المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الخامس عشر - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٢

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب فضل الجماعة ووجوبها

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب الأذان والإقامة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌باب الصّفوف

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌باب الإمامة

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌باب صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌الحديث الأربعون

- ‌الحديث الواحد والأربعون

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌الحديث التاسع والأربعون

- ‌الحديث الخمسون

- ‌باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

- ‌الحديث الواحد والخمسون

- ‌باب القراءة في الصّلاة

- ‌الحديث الثاني والخمسون

- ‌الحديث الثالث والخمسون

- ‌الحديث الرابع والخمسون

- ‌الحديث الخامس والخمسون

- ‌الحديث السادس والخمسون

- ‌الحديث السابع والخمسون

- ‌باب ترك الجهر بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

- ‌الحديث الثامن والخمسون

- ‌الحديث التاسع والخمسون

- ‌باب سجود السّهو

- ‌الحديث الستون

- ‌الحديث الواحد والستون

- ‌باب المرور بين يدي المُصلِّي

- ‌الحديث الثاني والستون

- ‌الحديث الثالث والستون

- ‌الحديث الرابع والستون

- ‌الحديث الخامس والستون

- ‌بابٌ جامعٌ

- ‌الحديث السادس والستون

- ‌الحديث السابع والستون

- ‌الحديث الثامن والستون

- ‌الحديث التاسع والستون

- ‌الحديث السبعون

- ‌الحديث الواحد والسبعون

- ‌الحديث الثاني والسبعون

- ‌الحديث الثالث والسبعون

- ‌الحديث الرابع والسبعون

الفصل: ‌الحديث الخامس عشر

‌الحديث الخامس عشر

64 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أثقلُ الصّلاة على المنافقين ، صلاة العشاء وصلاة الفجر. ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حَبْواً ، ولقد هممتُ أن آمر بالصّلاة فتقام ، ثمّ آمر رجلاً فيُصلِّي بالنّاس ، ثمّ أنطلق معي برجالٍ معهم حِزَمٌ من حطبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصّلاة ، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنّار. (1)

قوله: (أثقل الصّلاة على المنافقين) دلَّ هذا على أنّ الصّلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى (ولا يأتون الصّلاة إلَاّ وهم كسالى).

وإنّما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوّة الدّاعي إلى تركهما، لأنّ العشاء وقت السّكون والرّاحة والصّبح وقت لذّة النّوم.

وقيل: وجهه كون المؤمنين يفوزون بما ترتّب عليهما من الفضل لقيامهم بحقّهما دون المنافقين.

قوله: (صلاة العشاء ، وصلاة الفجر) الحديث دالٌّ على فضل العشاء والفجر، ووجهه: أنّ صلاة الفجر ثبتت أفضليّتها، وسوّى

(1) أخرجه البخاري (626) ومسلم (651) من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به.

وأخرجه البخاري (618 ، 6797) ومسلم (651) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وأخرجاه من طرق أخرى عنه نحوه.

ص: 108

في هذا بينها وبين العشاء، ومساوي الأفضل يكون أفضل جزماً.

قوله: (ولو يعلمون ما فيهما) أي: من مزيد الفضل

قوله: (لأتوهما) أي: الصّلاتين، والمراد لأتوا إلى المحل الذي يُصلَّيان فيه جماعةً ، وهو المسجد.

قوله: (ولو حبواً) أي: يزحفون إذا منعهم مانعٌ من المشي كما يزحف الصّغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدّرداء " ولو حبواً على المرافق والرّكب "(1)

قوله: (لقد هممت) اللام جواب القسم، والهمّ العزم. وقيل:

(1) زاد البخاري (644)" والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين، لشهد العشاء "

قوله: (عرقاً) بفتح العين المهملة وسكون الرّاء بعدها قافٌ ، قال الخليل: العراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عرْق، وفي المحكم عن الأصمعي: العرْق بسكون الراء قطعة لحم. قال الأزهريّ: العرق واحد العراق وهي العظام الّتي يؤخذ منها هبر اللّحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق ويتشمّس العظام، يقال عرقت اللّحم واعترقته وتعرّقته إذا أخذت اللّحم منه نهشاً. وفي المحكم: جمع العرق على عراقٍ بالضّمّ عزيزٌ، وقول الأصمعيّ هو اللّائق هنا.

