الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العشرون
69 -
عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السُّوائيّ رضي الله عنه ، قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في قبّةٍ له حمراء من أدمٍ ، قال: فخرج بلالٌ بوضوءٍ ، فمن ناضحٍ ونائلٍ ، قال: فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حُلةٌ حمراء ، كأنّي أنظر إلى بياض ساقيه ، قال: فتوضّأ وأذّن بلالٌ ، قال: فجعلتُ أتتبَّع فاه ههنا وههنا ، يقول يميناً وشمالاً: حيَّ على الصّلاة ; حيَّ على الفلاح ، ثمّ رُكِزتْ له عنزةٌ ، فتقدّم وصلَّى الظّهر ركعتين ، ثمّ لَم يزل يُصلِّي ركعتين حتّى رجع إلى المدينة. (1)
قوله: (عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله) وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وكان يقال له أيضا: وهب الله ووهب الخير.
وسواءة بضم المهملة وتخفيف الواو والمد والهمز ، وآخره هاء تأنيث ابن عامر بن صعصعة. (2)
قوله: (قبةٍ حمراءَ من أَدَمٍ) بفتح الهمزة والمهملة. هو الجلد المدبوغ
(1) أخرجه البخاري (369 ، 473 ، 477 ، 607 ، 608 ، 3373 ، 5449 ، 5521) ومسلم (503) من طرق عون بن أبي جحيفة عن أبيه. مطولاً ومختصراً
وأخرجه البخاري (185 ، 479 ، 3360) ومسلم (503) من طريق شعبة عن الحكم وعون عن أبي جحيفة به نحوه.
(2)
قدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم في أواخر عمره، وحفظ عنه ثم صحِب عليّاً بعده، وولاه شرطة الكوفة لَمَّا ولي الخلافة. وفي الصّحيح عنه: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن علي يُشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصاً، فمات قبل أن نقبضها، وكان عليّ يُسمّيه وهب الخير. قال الواقديّ: مات في ولاية بشر على العراق. وقال ابن حبّان: سنة 64. الاصابة (6/ 490) بتجوز.
، وكأنّه صبغ بحمرةٍ قبل أن يجعل قبّة.
قوله: (فخرج بلال بوضوء) بفتح الواو ، أي: الماء الذي توضأ به.
قوله: (فمن ناضح ونائل) في رواية لهما " رأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء، فمَن أصاب منه شيئاً تمسح به، ومَن لَم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه ".
وللبخاري " فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به " كأنّهم اقتسموا الماء الذي فضل عنه.
ويحتمل: أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم.
وفيه دلالة بيّنة على طهارة الماء المستعمل. وأخرج ابن أبي شيبة والدّارقطنيّ والبخاري معلَّقاً من طريق قيس بن أبي حازم عن جرير ، أنه كان يستاك ، ويغمس رأس سواكه في الماء ، ثمّ يقول لأهله: توضّئوا بفضله، لا يرى به بأساً.
وإنّما أراد البخاريّ (1) أنّ صنيعه ذلك لا يغيّر الماء، وكذا مجرّد الاستعمال لا يغيّر الماء فلا يمتنع التّطهّر به. وقد صحَّحه الدّارقطنيّ بلفظ " كان يقول لأهله: توضّئوا من هذا الذي أدخل فيه سواكي ".
وقد روي مرفوعاً، أخرجه الدّارقطنيّ من حديث أنس ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتوضّأ بفضل سواكه. وسنده ضعيف.
(1) حيث بوَّب على الحديث (باب استعمال فضل وضوء الناس) ثم ذكر أثرَ جرير معلَّقاً ، ثم أورد حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
وذكر أبو طالب في " مسائله " عن أحمد ، أنّه سأله عن معنى هذا الحديث ، فقال: كان يدخل السّواك في الإناء ويستاك، فإذا فرغ توضّأ من ذلك الماء.
وقد استشكل إيراد البخاريّ له في هذا الباب المعقود لطهارة الماء المستعمل.
وأجيب: بأنّه ثبت أنّ السّواك مطهّر للفم، فإذا خالط الماء ، ثمّ حصل الوضوء بذلك الماء ، كان فيه استعمال للمستعمل في الطّهارة.
قوله: (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حُلَّة) قال أبو عبيد: الحلل برود اليمن. والحلة إزار ورداء. ونقله ابن الأثير ، وزاد: إذا كان من جنس واحد.
وقال ابن سيده في المحكم: الْحُلة برد أو غيره.
وحكى عياض ، أنَّ أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين كما حَلَّ طيهما.
وقيل: لا يكون الثوبان حلة حتى يلبس أحدهما فوق الآخر فإذا كان فوقه فقد حلَّ عليه. والأول أشهر
قوله: (حمراء) بوَّب عليه البخاري بقوله " باب الصلاة في الثوب الأحمر " يشير إلى الجواز، والخلاف في ذلك مع الحنفيّة. فإنّهم قالوا: يكره. وتأوّلوا حديث الباب بأنّها كانت حلة من برود فيها خطوطٌ حمرٌ.
