الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثّاني: الدروس المستفادة:
الوصايا التي تزود بها جيش مؤتة:
لقد كانت التوصيات التي تزوّد بها جيش مؤتة من القائد الأعلى للقوات الإسلامية صلى الله عليه وسلم تُعَدُّ من أعظم وأرقى قوانين حرب الفروسية المشرفة على مدى التاريخ الإنساني قاطبةً، فلَمْ ولن تعرف أُمّة من الأُمَم السابقة واللاحقة مثل تلك الآداب الحربية التي كان المسلمون يطبّقونها في حروبهم ضدّ أعدائهم، والتي تُعدّ بحقّ وثيقة فعلية تطبيقية لحقوق الإنسان على أرض الواقع، لا على واقع الحبر والورق، وأرفف المنظّمات والهيئات، لقد كان الجندي المسلم يسير بانضباطٍ عجيبٍ، مطَبِّقاً الأوامر والتعليمات الصادرة إليه من رؤوسائه بصورةٍ تلقائية عفوية، لأنّه يعتبر ذلك جزءٌ حيويٌّ من دينه الذي يسعى ويحرص كُلِّ الحرص على تقديم الصورة الصحيحة عنه".
وهكذا كان كُلّ جندي من جنود الإسلام الأوائل عبارة عن قدوة صالحة تمثّل الإسلام أصدق تمثيل في كُلّ مكانٍ حلّ به.
"لقد أدهشت النتائج السريعة الإيجابية لحركة الفتوح الإسلامية جميع المحلّلين على اختلاف مشاربهم ودياناتهم، ولكن المُحَلِّل المُنْصِف ستزول دهشته حتماً عندما يقرأ تلك التعاليم والوصايا النبوية لقوَّاد وجنود السرايا والبعوث، والتي هي نواة حركة الفتوح الإسلامية، وأصبح الذين شاركوا بالأمس في السرايا والبعوث مشاركين اليوم على رأس تلك الجيوش الفاتحة، مقتدين نفس النهج، سائرين على نفس الطريق الذي رسمه
لهم قائد الأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى تلك الأوامر والتعاليم النبوية صارت تتكرّر على ألسنة الخلفاء، وقادة جيوش الفتح فيما بعد"1.
"لقد كان تطبيق صحابة محمّد صلى الله عليه وسلم هذا الدستور الحربي من أعظم الأسباب التي حبَّبت الإسلام إلى نفوس غير المسلمين، فدخلوا فيه طائعين مختارين مستبشرين، لأنّهم رأوا حقيقة الإسلام متمثلة في سلوك أولئك الأصحاب الكرام الذين ربّاهم القرآن، وأدّبهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم2".
تقدم المسلمين لملاقاة عدوّهم رغم معرفتهم المسبقة بكثافتهم العددية والعددية:
إنّ تقدُّم المسلمين لملاقاة عدوّهم المتفوِّق عليهم في العدد والعتاد، لأمرٌ يُثير الدهشة فعلاً، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على ما كان يتمتّع به أولئك القوم من إيمانٍ عظيمٍ وقويٍّ، ذلك الإيمان الذي جعلهم يستصغرون معه عدوّهم، وتنقلب معه موازين المعركة، فأصبح وقوداً أشعل نار الشجاعة والإقدام في نفوسهم، وأوقد الحماس في قلوبهم، وأيقظ كوامن قواهم البشرية المكنونة".
نعم! لقد كان الإيمان المتّقِد في جوانح أولئك القوم يجعلهم أُناساً آخرين، فتراهم يطيرون في ساحات الوغى إلى الموت طيراناً، وينقضّون
1 بريك أبو مايلة: "السرايا والبعوث حول المدينة ومكّة 53.
2 باشميل: "غزوة مؤتة 264.
على أعدائهم، وكأنهم عقبان تُلاحِق فرائسها، كيف لا!؟ وهم يتحسّسون الجنّة ونعيمها، وكأنّهم يرونها أمامهم رأين العين، فيندفعون إليها جارفين أمامهم سدود الأعداء، جاعلين منها طُرُقاً مُمَهَّدة للدخول إليها".
