الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والستون
117 -
عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنّه قال: إذا اشتدّ الحرّ فأبْرِدوا بالصّلاة. فإنّ شدّة الحرّ من فَيْح جهنّم. (1)
قوله: (إذا اشتدّ) أصله اشتدد بوزن افتعل من الشّدّة ، ثمّ أدغمت إحدى الدّالين في الأخرى، ومفهومه أنّ الحرّ إذا لَم يشتدّ لَم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى.
قوله: (فأبردوا) بقطع الهمزة وكسر الرّاء، أي: أخّروا إلى أن يبرد الوقت. يقال أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظّهيرة، ومثله في المكان أنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تهامة.
ولفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزّوال لا قبله، إذ وقت الإبراد هو ما إذا انحطّت قوّة الوهج من حرّ الظّهيرة.
والأمر بالإبراد أمر استحباب، وقيل: أمر إرشاد، وقيل: بل هو للوجوب. حكاه عياض وغيره ، وغفل الكرمانيّ فنقل الإجماع على عدم الوجوب.
(1) أخرجه البخاري (510) من طريق صالح بن كيسان حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره عن أبي هريرة، ونافع مولى ابن عمر عن ابن عمر ، أنهما حدَّثاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.
وأخرجه البخاري (512) ومسلم (615) من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة به. ولمسلم (615) من طرق أخرى عن أبي هريرة نحوه.
ولم أر الحديث في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه.
نعم. قال جمهور أهل العلم: يستحبّ تأخير الظهر في شدّة الحرّ إلى أن يبرد الوقت ، وينكسر الوهج. وخصّه بعضهم بالجماعة.
فأمّا المنفرد فالتّعجيل في حقّه أفضل، وهذا قول أكثر المالكيّة والشّافعيّ أيضاً ، لكن خصّه بالبلد الحارّ.
وقيّد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجداً من بعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كِنٍّ فالأفضل في حقّهم التّعجيل.
والمشهور عن أحمد التّسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق والكوفيّين وابن المنذر.
واستدل له التّرمذيّ بحديث أبي ذرٍّ قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال له: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد حتى ساوى الظل التلول ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره. لأنّ في روايته أنّهم كانوا في سفر، وهي روايةٌ للبخاري أيضاً.
قال: فلو كان على ما ذهب إليه الشّافعيّ لَم يأمر بالإبراد لاجتماعهم في السّفر ، وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد.
قال التّرمذيّ: والأوّل أولى للاتّباع.
وتعقبه الكرمانيّ: بأنّ العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتّخفيف وطلب الرّعي فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة. انتهى.
وأيضاً فلم تجر عادتهم باتّخاذ خباءٍ كبيرٍ يجمعهم، بل كانوا يتفرّقون
في ظلال الشّجر، وليس هناك كِنّ يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشّافعيّ، وغايته أنّه استنبط من النّصّ العامّ - وهو الأمر بالإبراد - معنى يخصّصه، وذلك جائز على الأصحّ في الأصول، لكنّه مبنيٌّ على أنّ العلة في ذلك تأذّيهم بالحرّ في طريقهم.
وللمتمسّك بعمومه أن يقول: العلة فيه تأذّيهم بحرّ الرّمضاء في جباههم حالة السّجود، ويؤيّده حديث أنس: كنّا إذا صلينا خلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالظّهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ. رواه أبو عوانة في " صحيحه " بهذا اللفظ ، وأصله في مسلم، وفي حديث أنس أيضاً في الصّحيحين نحوه. وسيأتي قريباً (1).
والجواب عن ذلك: أنّ العلة الأولى أظهر، فإنّ الإبراد لا يزيل الحرّ عن الأرض.
وذهب بعضهم. إلى أنّ تعجيل الظهر أفضل مطلقاً. وقالوا: معنى " أبردوا ": صلّوا في أوّل الوقت أخذاً من برد النّهار وهو أوّله.
وهو تأويلٌ بعيدٌ، ويردّه قوله " فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم " إذ التّعليل بذلك يدلّ على أنّ المطلوب التّأخير، وحديث أبي ذرٍّ في البخاري صريح في ذلك حيث قال: انتظر انتظر.
والحامل لهم على ذلك حديث خبّاب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّ الرّمضاء في جباهنا وأكفّنا ، فلم يشكنا. أي: فلم يزل شكوانا،
(1) يعني به حديث أنس رضي الله عنه الآتي بعد حديثين حيث ذكره صاحب العمدة.
