الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والعشرون
76 -
عن النّعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لَتُسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم. (1)
ولمسلمٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوّي صفوفنا ، حتّى كأنّما يسوّي بها القداح ، حتّى إذا رأى أنْ قد عقلنا عنه ، ثمّ خرج يوماً فقام ، حتّى إذا كاد أنْ يكبّر ، فرأى رجلاً بادياً صدُره ، فقال: عباد الله ، لتسوُّن صفوفكم ، أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم. (2)
قوله: (عن النّعمان بن بشيرٍ) بن سعد الأنصاري الصحابي بن الصحابي (3).
(1) أخرجه البخاري (685) ومسلم (436) من طريق عمرو بن مرّة عن سالم بن أبي الجعد عن النعمان رضي الله عنه به.
(2)
أخرجه مسلم (436) من طرق عن سماك بن حرب عن النعمان به.
(3)
الخزرجي. يكنى أبا عبد الله. قال الواقديّ: كان أوّل مولود في الإسلام من الأنصار بعد الهجرة بأربعة عشر شهراً، وعن ابن الزبير: كان النعمان بن بشير أكبرَ مني بستة أشهر.
قال أبو مسهر، عن شعبة بن عبد العزيز: كان قاضي دمشق بعد فضالة بن عبيد، وقال سماك بن حرب: استعمله معاوية على الكوفة، وكان من أخطب من سمعت.
وقال الهيثم: نقله معاوية من إمرة الكوفة إلى إمرة حمص، وضمّ الكوفة إلى عبيد اللَّه بن زياد، وكان بالشّام لما مات يزيد بن معاوية. ولَمَّا استخلف معاوية بن يزيد، ومات عن قرب ، دعا النعمان إلى ابن الزّبير ثم دعا إلى نفسه، فواقعه مروان بن الحكم بعد أن واقع الضّحاك بن قيس، فقتل النّعمان بن بشير، وذلك في سنة خمس وستين. الإصابة (6/ 346) بتجوز.
وانظر ترجمة والده رقم (290).
قوله: (لتسوُّنَّ) بضمّ التّاء المثنّاة وفتح السّين وضمّ الواو المشدّدة وتشديد النّون، وللمستملي " لتسوّون " بواوين.
قال البيضاويّ: هذه اللام هي التي يتلقّى بها القسم، والقسم هنا مقدّر ولهذا أكّده بالنّون المشدّدة. انتهى.
وسيأتي من رواية أبي داود قريباً إبراز القسم في هذا الحديث.
قوله: (أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي: إن لَم تسوّوا، والمراد بتسوية الصّفوف اعتدال القائمين بها على سمتٍ واحدٍ، أو يراد بها سدّ الخلل الذي في الصّفّ.
واختلف في الوعيد المذكور.
فقيل: هو على حقيقته ، والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه بجعله موضع القفا أو نحو ذلك، فهو نظير ما سيأتي من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار (1).
وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة، وعلى هذا فهو واجب، والتّفريط فيه حرامٌ.
ويؤيّد حمله على ظاهره حديث أبي أُمامة: لتسوّنّ الصّفوف أو لتطمسنّ الوجوه. أخرجه أحمد. وفي إسناده ضعفٌ.
ولهذا قال ابن الجوزيّ: الظّاهر أنّه مثل الوعيد المذكور في قوله تعالى (من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها) وحديث أبي
(1) انظر حديث أبي هريرة الآتي برقم (79)
أُمامة. أخرجه أحمد ، وفي إسناده ضعفٌ.
ومنهم: من حمله على المجاز.
قال النّوويّ: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول: تغيّر وجه فلانٍ عليّ، أي: ظهر لي من وجهه كراهية؛ لأنّ مخالفتهم في الصّفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظّواهر سبب لاختلاف البواطن.
ويؤيّده رواية أبي داود وصحَّحه ابن خزيمة من رواية أبي القاسم الجدليّ - واسمه حسين بن الحارث - قال: سمعت النّعمان بن بشير يقول: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على النّاس بوجهه. فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لتقيمنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم. قال: فلقد رأيتُ الرّجل منّا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه ".
وقال القرطبيّ: معناه تفترقون فيأخذ كلّ واحدٍ وجهاً غير الذي أخذ صاحبه؛ لأنّ تقدّم الشّخص على غيره مظنّة الكبر المفسد للقلب الدّاعي إلى القطيعة.