لقد تمَّلت هذه الحقيقة واضحة العيان في قتال القادة الثلاثة واندفاعهم بالمسلمين صوب أعدائهم في العمق، حتى أصبحت قصص استشهادهم صوراً رائعة للبطولة، يمكن أن يؤلّف في كلّ واحدةٍ منها كتابٌ مستقلّ".
إنّهم فعلاً لا يقاتلون الناس بعددٍ ولا عدّة، كما ذكر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه القائد الثالث، وإنما يقاتلون بتأييد الله عز وجل لهم، ووعده إيّاهم بالنصر والتمكين، وسواء قُتِلُوا أم غَلَبُوا، فهم في كِلا الحالين فائزون بِرِضَى الله عز وجل عنهم، وموعودون بالأجر العظيم يوم القيامة، قال تعالى:{فَلْيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نَأْتِيْهِ أَجْراً عَظِيماً} . [سورة النساء، الآية: 74] .
تموين الجيش الإسلامي، وتسليحه:
وضَّحت رواية عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنّ تموين جيش المسلمين كان يعتمد أحياناً على تبرعات الموسرين من المشاركين فيه، وتلك عادة حسنة للعرب في جاهليتهم1، زادها الإسلام قوّةً وتماسكاً حيث كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - يتسابقون في الإنفاق في
1 انظر: (ابن كثير: البداية والنهاية 3/259) .
سبيل الله تعالى باعتبار أنّه جهاد في سبيل الله بالإضافة إلى مجاهدتهم بأنفسهم، وذلك طاعة لله تبارك وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وطلباً للأجر والمثوبة العظيمة من الباري عز وجل.
كما وضحّت الرواية كذلك مدى بساطة تسليح المسلمين بالمقارنة مع ما كان عليه الروم وحلفاؤهم من البهرجة والغطرسة والغرور، وتوضح أيضاً مدى بسالة جند الإسلام الأوائل، ومحاولتهم التواؤم مع الظروف، وعدم التسليم للنقص الواضح في عدّتهم وعتادهم، ولكن حسب إمكاناتهم، كما فعل ذلك المَدَدِيّ بصنعه درقة له من جلد الجزور".
يقول أبو1 أمامة رضي الله عنه: "لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب والفضّة، وإنما كانت حلية سيوفهم العُلابي، والآنك2 والحديد3".
1 صدّي بن عجلان، أبو أمامة الباهلي. (صحابي مشهور) . سكن الشام ومات بها سنة ستّ وثمانين. (تقريب 276) .
2 العلابي: "الجلود الخام غير المدبوغة. وقيل: "العصب تؤخذ رطبة فيشد بها جفون السيف وتلوى عليها فتحف. والآنك: "الرصاص. (ابن حجر: "6/96) .
3 أخرجه البخاري (انظر: "فتح الباري 6/95) .
التقدير والإكرام والإعجاب الذي حظي به جيش مؤتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد كان التقدير والإعجاب والإكرام الذي حظي به أهل مؤتة من القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العوامل التي جعلت جيش المسلمين من أنجح جيوش العالم في ذلك الوقت، وأعظمها وأرفعها معنوية".
فحين يُقَدِّرُ القائد الجهدَ المبذول، ويعطيه حقّه من التقدير والإعجاب، بل ويُصَحِّح ردود الفعل الخاطئة التي كانت لدى بعضهم تجاه الجيش، لا شكّ أن ذلك يعطي أفراده الراحة النفسية التامّة، بل ويدفعهم إلى مزيدٍ من البذل، ومزيدٍ من العطاء بلا حدود، ومواصلة المشوار بلا تردد".
لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيظل للأبد، من أنجح القادة العالميّين على الإطلاق، وستظل مكافآته المعنوية سنية عظيمة، والتي كانت عبارة عن أوسمة رفيعة المستوى والشأن، على صدور حامليها غير مسبوقة، ولا ملحوقة بإذن الله تبارك وتعالى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها".
وفي حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه:
"نلاحظ تأكيد الشارع صلى الله عليه وسلم على مراعاة حُرمة الأمير، والقائد، والإمام ومكانته بين الناس وترك التطاول عليه، وأنّ ذلك مِمَّا يفسد القلوب، ويؤدي بالتالي إلى التنازع المؤدّي للفشل، وفيه من الحض والتأكيد على السمع والطاعة لولاة الأمر مهما كانوا ومهما فعلوا ما لم يأمروا بمعصية".
