى كل ذلك التهويل، ومحاولة لَيّ النُّصوص، واختراع فضائل له لكونه من آل بيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فالعواطف الزائدة، والمحبَّة لآل البيت لا تجعلنا نعطيهم قدراً أكبر مِمَّا جعله الله تبارك وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ويكفي جعفراً رضي الله تعالى عنه فخراً ومكانةً أنه ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد قال له النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:
1 خطَّاب: القادة الشهداء في مؤتة: 60 – 64.
[19]
"أَشْبَهْت خَلْقِي وخُلُقِي"1، "وحسبه بذلك دليلاً على أنه كان على خُلُقٍ عظيم2".
ولمَّا قدم - رضي الله تعالى عنه - في جماعة من المسلمين من أرض الحبشة بأثر فتح خيبر، التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبَّل ما بين عينيه واعتنقه، وقال:
[20]
"والله ما أدري بأيهما أنا أُسَرّ!! أبقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟! "3.
[21]
وكان - رضي الله تعالى عنه - أحد السابقين الأولين، وكان أَحَد أصحاب الهجرتين4.
وقد وصفته زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها بقولها:
[22]
"ما رأيت شابّاً من العرب خيراً من جعفر"5.
وقال عنه أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه:
1 أخرجه البخاري (الصحيح 4/209) .
2 خطَّاب: القادة الشهداء 121.
3 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/35) عن الشعبي، وهو مرسل.
4 أخرجه البخاري (الصحيح 7/484-485) .
5 أخرجه ابن سعد: (الطبقات 4/41) . من حديث زكريا ابن أبي زائدة. عن العامر، وسنده رجاله ثقات، لكه منقطع.
[23]
"كان خير النَّاس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إنه إن كان ليخرج لنا العكة1 التي ليس فيها شيء فنشقّها ونلعق ما فيها"2.
وتجدرُ الإشارة أنه لأوَّل مرَّة في تاريخ غزوات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وسراياه يتم تولية أُمراء بالترتيب، "وما ولَّى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل وقعة مؤتة ولا ولَّى بعدها ثلاثة قادة أو قائدين على سرية واحدة، ولكن بُعْد نظره عليه الصلاة والسلام وتقديره لأهمية هذه السرية وخطورتها هو الذي جعله يولِّي ثلاثة قادة على سرية واحدة، مرَّة واحدة فقط في حياته العسكرية كلها"3.
وربَّما كان ذلك احتياطاً منه صلى الله عليه وسلم لما كان متوقعاً أن تحُفَّ الأخطار هذه الحملة لوجهتها البعيدة، ولعدم وقوع احتكاك سابق بمناطق تخضع لنفوذ دولة قوية كالامبراطورية البيزنطية التي كانت قبائل الشام وأطرافها موالية لها سياسياً4.
ومِنَ السَّذاجة أن يتبادر إلى الأذهان أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم مُسَبَّقاً المصير الذي كان ينتظر أعزَّ أصحابه5، فلم يُعرف عنه أبداً أنه ساق
1 العكة: زق صغير للسمن. وجمعه عكاك.
2 أخرجه البخاري (الصحيح 2/209) .
3 خطَّاب: القادة الشهداء 114-115.
4 أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيح 2/467.
5 ذكر الواقدي في روايته (مغازي 2/755-757) أنَّ يهودياً يُدْعى النعمان بن فنحص قال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يعهد لأمراء الجيش بالقيادة -: "أبا القاسم، إنْ كُنْتَ نبياً فسمَّيْتَ مَن سَمَّيت قليلاً أو كثيراً أُصيبوا جميعاً
…
" الخ. وقد تفرَّد الواقدي بهذه الرواية، والواقدي ضعيف متروك عند المحدثين، خاصّةً إذا انفرد.
أتباعه إلى حتوفهم، أو رمى بهم في عمليات ينتحرون فيها، كُلُّ ما هنالك أنَّ كثرة مشاغله منعته من قيادة الجيش بنفسه1.
وبما أنَّ الجيش لم يكن تحت قيادة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد جرت العادة أن يكون الانخراط فيه تطوعياً حسب الاستطاعة، وذلك وفق التعليمات النبوية الكريمة، درءاً منه صلى الله عليه وسلم للمشقة الحاصلة للمجاهدين وأُسَرِهِم، وإذا لم يكن الأمر نفيراً عامّاً كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالتناوب في الخروج للجهاد، فكان يقول:
[24]
"ليخرج من كُلِّ رجلين، رجل، والأجر بينهما"2.
[25]
بل كان يحُضُّ على تخلُّف البعض لرعاية أُسَر المجاهدين، وأنَّ مَن يقوم بذلك له مثل أجر المجاهد والغازي3".
وكان صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأُمِّي يعتذر عن الخروج على رأس بعض السرايا والبعوث حتى لا يشق على المسلمين".
1 عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 295.
2 أخرجه مسلم (الصحيح، حديث رقم 138، ورقم 1896) .
3 أخرج البخاري (فتح الباري 6/49) ، ومسلم (الصحيح 3/1503)، عن زيد بن خالد رضي الله تعالى عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ جَهَّزَ غازِياً في سبيل الله فقد غزا، ومَن خَلَفَ غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا".
أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال:
[26]
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشُقَّ على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي"1.
وهكذا فقد خلت قائمة الجيش من كبار الصحابة أمثال أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي عبيدة، رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم، بينما كان من المشاركين غير القادة الثلاثة: "عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو قتادة، وخالد ان الوليد، وعوف بن مالك، وجابر بن عبد الله، وثابت بن أقرم، وأبو موسى الأشعري، وواقد بن عبد الله التميمي، وأبو سلمة بن هشام، وعقيل ابن أبي طالب، وعبد الرحمن بن سمرة، ويعلى بن منية، وأبو اليسر2،
1 أخرجه مسلم (الصحيح 4/145) .
2 ترددت هذه الأسماء في الروايات التي تحدَّثت عن المعركة في المصادر المختلفة. كما ذكر ابن الأثير (أُسْد الغابة 4/331)، وابن حجر (إصابة 3/55) في ترجمة عُيَيْنة بن عائشة المري: أنه كان مِمَّن شارك في مؤتة، وذلك نقلاً عن ابن ماكولا.
وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وكان معهم بعض المسلمين من اليمن من أمداد حمير1".
ويذكر ابن سعد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهم:
[27]
"لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة2، فتجهَّز الناس، وتهيأوا للخروج".
1 أمداد حمير: قال في النهاية (4/308) : الأمداد: جمع مدد، وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمُدُّون المسلمين في الجهاد.
قلت: وربَّما كان أولئك من الذين استنفرهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم للحديبية، أولخيبر، أو كانوا من بقايا الوفود الذين قرَّروا البقاء في المدينة بجوار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حيث لم تذكر الروايات في جميع المصادر أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم استنفر القبائل لغزوة مؤتة. والله تعالى أعلم.
2 سبق تخريجه برقم [3] .