الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السّادس: سير الأحداث:
عسكر أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - بجيشه في الجرف1، الذي كان بمثابة قاعدة عسكرية للمسلمين وبخاصّة للجيوش المنطلقة إلى شمال المدينة.
وبلغ الاهتمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعث تلك السرية، أنّه صار يُردد وهو في الرمق الأخير بأبي هو وأُمي صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم:
[32]
"انفذوا جيش أُسامة، انفذوا جيش أُسامة"2.
وذلك يدل على الأهمية القصوى، والاستراتيجية التي كان يُمَثِّلها إرسال ذلك الجيش بالنسبة للمسلمين، وهو الأمر الذي حدا بالصّدِّيق رضي الله عنه رغم المخاطر التي كانت تُحيط بالمسلمين داخلياً وخارجياً، أن يُسارع في بعث السرية، ويُصرّ على ذلك رغم معارضة كبار الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - له.
وتوفي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فَقِيدُ الأُمّة الإسلامية، بل فَقِيد العالم بأسره، - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، توفي وأسامة معسكرٌ بجيشه في الجرف، وذُهِل المسلمون في المدينة.
1 سبق التعريف بها.
2 من رواية ابن سعد، عن هشام، وقد سبق تخريجها برقم:[14] .
[33]
"ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أُسامة معقوداً حتّى أتى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده"1.
[34]
"فلمّا بويع لأبي بكر رضي الله عنه، أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أُسامة، وألاّ يُحِلَّه أبداً حتّى يغزوهم أُسامة"23.
ودخل قائد الجيش على الخليفة أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه فقال:
[35]
"إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوَّف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أوّل من يُقاتَل، وإن لم تكفر مضيت، فإنّ معي سروات النّاس وخيارهم"4.
وكما توقّع القائد الذّكيّ، فما أن سَمِع الناس بوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى:
[36]
"ارتدّت العرب إمّا عامّة وإمّا خاصّة في كلّ قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم الشاتية لفقد نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وقلّتهم، وكثرة عدوّهم"5.
1 من رواية ابن سعد عن شيوخه. وقد سبق تخريجها برقم: [10] .
2 يقول بريدة رضي الله عنه في رواية الواقدي: "فخرجت باللواء حتّى انتهيت به إلى بيت أُسامة، ثُمَّ خرجت به إلى الشام معقوداً مع أُسامة، ثُمَّ رجعت به إلى بيت أُسامة، فما زال في بيت أُسامة حتّى توفي أُسامة".
3 من رواية الواقدي، وقد سبق تخريجها برقم:[2] .
4 من رواية ابن سعد عن هشام، وقد سبق تخريجها برقم:[14] .
5 من رواية الطبري، بسنده عن عروة. وقد سبق تخريجها برقم:[5] .
واجتمع كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة فقالوا:
[37]
"يا خليفة رسول الله! إنّ العرب قد انتقضت عليك من كلّ جانب، وإنّك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً، اجعلهم عدّة لأهل الردّة، ترمي بهم في نحورهم! وأخرى، لا نأمن على أهل المدينة أن يُغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتّى يضرب الإسلام بجرانه1، وتعود الرّدّة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف، ثُمَّ تبعث أُسامة حينئّذٍ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا، فلمّا استوعب أبو بكر رضي الله عنه كلامهم، قال: هل منكم أحدٌ يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا. قد سمعت مقالتنا. فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننت أنّ السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأوّل منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينْزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أُسامة! ولكن خصلة أُكَلِّم أُسامة في عمر يخلفه يقيم عندنا، فإنّه لا غناء بنا عنه. والله ما أدري يفعل أُسامة أم لا، والله إن رأى لا أُكْرِهُهُ! فعرف القوم أنّ أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أُسامة، ومشى أبو بكر رضي الله عنه إلى أُسامة في بيته وكلّمه أن يترك عمر، ففعل أُسامة، وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أُسامة: نعم. وخرج وأمر
1 الجران: باطن عنق البعير، أي: حتّى يقرّ قراره ويستقيم، كما أنّ البعير إذا برك واستراح، مدّ عنقه على الأرض. (النهاية 1/158) .