قوله: (أو مرماتين) تثنية مرماة بكسر الميم وحكي الفتح، قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشّاة، قال عياض: فالميم على هذا أصليّة، وحكى الحربيّ عن الأصمعيّ ، أنّ المرماة سهم الهدف، قال: ويؤيّده ما حدّثني .. ثمّ ساق من طريق أبي رافع عن أبي هريرة نحو الحديث بلفظ " لو أنّ أحدهم إذا شهد الصّلاة معي كان له عظمٌ من شاة سمينة أو سهمان لفعل ".

وقيل: المرماة سهم يتعلّم عليه الرّمي، وهو سهم دقيق مستوٍ غير محدّدٍ. وإنّما وصف العرق بالسّمن والمرماة بالحسن ليكون ثمّ باعثٌ نفسانيٌّ على تحصيلهما. قاله في " الفتح ".

ص: 109

دونه. وزاد مسلم في أوّله ، أنّه صلى الله عليه وسلم فَقَدَ ناساً في بعض الصّلوات ، فقال: لقد هممت. فأفاد ذكر سبب الحديث. وفي رواية لهما " والذي نفسي بيده لقد هممت " هو قسمٌ كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقسم به، والمعنى أنّ أمر نفوس العباد بيد الله، أي بتقديره وتدبيره. (1)

وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شكّ فيه تنبيهاً على عظم شأنه، وفيه الرّدّ على من كره أن يحلف بالله مطلقاً.

قوله: (آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس) وللبخاري " ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس "

قوله: (قوم لا يشهدون الصلاةَ) وللبخاري " فأحرِّق على من لا يخرج إلى الصلاة بعدُ " كذا للأكثر بلفظ " بعد " ضدّ قبل، وهي مبنيّة على الضّمّ، ومعناه بعد أن يسمع النّداء إليها أو بعد أن يبلغه التّهديد المذكور.

وللكشميهنيّ بدلها " يقدر " أي لا يخرج وهو يقدر على المجيء.

ويؤيّده ما سيأتي من رواية لأبي داود " وليست بهم عِلَّة ".

ووقع عند الدّاوديّ للشّارح هنا " لا لعذرٍ " وهي أوضح من غيرها ، لكن لَم نقف عليها في شيء من الرّوايات عند غيره.

(1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 168): وذلك لأنه سبحانه مالكها والمتصرف فيها ، وفي ذلك من الفوائد مع ما ذكر إثبات اليد لله سبحانه على الوجه الذي يليق به. كالقول في سائر الصفات ، وهو سبحانه منزَّه عن مشابهة المخلوقات في كل شيئ ، موصوف بصفات الكمال اللائق به ، فتنبّه.

ص: 110

قوله: (فأحرّق) بالتّشديد، والمراد به التّكثير، يقال: حرّقه إذا بالغ في تحريقه.

قوله: (عليهم) يشعر بأنّ العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين، والبيوت تبعاً للقاطنين بها ، وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح " فأحرّق بيوتاً على من فيها ".

وحديث الباب ظاهر في كون صلاة الجماعة فرض عين، لأنّها لو كانت سنّة لَم يهدّد تاركها بالتّحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرّسول ومن معه.

ويحتمل أن يقال: التّهديد بالتّحريق المذكور يمكن أن يقع في حقّ تاركي فرض الكفاية كمشروعيّة قتال تاركي فرض الكفاية.

وفيه نظرٌ ، لأنّ التّحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخصّ من المقاتلة، ولأنّ المقاتلة إنّما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على التّرك.

القول الأول: بأنّها فرض عين. وإليه ذهب عطاء والأوزاعيّ وأحمد وجماعة من محدّثي الشّافعيّة كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان.

القول الثاني: بالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطاً في صحّة الصّلاة.

وأشار ابن دقيق العيد: إلى أنّه مبنيّ على أنّ ما وجب في العبادة كان شرطاً فيها، فلمَّا كان لهم المذكور دالاً على لازمه وهو الحضور، ووجوب الحضور دليلاً على لازمه وهو الاشتراط، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة. إلَاّ أنّه لا يتمّ إلَاّ بتسليم أنّ ما وجب في العبادة كان

ص: 111

شرطاً فيها، وقد قيل إنّه الغالب. ولَمّا كان الوجوب قد ينفكّ عن الشّرطيّة ، قال أحمد: إنّها واجبة غير شرط. انتهى

القول الثالث: ظاهر نصّ الشّافعيّ أنّها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدّمين من أصحابه ، وقال به كثير من الحنفيّة والمالكيّة.