وأنّهم يستحقون هذا الأمر لكونهم يكابدون مشقّة التّصدّي للأمور الخاصّة بالرّعية من السهر على راحتهم، والدفاع عنهم، يقول النووي:"ومعنى الحديث، أنّ الرعية يأخذون صفو الأمور، فتصلهم أعطياتهم بغير نكد، وتبتلى الولاة بمقاساة الأمور، وجمع الأموال على وجوهها، وصرفها في وجوهها، وحفظ الرعية، والشفقة عليهم، والذّبّ عنهم، وإنصاف بعضهم من بعض، ثُمَّ متى وقع علقة أو عتب في بعض ذلك توجَّه على الأمراء دون الناس"1.
لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً حريصاً على أمّته، رؤوفاً بهم، وفي تحذيره إياهم من منازعة أهل الأمر ومخالفتهم، فيه من المصلحة العامّة للأمّة ما لا يخفى إلاّ على المكابر المعاند، أو الجاهل المغرور، لأنّ ذلك مِمَّا يوقع الفتن المهلكة التي تهلك الحرث والنسل، وتكون وبالاً على الأمّة، تُدَمِّر اقتصادها، وتعصف بمجتمعاته الآمنة، ويذهب ضحيتها الأبرياء".
مواساته صلى الله عليه وسلم لأسر الشّهداء:
كانت مواساة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأسر شهداء مؤتة، ورعايته وعطفه على أبنائهم، لفتةً أبويّةً حانية عطوفة من أبٍ رحيم عطوفٍ مشفقٍ، لا يأل جهداً في التخفيف عن معاناة أولئك وغيرهم من أفراد المجتمع الإسلامي بأسره".
1 صحيح مسلم بشرح النووي 12/65.
كيف لا! وهو الذي كان يفيض حناناً، وشفقةً، ورحمةً". كيف لا! وهو الذي كانت حياته صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأُمّي تكريساً لهذه الحقيقة".
ألم يصفه الباري عز وجل بذلك في القرآن بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُم رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} . [سورة التوبة، الآية: 128] . وكفى بالقرآن دليلاً وشاهداً".
الفوائد التي اكتسبها المسلمون من نتائج غزوة مؤتة:
لقد "كانت معركة مؤتة استطلاعية أفادت المسلمين كثيراً في معرفة خواص قوّات الروم، وأساليب قتالها، وخواص حلفائها من القبائل، وأساليب قتالهم وقوّتهم، فأفادوا من هذه المعلومات في قتالهم بعد ذلك ضدّ الروم، ولا تعدّ خسائر المسلمين الطفيفة شيئاً يُذْكَر بجانب الفائدة العسكرية التي أفادت من الاطلاع على خواص قوات الروم وحلفائها، وتنظيمهما، وتسليحها، وأساليب قتالها، مِمَّا سترى أثره في المعارك التي خاضها المسلمون فيما بعد1".
"وإذا كانت الأمور بنتائجها، والأعمال بخواتيمها، فقد كفى المسلمين ظهوراً على عدوّهم، أنهم تركوا في نفوسهم أثراً من الرهبة، جعلهم يحجمون عن قتالهم، وينكلون عن متابعتهم"2.
1 خطاب: "الرسول القائد 309.
2 الدويدار: "صور 527.
"ومهما تكن الخاتمة التي لقيتها غزوة مؤتة فإن نتائجها وآثارها كانت بعيدة المدى، فبينما رأى الروم تلك الغزوة غارة من الغارات التي اعتاد البدو شنّها بين حين وآخر، كانت سرية زيد بن حارثة إلى مؤتة في الحقيقة غزوة من نوع آخر، لم تقدر إمبراطورية الروم أهميتها، فهي حرب منظّمة كانت لها مهمّة جديدة خاصّة، جعلت المسلمين يتطلّعون جدّياً إلى فتح أرض الشام"1.
وحقيقةً - كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى، قد كانت مؤتة إرهاصاً لما بعدها من غزو الروم، وإرهاباً لأعداء الله ورسوله2.
1 خطاب: "وعبد العزيز زائد: "دروس من السيرة النبوية 105-106.
2 ابن كثير: "الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 195.