ومن أدلتهم. ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال
: مرّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلَّم عليه فلم يردّ عليه.
وهو حديثٌ ضعيف الإسناد، وإن وقع في بعض نسخ التّرمذيّ أنّه قال: حديث حسن؛ لأنّ في سنده كذا. (1)
وعلى تقدير أن يكون ممّا يحتجّ به. فقد عارضه ما هو أقوى منه. وهو واقعة عين، فيحتمل أن يكون ترك الرّدّ عليه بسببٍ آخر.
وحمله البيهقيّ على ما صبغ بعد النّسج. وأمّا ما صُبغ غزله ثمّ نسج ، فلا كراهية فيه.
وقال ابن التّين: زعم بعضهم. أنّ لُبس النّبيّ صلى الله عليه وسلم لتلك الحلة كان من أجل الغزو، وفيه نظرٌ؛ لأنّه كان عقب حجّة الوداع ، ولَم يكن له إذ ذاك غزوٌ. (2)
قوله: (كأني أنظر إلى بياض ساقيه) وللبخاري " خرج في حلة مشمراً " والتشمر: هو بالشّين المعجمة وتشديد الميم: رفع أسفل الثّوب.
قال الإسماعيليّ: وهذا هو التّشمير ، ويؤخذ منه أنّ النّهي عن كفّ الثّياب في الصّلاة محلّه في غير ذيل الإزار، ويحتمل: أن تكون هذه الصّورة وقعت اتّفاقاً، فإنّها كانت في حالة السّفر ، وهو محلّ التّشمير.
(1) كذا في النسخ المطبوعة. ولعلّ فيه سقطاً. وفي سنده أبو يحيى القتات. كما سيأتي في كلام الشارح. على حديث البراء (403)
(2)
سيأتي مزيد بسط إن شاء الله ، على مسألة لبس الثوب الأحمر في شرح حديث البراء في كتاب اللباس برقم (403)
قوله: (فجعلت أتتبّع فاه ههنا وههنا) في رواية عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان عن عون عند أبي عوانة في صحيحه " فجعل يتتبّع بفيه يميناً وشمالاً ".
وفي رواية وكيع عن سفيان عند الإسماعيليّ " رأيت بلالاً يؤذّن يتتبّع بفيه " ووصف سفيان " يميل برأسه يميناً وشمالاً ".
والحاصل أنّ بلالاً كان يتتبّع بفيه النّاحيتين، وكان أبو جحيفة ينظر إليه ، فكلٌّ منهما متتبّع باعتبارٍ.
قوله: (يقول يميناً وشمالاً: حيَّ على الصّلاة; حيَّ على الفلاح) وللبخاري " ههنا وهها بالأذان " أورده مختصراً.
ورواية وكيع عن سفيان عند مسلم أتمّ حيث قال " فجعلت أتتبّع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً ، يقول: حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح " وهذا فيه تقييدٌ للالتفات في الأذان وأنّ محله عند الحيعلتين.
وبوّب عليه ابن خزيمة " انحراف المؤذّن عند قوله حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح بفمه لا ببدنه كله " قال: وإنّما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثمّ ساقه من طريق وكيع أيضاً بلفظ " فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يميناً وشمالاً ".
وفي رواية عبد الرّزّاق عن الثّوريّ في هذا الحديث زيادتان:
إحداهما: الاستدارة.
والأخرى: وضع الإصبع في الأذن، ولفظه عند التّرمذيّ " رأيت بلالاً يؤذّن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وإصبعاه في أذنيه ".
فأمّا قوله " ويدور ". فهو مدرجٌ في رواية سفيان عن عونٍ، بيّن ذلك يحيى بن آدم عن سفيان عن عونٍ عن أبيه قال: رأيت بلالاً أذّن ، فأتبع فاه هاهنا وهاهنا والتفت يميناً وشمالاً. قال سفيان: كان حجّاجٌ - يعني ابن أرطأة - يذكر لنا عن عونٍ أنّه قال: فاستدار في أذانه. فلمّا لقينا عوناً لَم يذكر فيه الاستدارة، أخرجه الطّبرانيّ وأبو الشّيخ من طريق يحيى بن آدم.
وكذا أخرجه البيهقيّ من طريق عبد الله بن الوليد العدنيّ عن سفيان، لكن لَم يسمّ حجّاجاً، وهو مشهور عن حجّاجٍ. أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم من طريقه.
ولَم ينفرد به. بل وافقه إدريس الأوديّ ومحمّد العرزميّ عن عونٍ، لكنّ الثّلاثة ضعفاء، وقد خالفهم من هو مثلهم أو أمثل - وهو قيس بن الرّبيع -. فرواه عن عون. فقال في حديثه " ولَم يستدر " أخرجه أبو داود.