القول الرابع: المشهور عند الباقين أنّها سنّة مؤكّدة.

وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبةٍ:

الأول: ما تقدّم.

الثاني: ونقله إمام الحرمين عن ابن خزيمة، والذي نقله عنه النّوويّ الوجوب حسبما قال ابن بزيزة ، إنّ بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم همّ بالتّوجّه إلى المتخلفين ، فلو كانت الجماعة فرض عين ما همّ بتركها إذا توجّه.

وتعقّب: بأنّ الواجب يجوز تركه لِمَا هو أوجب منه.

قلت: وليس فيه أيضاً دليل على أنّه لو فعل ذلك لَم يتداركها في جماعة آخرين.

الثالث: ما قال ابن بطّالٍ وغيره: لو كانت فرضاً لقال حين توعّد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لَم تجزئه صلاته، لأنّه وقت البيان.

وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ البيان قد يكون بالتّنصيص ، وقد يكون بالدّلالة، فلمَّا قال صلى الله عليه وسلم: لقد هممت إلخ. دلَّ على وجوب الحضور وهو كافٍ في البيان.

الرابع: ما قال الباجيّ وغيره: إنّ الخبر ورد مورد الزّجر وحقيقته

ص: 112

غير مرادة. وإنّما المراد المبالغة. ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفّار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.

وأجيب: بأنّ المنع وقع بعد نسخ التّعذيب بالنّار، وكان قيل ذلك جائزاً بدليل حديث أبي هريرة في البخاري (1) الدّال على جواز التّحريق بالنّار ثمّ على نسخه، فحمل التّهديد على حقيقته غير ممتنع.

الخامس: كونه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التّهديد، فلو كان واجباً ما عفا عنهم

قال القاضي عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجّة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم همّ ولَم يفعل، زاد النّوويّ: ولو كانت فرض عين لَمَا تركهم.

وتعقّبه ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لا يهمّ إلَاّ بما يجوز له فعله لو فعله، وأمّا التّرك فلا يدلّ على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التّخلّف الذي ذمّهم بسببه.

على أنّه قد جاء في بعض الطّرق بيان سبب التّرك ، وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبريّ عن أبي هريرة بلفظ: لولا ما في البيوت من النّساء والذّرّيّة لأقمت صلاة العشاء ، وأمرت فتياني يحرّقون .. الحديث

السادس: أنّ المراد بالتّهديد قومٌ تركوا الصّلاة رأساً لا مجرّد الجماعة.

(1) صحيح البخاري (3016) وسيأتي لفظه قريباً إن شاء الله في الشرح.

ص: 113

وهو متعقّبٌ: بأنّ في رواية مسلم " لا يشهدون الصّلاة " أي: لا يحضرون، وفي رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد " لا يشهدون العشاء في الجميع " أي: في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعاً: لينتهينّ رجالٌ عن تركهم الجماعات ، أو لأحرّقنّ بيوتهم.

السابع: أنّ الحديث ورد في الحثّ على مخالفة فعل أهل النّفاق والتّحذير من التّشبّه بهم ، لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتمّ الدّليل، أشار إليه الزين بن المنير.

وهو قريبٌ من الوجه الرّابع.

الثامن: أنّ الحديث ورد في حقّ المنافقين، فليس التّهديد لترك الجماعة بخصوصه ، فلا يتمّ الدّليل.

وتعقّب: باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنّه لا صلاة لهم، وبأنّه كان معرضاً عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويّتهم. وقد قال " لا يتحدّث النّاس أنّ محمّداً يقتل أصحابه "(1).

وتعقّب ابن دقيق العيد هذا التّعقيب: بأنّه لا يتمّ إلَاّ إذا ادّعى أنّ ترك معاقبة المنافقين كان واجباً عليه ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنّه كان مخيّراً فليس في إعراضه عنهم ما يدلّ على وجوب ترك عقوبتهم.

(1) أخرجه البخاري (3330) ومسلم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 114

انتهى.