وهو حديثٌ صحيحٌ رواه مسلم. (1)
وتمسّكوا أيضاً بالأحاديث الدّالة على فضيلة أوّل الوقت، وبأنّ الصّلاة حينئذٍ أكثر مشقّة فتكون أفضل.
والجواب عن حديث خبّاب:
الجواب الأول: أنّه محمولٌ على أنّهم طلبوا تأخيراً زائداً عن وقت الإبراد وهو زوال حرّ الرّمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت، فلذلك لَم يجبهم.
الجواب الثاني: هو منسوخٌ بأحاديث الإبراد فإنّها متأخّرة عنه.
واستدل له الطّحاويّ بحديث المغيرة بن شعبة قال: كنّا نُصلِّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثمّ قال لنا: أبردوا بالصّلاة. الحديث.
وهو حديث رجاله ثقات. رواه أحمد وابن ماجه وصحّحه ابن حبّان.
ونقل الخلال عن أحمد أنّه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) هو في صحيحه (619) من طريق أحمد بن يونس وعون بن سلام كلاهما عن زهير عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خبّاب. دون قوله (في جباهنا وأكفّنا).
ورواه البغوي في " شرح السنة "(1/ 275) من طريق أحمد بن يونس - شيخ مسلم - عن زهير. بهذه الزيادة. ورواه أيضاً البيهقي في " الكبرى "(2/ 105) من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق. بهذه الزيادة.
وقد تنبّه ابن حجر في " التلخيص "(1/ 252) إلى كون هذه الزيادة ليست عند مسلم. فعزاه للحاكم في الأربعين من طريق أحمد بن يونس. ثم ذكر أنه عند مسلم بدونها.
الجواب الثالث: جمع بعضهم بين الحديثين: بأنّ الإبراد رخصة والتّعجيل أفضل، وهو قول مَن قال إنّه أمر إرشاد.
الجواب الرابع: عكسه بعضهم ، فقال: الإبراد أفضل. وحديث جبّاب يدلّ على الجواز ، وهو الصّارف للأمر عن الوجوب.
كذا قيل. وفيه نظرٌ؛ لأنّ ظاهره المنع من التّأخير.
وقيل معنى قول خبّاب " فلم يشكنا ". أي: فلم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد، حكي عن ثعلب.
ويردّه أنّ في الخبر زيادةً رواها ابن المنذر بعد قوله " فلم يشكنا " وقال: إذا زالت الشّمس فصلّوا. (1)
وأحسن الأجوبة كما قال المازريّ الأوّل.
والجواب عن أحاديث أوّل الوقت أنّها عامّةٌ أو مطلقة ، والأمر بالإبراد خاصّ فهو مقدّم.
ولا التفات إلى مَن قال: التّعجيل أكثر مشقّة فيكون أفضل؛ لأنّ الأفضليّة لَم تنحصر في الأشقّ، بل قد يكون الأخفّ أفضل كما في قصر الصّلاة في السّفر
(1) وأخرج هذه الزيادة أيضاً الطبراني في " الكبير "(9/ 79) و " الأوسط "(2054) والبيهقي في " الكبرى "(1/ 644) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب به.
ورواه الطبراني في " الكبير "(4/ 79) من طريق عمرو بن خالد الحراني وعمرو بن مرزوق كلاهما عن زهير عن أبي إسحاق. بهذه الزيادة. وقد صحَّح هذه الزيادة ابن القطان.
انظر البدر المنير لابن الملقن (3/ 650) والتلخيص الحبير للشارح (1/ 613).
قوله: (بالصّلاة) كذا للأكثر، والباء للتّعدية ، وقيل زائدة. ومعنى أبردوا أخّروا على سبيل التّضمين. أي: أخّروا الصّلاة.
وفي رواية الكشميهنيّ " عن الصّلاة "، فقيل: زائدة أيضاً ، أو عن بمعنى الباء، أو هي للمجاوزة ، أي: تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدّة الحرّ.
والمراد بالصّلاة الظهر؛ لأنّها الصّلاة التي يشتدّ الحرّ غالباً في أوّل وقتها.