مناديه ينادي: عزمة مني ألاّ يتخلّف عن أُسامة من بَعْثِه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّي لن أوتى بأحدٍ أبطأ عن الخروج معه إلاّ ألحقته به ماشياً"1.
[38]
"واجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية، وخرجوا، وخرج أهل المدينة في جند أُسامة، فحبس أبو بكر مَن بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسالح2 حول قبائلهم وهم قليل"3.
وتوجَّه الخليفة الصّدِّيق رضي الله عنه نحو معسكر الجيش:
[39]
"حتّى أتاهم فأشخصهم4 وشيَّعهم وهو ماشٍ وأُسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابّة أبي بكر، فقال له أُسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلنّ! فقال: والله لا تنْزل، ووالله لا أركب! وما عليَّ أن أُغَبّر قدميَّ في سبيل الله ساعة"5.
1 من رواية الواقدي. وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
2 المسالح: جمع مسلحة، وهم القوم في عدّة بموضع رصد قد وكلّوا به بإزاء ثغر. واحدهم: مسلحي. والمجمع المسالح. والمسلحة: كالثغروالمرقب. (اللسان، والصحاح: سلح)
3 من رواية الطبري، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد سبق تخريجها برقم:[28] .
4 أي: أمرهم بالشُّخُوص، أي: الانطلاق.
5 أخرجه الطبري (تاريخ 3/226) من حديث سيف بسنده عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله تعالى.
قلت: سنده. منقطع.
[40]
"وسار أبو بكر رضي الله عنه إلى جانب أُسامة ساعة، ثُمَّ قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك"1.
[41]
"فما الذي عهد إليك؟ قال: عهد إليَّ أن أغير على أُبنى صباحاً ثُمَّ أُحَرق"2.
1 من رواية الواقدي، وقد سبق تخريجها برقم:[1] .
2 أخرجه أبو داود، (انظر: عون المعبود، حديث رقم: 2599) ، وابن ماجه، (السنن، حديث رقم: 2843) ، وأحمد، (المسند، حديث رقم: 21779) ، وابن أبي شيبة، (المصنّف، حديث رقم: 14018) ، وابن سعد، (الطبقات 4/66) . جميعهم من حديث صالح بن أبي الأخضر. بسنده عن أُسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
قال ابن تيمية في (منتقى الأخبار ص 691) : في إسناده صالح بن أبي الأخضر. قال البخاري: هو ليّن. وقال الشوكاني (نيل الأوطار 7/251) : حديث أُسامنة بن زيد سكت عنه أبو داود، والمنذري. وفي إسناده من ذكر المصنَّف. وقال يحيى بن معين: هو ضعيف. وقال أحمد: يُعتبر به. وقال العجلي: يُكتب حديثه. وليس بالقوّي. وقال في التقريب (271) : ضعيف. وقال البنا (الفتح الرباني 14/66) : سكت عنه أبو داود والمنذري، فهو صالح للاحتجاج به.
قلت: سند الحديث مداره على صالح عند الجميع. وهو ضعيف كما مرَّ. ولكن رواه ابن سعد (الطبقات 4/67) من طريقٍ آخر. قال: أخبرنا أبو أُسامة حمّاد بن أسامة، قال: حدّثنا هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال:"أمَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُسامة بن زيد، وأمره أن يغير على أبنى من ساحل البحر". وسنده رجاله رجال الصحيح، غير أنّه مرسل.
والله تعالى أعلم.
فقال له الخليفة:
[42]
"فانفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّي لست آمرك، ولا أنهاك عنه، وإنمّا أنا منفِّذٌ لأمر أمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم "1.
[43]
"وأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يعظم فيهم الجراح، ويجزر2 فيهم حتّىيفزع القوم"3.
[44]
"فمضى أُسامة مُغِذّاً4 على ذي المروة5، والوادي"6.
[45]
"فوطئ بلاداً هادئه لم يرجعوا عن الإسلام، جهينة، وغيرها من قضاعة، فلمّا نزل وادي القرى، قدّم عيناً له من بني عُذرة، يُقال له حُريث، فخرج على صدر راحلته أمامه مُغِذّاً، حتّى انتهى إلى
1 من رواية الواقدي. وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
2 قال هشام: يقطع الأيدي والأرجل والأوساط في القتال.
3 من رواية ابن سعد، عن هشام. وقد سبق تخريجها برقم:[14] .