والذي يظهر لي أنّ الحديث ورد في المنافقين لقوله في البخاري " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " الحديث، ولقوله " لو يعلم أحدهم إلخ " لأنّ هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل.

لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر. بدليل قوله في رواية عجلان " لا يشهدون العشاء في الجميع " وقوله في حديث أسامة " لا يشهدون الجماعة ".

وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصمّ عن أبي هريرة عند أبي داود " ثمّ آتي قوماً يصلّون في بيوتهم ، ليست بهم عِلَّة "(1).فهذا يدلّ على أنّ نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأنّ الكافر لا يُصلِّي في بيته إنّما يُصلِّي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبّه عليه القرطبيّ.

وأيضاً فقوله في رواية المقبريّ " لولا ما في البيوت من النّساء والذّرّيّة " يدلّ على أنّهم لَم يكونوا كفّاراً ، لأنّ تحريق بيت الكافر إذا

(1) أخرجه أبو داود (549) ومن طريقه البيهقي في " الكبرى "(3/ 79) والدولابي في " الكنى "(2/ 793) والطبراني في " الأوسط "(7551) من طريق أبي المليح الحسن بن عمرو الرقي عن يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي عن يزيد بن الأصم به. وإسناده جيّد.

وقد أخرجه مسلم في الصحيح (651) من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم. لكن لم يسق لفظه. وإنما قال بنحوه. أي نحو حديث الباب.

ص: 115

تعيّن طريقاً إلى الغلبة عليه لَم يمنع ذلك وجود النّساء والذّرّيّة في بيته.

وعلى تقدير أن يكون المراد بالنّفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدلّ على الوجوب من جهة المبالغة في ذمّ من تخلف عنها.

قال الطّيبيّ: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنّهم إذا سمعوا النّداء جاز لهم التّخلّف عن الجماعة، بل من جهة أنّ التّخلّف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدلّ عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلَاّ منافق " رواه مسلم، انتهى كلامه.

وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عن أبي عمير بن أنس حدّثني عمومتي من الأنصار ، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يشهدهما منافق. يعني العشاء والفجر.

ولا يقال فهذا يدلّ على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه. لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنّما ورد الوعيد في حقّ من تخلف ، لأنّي أقول: بل هذا يقوّي ما ظهر لي أوّلاً أنّ المراد بالنّفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر.

فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النّفاق عليه مجازاً لِمَا دلَّ عليه مجموع الأحاديث.

التاسع: ما ادّعاه بعضهم: أنّ فرضيّة الجماعة كانت في أوّل الإسلام لأجل سدّ باب التّخلّف عن الصّلاة على المنافقين ، ثمّ نسخ. حكاه عياض.

ص: 116

ويمكن أن يتقوّى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقّهم ، وهو التّحريق بالنّار كما أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث وقال لنا: إن لقيتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش سماهما - فحرقوهما بالنار ، قال: ثم أتيناه نودّعه حين أردنا الخروج، فقال: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلَاّ الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما.

وكذا ثبوت نسخ ما يتضمّنه التّحريق من جواز العقوبة بالمال.

ويدلّ على النّسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبل هذا، لأنّ الأفضليّة تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز.

العاشر: أنّ المراد بالصّلاة. الجمعة لا باقي الصّلوات، ونصره القرطبيّ.

وتعقّب: بالأحاديث المصرّحة بالعشاء، وفيه بحثٌ ، لأنّ الأحاديث اختلفت في تعيين الصّلاة التي وقع التّهديد بسببها. هل هي الجمعة أو العشاء، أو العشاء والفجر معاً؟.

فإن لَم تكن أحاديث مختلفة ولَم يكن بعضها أرجح من بعض وإلَاّ وقف الاستدلال، لأنّه لا يتمّ إلَاّ إن تعيّن كونها غير الجمعة، أشار إليه ابن دقيق العيد، ثمّ قال: فليتأمّل الأحاديث الواردة في ذلك. انتهى.

وقد تأمّلتها فرأيت التّعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أمّ مكتوم

ص: 117

وابن مسعود.

أمّا حديث أبي هريرة. ففي البخاري من رواية الأعرج عنه. يومئ إلى أنّها العشاء. لقوله في آخره " لشهد العشاء " وفي رواية مسلم " يعني العشاء " ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضاً الإيماء إلى أنّها العشاء والفجر.