وقد جاء صريحاً في حديث أبي سعيد ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبردوا بالظهر فإن شدة. الحديث. أخرجه البخاري، فلهذا حمل البخاري المطلق على المقيّد. والله أعلم
وقد حمل بعضهم الصّلاة على عمومها بناءً على أنّ المفرد المعرّف يعمّ، فقال به أشهب في العصر، وقال به أحمد في روايةٍ عنه في الشّتاء حيث قال: تؤخّر في الصّيف دون الشّتاء.
ولَم يقل أحدٌ به في المغرب ، ولا في الصّبح لضيق وقتهما.
قوله: (فإنّ شدّة الحرّ) تعليل لمشروعيّة التّأخير المذكور.
وهل الحكمة فيه دفع المشقّة لكونها قد تسلب الخشوع؟. وهذا أظهر.
أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيّده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له: أقصر عن الصّلاة عند استواء الشّمس ، فإنّها ساعة تسجّر فيها جهنّم.
وقد استشكل هذا بأنّ الصّلاة سبب الرّحمة ، ففعلها مظنّة لطرد العذاب. فكيف أمر بتركها؟.
وأجاب عنه أبو الفتح اليعمريّ: بأنّ التّعليل إذا جاء من جهة الشّارع وجب قبوله. وإن لَم يفهم معناه.
واستنبط له الزين بن المنير معنىً يناسبه فقال: وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطّلب إلَاّ ممّن أذن له فيه ، والصّلاة لا تنفكّ عن كونها طلباً ودعاءً فناسب الاقتصار عنها حينئذٍ. واستدل بحديث الشّفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلّهم للأمم بأنّ الله تعالى غضب غضباً لَم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، سوى نبيّنا صلى الله عليه وسلم فلم يعتذر ، بل طلب لكونه أذن له في ذلك. (1)
ويمكن أن يقال: سجر جهنّم سبب فيحها ، وفيحها سبب وجود شدّة الحرّ ، وهو مظنّة المشقّة التي هي مظنّة سلب الخشوع ، فناسب أن لا يُصلَّى فيها.
لكن يرِدُ عليه أنّ سجرها مستمرّ في جميع السّنة ، والإبراد مختصّ بشدّة الحرّ فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقّة، وحكمة التّرك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب. والله أعلم.
قوله: (من فيح جهنّم) أي: من سعة انتشارها وتنفّسها، ومنه مكانٌ أفيح. أي: متّسع، وهذا كناية عن شدّة استعارها، وظاهره. أنّ مثار وهج الحرّ في الأرض من فيح جهنّم حقيقة، وقيل: هو من مجاز
(1) أخرجه البخاري (4435) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -
التّشبيه، أي: كأنّه نار جهنّم في الحرّ.
والأوّل أولى. ويؤيّده ما في الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: اشتكت النّار إلى ربّها ، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير.
تنبيهان:
الأوّل: قضيّة التّعليل المذكور ، قد يتوهّم منها مشروعيّة تأخير الصّلاة في وقت شدّة البرد، ولَم يقل به أحد؛ لأنّها تكون غالباً في وقت الصّبح فلا تزول إلَاّ بطلوع الشّمس، فلو أخّرت لخرج الوقت.
الثّاني: النّفس المذكور ينشأ عنه أشدّ الحرّ في الصّيف ، وإنّما لَم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشدّه لوجود المشقّة عند شديده أيضاً ، فالأشدّيّة تحصل عند التّنفّس، والشّدّة مستمرّة بعد ذلك ، فيستمرّ الإبراد إلى أن تذهب الشّدّة. والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في غاية الإبراد.
فقيل: حتّى يصير الظّلّ ذراعاً بعد ظل الزّوال، وقيل: ربع قامةٍ، وقيل: ثلثها، وقيل: نصفها، وقيل: غير ذلك. ونزّلها المازريّ على اختلاف الأوقات.
والجاري على القواعد ، أنّه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتدّ إلى آخر الوقت.
وأمّا ما وقع عند البخاري بلفظ " حتّى ساوى الظّلّ التّلول " ، فظاهره يقتضي أنّه أخّرها إلى أن صار ظلّ كل شيءٍ مثله.
ويحتمل: أن يراد بهذه المساواة ظهور الظّل بجنب التّل بعد أن لَم يكن ظاهراً ، فساواه في الظّهور لا في المقدار.
أو يقال: قد كان ذلك في السّفر ، فلعله أخّر الظّهر حتّى يجمعها مع العصر.