4 مغِذّاً: أي: مسرعاً.
5 ذي المروة: قرية بوادي القرى. وقيل: بين خشب ووادي القرى. وقال البكري: من أعمال المدينة، قرى واسعة، وهي لجهينة، كان بها سبرة بن معبد الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولده إلى اليوم فيها. بينها وبين المدينة ثمانية بُرُد. وقال البلادي: ذو المروة له ذكرٌ كثيرٌ في كتب التاريخ والجغرافية، وهو منسوب إلى حصاة بيضاء بارزة من نوع المرو، يقع عند مفيض وادي الجزل إذا دفع في إضم شمال المدينة على قرابة ثلاث مائة كيل، وما زالت معروفة بهذا الاسم.
انظر: (البكري: معجم4/1218،الحموي: معجم 5/116،البلادي: معجم 290) .
6 من رواية الطبري من حديث سيف بسنده عن عروة. وقد سبق تخريجها برقم: [5] .
أُبنى، فنظر إلى ما هناك وارتاد الطريق، ثُمَّ رجع سريعاً حتّى لقي أُسامة على مسيرة ليلتين من أُبنى، فأخبره أنّ الناس غارّون1 ولا جموع لهم وأمره أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع، وأن يشنَّها غارة، فلمّا انتهى إلى أُبنى فنظر إليها منظر العين، عبّأ أصحابه، وقال: اجعلوها غارة ولا تُمعنوا في الطلب، ولا تفترقوا، واجتمعوا واخفوا الصوت، واذكروا الله في أنفسكم، وجرّدوا سيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم، ثمّ دفع عليهم الغارة، فما نبح كلب، ولا تحرّك أحد، وما شعروا إلاّ بالقوم قد شنّوا عليهم الغارة ينادون بشعارهم: يا منصور أمت! فقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليه، وحرَّق في طوائفهم بالنار، وحرَّق منازلهم وحرثهم ونخلهم، فصارت أعاصير من الدخاخين، وأجال الخيل في عرصاتهم2، ولم يمعنوا في الطلب، أصابوا ما قرب منهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم، وكان أُسامة خرج على فرس أبيه التي قُتِلَ عليها يوم مؤتة، وكانت تُدعى سبحة، وقُتِل قاتِلُ أبيه في الغارة، خبَّره به بعض من سُبِي3، وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهماً، وأخذ
1 غارّون: غافلون.
2 العرصة: كلّ بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. (القاموس: العرص) .
3 قلت: لكن ذكر ابن دريد في (الاشتقاق 551) أنّ مالك بن رافلة قائد العرب المنتصرة في معركة مؤتة هو الذي قتل زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي معلومة تفرّد بها.
وقد ذكر ابن إسحاق أن قطبة بن قتادة العذري قائد ميمنة المسلمين في مؤتة قُتل مالك بن رافلة في المعركة. والله تعالى أعلم.
لنفسه مثل ذلك، فلمّا أمسوا أمر بالرحيل، ومضى الدليل أمامه، حريث العذري، فأخذ الطريق التي جاء منها، ومضوا ليلتهم حتّى انتهوا بأرضٍ بعيدةٍ، ثُمَّ طوى البلاد حتّى انتهى إلى وادي القرى في تسع ليال"1.
[46]
"ثُمَّ بعث بشيراً إلى المدينة يخبر بسلامتهم، ثُمَّ قَصَد بعد في السير2 فسار إلى المدينة ستّاً، وما أصيب من المسلمين أحد، وخرج أبو بكر في المهاجرين3 وأهل المدينة يتلقونهم سروراً بسلامتهم، ودخل أُسامة على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب، حتّى انتهى إلى المسجد، فدخل وصلّى ركعتين، ثُمَّ انصرف إلى بيته، وبلغ هرقل، وهو بحمص ما صنع أُسامة، فبعث رابطة يكونون بالبلقاء، فلم تزل هناك حتّى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما"4.
1 من رواية الواقدي. وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
2 القَصْد في السير: هو الإبطاء فيه.
3 ربّما أولئك الذين لم ينتدبوا في جيش أُسامة في المدينة، وهم قليل كما أوضحت الروايات السابقة. والله تعالى أعلم.
4 من رواية ابن سعد عن شيوخه. وقد سبق تخريجها برقم: [10] .