وعيّنها السّرّاج في رواية له من هذا الوجه العشاء. حيث قال في صدر الحديث: أخّر العشاء ليلة فخرج فوجد النّاس قليلاً فغضب. فذكر الحديث. وفي رواية ابن حبّان من هذا الوجه " يعني الصّلاتين العشاء والغداة " وفي رواية عجلان والمقبريّ عند أحمد التّصريح بتعيين العشاء.

ثمّ سائر الرّوايات عن أبي هريرة على الإبهام. وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصمّ عنه. فلم يسق لفظه ، وساقه التّرمذيّ وغيره من هذا الوجه بإبهام الصّلاة، وكذلك رواه السّرّاج وغيره عن طرق عن جعفر، وخالفهم معمر عن جعفر فقال " الجمعة " أخرجه عبد الرّزّاق عنه، والبيهقيّ من طريقه. وأشار إلى ضعفها لشذوذها.

ويدلّ على وهْمِه فيها رواية أبي داود والطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصمّ. فذكر الحديث، قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصمّ: يا أبا عوف الجمعة عَنَى أو غيرها؟ قال: صُمّت أذناي إن لَم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

ص: 118

ما ذكر جُمعةً ولا غيرها. فظهر أنّ الرّاجح في حديث أبي هريرة أنّها لا تختصّ بالجمعة.

وأمّا حديث ابن أمّ مكتوم فسأذكره قريباً ، وأنّه موافق لأبي هريرة.

وأمّا حديث ابن مسعود. فأخرجه مسلم ، وفيه الجزم بالجمعة (1) ، وهو حديث مستقلّ ، لأنّ مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدهما في الآخر ، فيحمل على أنّهما واقعتان. كما أشار إليه النّوويّ والمحبّ الطّبريّ.

وقد وافق ابنُ أمّ مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء.

وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرّحمن عن عبد الله بن شدّاد عن ابن أمّ مكتوم ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل النّاس في صلاة العشاء ، فقال: لقد هممت أنّي آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصّلاة فأحرّق عليهم بيوتهم. فقام ابن أمّ مكتوم فقال: يا رسولَ الله قد علمتَ ما بي؟ وليس لي قائد - زاد أحمد - وأنّ بيني وبين المسجد شجراً ونخلاً ولا أقدر على قائد كلّ ساعة. قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم. قال: فاحضرها. ولَم يرخّص له ، ولابن حبّان من حديث جابر قال: أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فأتِها ولو حبواً. وقد حمله العلماء على أنّه كان لا يشقّ عليه التّصرّف

(1) وتمامه عنده (652) عن عبد الله، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممتُ أن آمر رجلاً يُصلِّي بالناس، ثم أُحرِّق على رجالٍ يتخلفون عن الجمعة بيوتهم.

ص: 119

بالمشي وحده ككثيرٍ من العميان.

واعتمد ابن خزيمة وغيره حديثَ ابن أمّ مكتوم هذا على فرضيّة الجماعة في الصّلوات كلّها ، ورجّحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدّالة على الرّخصة في التّخلّف عن الجماعة، قالوا: لأنّ الرّخصة لا تكون إلَاّ عن واجب.

وفيه نظرٌ. ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن دقيق العيد من يتمسّك بالظّاهر ولا يتقيّد بالمعنى، وهو أنّ الحديث ورد في صلاة معيّنةٍ فيدلّ على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتّمسّك بدلالة العموم.

لكن نوزع في كون القول بما ذكر أوّلاً ظاهريّة محضة (1) فإنّ قاعدة حمل المطلق على المقيّد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك ترك اتّباع المعنى، لأنّ غير العشاء والفجر مظنّة الشّغل بالتّكسّب وغيره، أمّا العصران فظاهر، وأمّا المغرب فلأنّها في الغالب وقت الرّجوع إلى البيت والأكل ولا سيّما للصّائم مع مضيّ وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم.

(1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 168): ليس هذا بجيد ، والصواب ما قاله ابن خزيمة وغيره من الموجبين للجماعة في جميع الصلوات ، وإنما يستقيم حمل المطلق على المقيد إذا لَم يوجد دليلٌ على التعميم ، وفي هذه المسألة قد قام الدليل على التعميم كحديث " من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلَاّ من عذر " وغيره من الأحاديث التي أشار إليها الشارح في هذا الباب. وذكر العشاء والفجر في بعض الروايات ، ولإن الحكمة في شرعية الجماعة تقتضي التعميم. والله أعلم.