ويمكن الجمع: بأنّ من أثبت الاستدارة عنى استدارة الرّأس، ومن نفاها عنى استدارة الجسد كله.
ومشى ابن بطّالٍ ومن تبعه على ظاهره ، فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله.
قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذّنين للإسماع عند التّلفّظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله أو بوجهه فقط ، وقدماه قارّتان مستقبل القبلة؟ واختلف أيضاً. هل يستدير في
الحيعلتين الأوليين مرّةً ، وفي الثّانيتين مرّةً؟ أو يقول حيّ على الصّلاة عن يمينه ، ثمّ حيّ على الصّلاة عن شماله. وكذا في الأخرى؟.
قال: ورجح الثّاني ، لأنّه يكون لكل جهةٍ نصيبٌ منهما، قال: والأوّل أقرب إلى لفظ الحديث.
وفي المغني عن أحمد: لا يدور إلَاّ إن كان على منارةٍ يقصد إسماع أهل الجهتين.
وأمّا وضع الإصبعين في الأذنين: فقد رواه مؤمّلٌ أيضاً عن سفيان. أخرجه أبو عوانة، وله شواهد ذكرتها في " تعليق التّعليق ".
من أصحّها. ما رواه أبو داود وابن حبّان من طريق أبي سلامٍ الدّمشقيّ ، أنّ عبد الله الهوزنيّ حدّثه ، قال: قلت لبلالٍ: كيف كانت نفقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث. وفيه. قال بلال: فجعلت إصبعي في أذني فأذّنت.
ولابن ماجه والحاكم من حديث سعد القرظ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه. وفي إسناده ضعفٌ.
قال العلماء في ذلك فائدتان:
إحداهما: أنّه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديثٌ ضعيفٌ. أخرجه أبو الشّيخ من طريق سعد القرظ عن بلالٍ.
ثانيهما: أنّه علامة للمؤذّن ليعرف من رآه على بُعدٍ ، أو كان به صممٌ أنّه يؤذّن، ومن ثَمَّ قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنه حسب.
قال التّرمذيّ: استحبّ أهل العلم أن يدخل المؤذّن إصبعيه في
أذنيه في الأذان، قال: واستحبّه الأوزاعيّ في الإقامة أيضاً.
تنبيهٌ: لَم يرد تعيين الإصبع التي يستحبّ وضعها، وجزم النّوويّ أنّها المسبّحة، وإطلاق الإصبع مجازٌ عن الأنملة.
تنبيهٌ آخر: وقع في " المُغني " للموفّق نسبة حديث أبي جحيفة بلفظ " أنّ بلالاً أذّن ووضع إصبعيه في أذنيه " إلى تخريج البخاريّ ومسلم، وهو وهمٌ.
وساق أبو نعيم في " المستخرج " حديث الباب من طريق عبد الرّحمن بن مهديٍّ ، وعبد الرّزّاق عن سفيان بلفظ عبد الرّزّاق من غير بيان فما أجاد، لإيهامه أنّهما متوافقتان.
وقد عرفتَ ما في رواية عبد الرّزّاق من الإدراج، وسلامة رواية عبد الرّحمن من ذلك، والله المستعان.
قوله: (ثم رُكِزَتْ له عنَزَة) تقدّم ضبطها وتفسيرها في الطّهارة في حديث أنس (1).
وفي رواية أبي العميس عن عون عند البخاري " جاء بلال فآذنه بالصّلاة، ثمّ خرج بالعنزة حتّى ركزها بين يديه وأقام الصّلاة ".
وأوّل رواية عمر بن أبي زائدة عن عونٍ عن أبيه في الصحيحين: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبّةٍ حمراء من أدمٍ، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت النّاس يبتدرون ذلك الوضوء فمَن أصاب
(1) برقم (16).
منه شيئاً تمسّح به، ومن لَم يصب منه شيئاً أخذ من بلَل يد صاحبه. وفيها أيضاً. وخرج في حلةٍ حمراء مشمّراً.
وفي رواية مالك بن مِغْوَل عن عون عند البخاري " كأنّي أنظر إلى وبيص ساقيه " ، وبيّن فيها أيضاً أنّ الوضوء الذي ابتدره النّاس كان فضل الماء الذي توضّأ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا هو في رواية شعبة عن الحكم.
وفي رواية مسلمٍ من طريق الثّوريّ عن عونٍ ما يُشعر بأنّ ذلك كان بعد خروجه من مكّة بقوله " ثمّ لَم يزل يُصلِّي ركعتين حتّى رجع إلى المدينة ".