ص: 120

وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضاً انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النّهار، وليختموا النّهار بالاجتماع على الطّاعة ويفتتحوه كذلك.

وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد ، تخصيص التّهديد بمن حول المسجد. (1)

وتقدم توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما.

وقد أطلتُ في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعضٍ.

واجتمع من الأجوبة لمن لَم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشّرح.

وفي الحديث الإشارة إلى ذمّ المتخلفين عن الصّلاة بوصفهم بالحرص على الشّيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التّفريط فيما يحصل رفيع الدّرجات ومنازل الكرامة.

وفي الحديث من الفوائد أيضاً تقديم الوعيد والتّهديد على العقوبة، وسرّه أنّ المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزّجر اكتفي به عن الأعلى من العقوبة، نبّه عليه ابن دقيق العيد.

وفيه جواز العقوبة بالمال. كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكيّة وغيرهم.

(1) مسند الإمام أحمد (7916 - 8256) من طريق ابن أبي ذئب عن عجلان عن أبي هريرة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لينتهينَّ رجالٌ ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء الآخرة في الجميع، أو لأُحرِّقن حول بيوتهم بحزم الحطب.

ص: 121

وفيه نظرٌ لِمَا أسلفناه، ولاحتمال أنّ التّحريق من باب ما لا يتمّ الواجب إلَاّ به، إذ الظّاهر أنّ الباعث على ذلك أنّهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يتوصّل إلى عقوبتهم إلَاّ بتحريقها عليهم.

وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرّةٍ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم همّ بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصّلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحقّقون أنّه لا يطرقهم فيه أحدٌ. وفي السّياق إشعار بأنّه تقدّم منه زجرهم عن التّخلّف بالقول حتّى استحقّوا التّهديد بالفعل.

وترجم عليه البخاريّ في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام (باب إخراج أهل المعاصي والرّيب من البيوت بعد المعرفة) يريد أنّ من طلب منهم بحقّ فاختفى أو امتنع في بيته لدداً ومطلاً أُخرج منه بكل طريق يتوصّل إليه بها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراج المتخلفين عن الصّلاة بإلقاء النّار عليهم في بيوتهم.

واستدل به ابن العربيّ وغيره: على مشروعيّة قتل تارك الصّلاة متهاوناً بها.

ونوزع في ذلك. ورواية أبي داود التي فيها أنّهم كانوا يصلّون في بيوتهم كما قدّمناه. تعكّر عليه.

نعم. يمكن الاستدلال منه بوجهٍ آخر ، وهو أنّهم إذا استحقّوا التّحريق بترك صفةٍ من صفات الصّلاة خارجةٍ عنها. سواء قلنا واجبة أو مندوبة كان من تركها أصلاً رأساً أحقّ بذلك، لكن لا يلزم

ص: 122

من التّهديد بالتّحريق حصول القتل لا دائماً ولا غالباً، لأنّه يمكن الفرار منه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزّجر والإرهاب.

وفي قوله في رواية أبي داود " ليست بهم عِلَّة " دلالة على أنّ الأعذار تبيح التّخلّف عن الجماعة - ولو قلنا إنّها فرضٌ - وكذا الجمعة.

وفيه الرّخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفى في بيته ويتركها، ولا بُعد في أن تلحق بذلك الجمعة، فقد ذكروا من الأعذار في التّخلّف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حقّ الإمام كالغرماء.

واستدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة.

قال ابن بزيزة: وفيه نظرٌ. لأنّ الفاضل في هذه الصّورة يكون غائباً، وهذا لا يختلف في جوازه.

واستدل به ابن العربيّ على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك.

وتعقّب: بأنّه منسوخٌ (1) كما قيل في العقوبة بالمال، والله أعلم.

(1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (2/ 170): جَزْم الشارح ليس بجيد ، والصواب عدم النسخ لأدلة كثيرة معروفة في محلها منها حديث الباب ، وإنما المنسوخ التعذيب بالنار فقط. والله أعلم

ص: 123