قوله: (فتقدّم ، وصلَّى الظّهر والعصر ركعتين) زادا في رواية لهما " يمر بين يديه المرأة والحمار " أي: بين العنزة والقبلة لا بينه وبين العنزة، ففي رواية عمر بن أبي زائدة عن عون " ورأيت النّاس والدّوابّ يمرّون بين يدي العنزة ".
وفي الحديث من الفوائد.
التماس البركة ممّا لامسه الصّالحون (1)، ووضع السّترة للمصلي حيث يخشى المرور بين يديه ، والاكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة.
(1) قال الشيخ ابن باز رحمه الله (1/ 677): هذا فيه نظرٌ. والصواب أنَّ مثل هذا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم لِمَا جعل الله فيه من البركة ، وغيره لا يُقاس عليه لِمَا بينهما من الفرق العظيم ، ولأنَّ فتح هذا الباب قد يفضي إلى الغلو والشرك كما وقع من بعض الناس. نسأل الله العافية.
وأنّ قصر الصّلاة في السّفر أفضل من الإتمام لِمَا يشعر به الخبر من مواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ، وأنّ ابتداء القصر من حين مفارقة البلد الذي يخرج منه.
وفيه تعظيم الصّحابة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه استحباب تشمير الثّياب لا سيّما في السّفر ، وكذا استصحاب العنزة ونحوها، ومشروعيّة الأذان في السّفر.
وجواز النّظر إلى السّاق. وهو إجماعٌ في الرّجل حيث لا فتنة.
وجواز لبس الثّوب الأحمر، وفيه خلافٌ تقدم ذكره.
تكميلٌ: استدل البخاري بالحديث على مشروعية السترة في مكة وغيرها.
قال ابن المنير: إنّما خصّ مكّة بالذّكر دفعاً لتوهّم من يتوهّم أنّ السّترة قبلةٌ، ولا ينبغي أن يكون لمكّة قبلةٌ إلَاّ الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. انتهى.
والذي أظنّه أنّه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرّزّاق. حيث قال في " باب لا يقطع الصّلاة بمكّة شيء " ثمّ أخرج عن ابن جريجٍ عن كثير بن كثير بن المطّلب عن أبيه عن جدّه قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي النّاس - سترة. وأخرجه من هذا الوجه أيضاً أصحاب السّنن.
ورجاله موثّقون إلَاّ أنّه معلول، فقد رواه أبو داود عن أحمد عن ابن عيينة قال: كان ابن جريجٍ أخبرنا به هكذا ، فلقيتُ كثيراً ، فقال:
ليس مِن أَبِي سمعتُه ، ولكن عن بعض أهلي عن جدّي.
فأراد البخاريّ التّنبيه على ضعْف هذا الحديث ، وأن لا فرق بين مكّة وغيرها في مشروعيّة السّترة، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة ، وقد قدّمنا وجه الدّلالة منه. وهذا هو المعروف عند الشّافعيّة ، وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المُصلِّي بين مكّة وغيرها.
واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطّائفين دون غيرهم للضّرورة.
وعن بعض الحنابلة. جواز ذلك في جميع مكّة.
تكميلٌ آخر: زاد البخاري " وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي. فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك " وقع مثله في حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه. عند الطّبرانيّ بإسنادٍ قويّ.
وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم في أثناء حديث قال: فمسح صدري فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنّما أخرجها من جونة عطّار.
وفي حديث وائل بن حجرٍ عند الطّبرانيّ والبيهقيّ: لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمسّ جلدي جلده ، فأتعرّفه بعدُ في يدي ، وإنّه لأطيب رائحة من المسك.
وفي حديثه عند أحمد " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلوٍ من ماء، فشرب منه ثمّ مجّ في الدّلو ثمّ في البئر ، ففاح منه مثل ريح المسك ".
وروى مسلم حديث أنس. في جمع أمّ سليم عرَقَه صلى الله عليه وسلم ، وجعلها إيّاه في الطّيب، وفي بعض طرقه " وهو أطيب الطّيب ".
وأخرج أبو يعلى والطّبرانيّ من حديث أبي هريرة. في قصّة الذي استعان به صلى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته ، فلم يكن عنده شيء، فاستدعى بقارورةٍ فسلَتَ له فيها من عرقه ، وقال له: مرها فلتطّيّب به، فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة رائحة ذلك الطّيب فسمّوا بيت الْمُطيّبين. (1)
وروى أبو يعلى والبزّار بإسنادٍ صحيح عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك، فيقال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) سكت عنه الشارح رحمه الله. وقد أخرجاه من طريق حلبس بن غالب عن الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وحلبس. قال الدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن عدي: بصري منكر الحديث ، وأورد الذهبيُّ الحديثَ في " الميزان " (1/ 587): وهذا منكر جداً.
وقد جزم ابنُ الجوزي في الموضوعات ، والشوكانيُّ في الفوائد المجموعة بوضعه.