والحاصل أنّ المراد بالوجه. إن حُمل على العضو المخصوص فالمخالفة إمّا بحسب الصّورة الإنسانيّة أو الصّفة أو جعل القدّام وراء.
وإن حُمل على ذات الشّخص فالمخالفة بحسب المقاصد. أشار إلى ذلك الكرمانيّ. ويحتمل: أن يراد بالمخالفة في الجزاء ، فيجازي
المسوّي بخيرٍ ، ومن لا يسوّي بشرٍّ.
وروى البخاري عن بشير بن يسار الأنصارى عن أنس بن مالك ، أنه قدم المدينة ، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: ما أنكرتُ شيئاً إلَاّ أنكم لا تقيمون الصفوف (1).
قال ابن رشيد: أورد فيه حديث أنس " ما أنكرتُ شيئاً إلَاّ أنكم لا تقيمون الصفوف ". وتعقّب: بأن الإنكار قد يقع على ترك السنة فلا يدل ذلك على حصول الإثم.
وأجيب: بأنه لعله حمل الأمر في قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) على أنَّ المراد بالأمر الشأن والحال لا مجرد الصيغة، فيلزم منه أنَّ من خالف شيئاً من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم أن يأثم لِمَا يدلُّ عليه الوعيد المذكور في الآية، وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. انتهى كلام ابن رشيد ملخصاً.
وهو ضعيف؛ لأنه يفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون؛ لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب.
وأما قول ابن بطال: إنَّ تسوية الصفوف لَمَّا كانت من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلها المدح عليها دلَّ على أنَّ تاركها يستحق الذم.
(1) وبوَّب عليه البخاري " باب إثم من لَم يتم الصفوف ".
فهو متعقب من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أن يكون آثماً. سلَّمنا، لكن يرد عليه التعقّب الذي قبله.
ويحتمل: أن يكون البخاري أخَذَ الوجوب من صيغة الأمر في قوله " سوّوا صفوفكم ". ومن عموم قوله " صلَّوا كما رأيتموني أصلي " ومن ورود الوعيد على تركه.
فرَجَحَ عنده بهذه القرائن أنَّ إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب. وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن.
ومع القول بأن التسوية واجبة. فصلاة من خالف ولَم يسوِّ صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك. أنَّ أنساً مع إنكاره عليهم لَم يأمرهم بإعادة الصلاة.
وأفرط ابن حزمٍ فجزم بالبطلان، ونازع من ادّعى الإجماعَ على عدم الوجوب بما صحّ عن عمر ، أنّه ضرب قدم أبي عثمان النّهديّ لإقامة الصّفّ، وبما صحّ عن سويد بن غفلة ، قال: كان بلال يسوّي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصّلاة ".
فقال: ما كان عمر وبلال يضربان أحداً على ترك غير الواجب.
وفيه نظرٌ، لجواز أنّهما كانا يريان التّعزير على ترك السّنّة.
قوله: (ولمسلمٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوّي صفوفنا ، حتّى كأنّما
يُسوّي بها القِداح .. الحديث) (1)
(1) قال ابن الملقن (2/ 520): قوله: (القداح) بكسر القاف جمع قِدح بكسرها أيضاً وسكون الدال كذلك ، وهي خشب السهام حين تُنحت وتُبرى وتُهيّأ للرمي به.
وهو تمثيل حسنٌ جداً ، فإنَّ السهام يُطلب في تسويتها التحذير وحسن الاستقامة ، كيلا يطيش عند الرمي ، فلا يصيب الغرض. فشبَّه تسوية الصفوف بها. فالمعنى كان يبالغ في تسويتها. حتى يصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها.
وإنما قال القِداح ولم يقل القِدح لأجل مقابلة الصفوف ، وقد كان بعض أئمة السلف يوكّلون رجالاً يسوّون الصفوف.
قوله: (حتى رأى أن قد عقلنا) أي: فهمنا ما أَمرَنا به من التسوية ، وكأنه صلى الله عليه وسلم راقبهم في التسوية حتى ظهر له فهمهم المقصود منها وامتثالهم له. وهذه الرؤية رؤية بصر ، لأن فهمهم ليس مما يدرك بحاسة البصر.
وفيه جواز كلام الإمام بعد الإقامة وقبل الإحرام ، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور للحاجة ، سواء كان الكلام لمصلحة الصلاة أو لَم يكن.
ومنعه أبو حنيفة ، وقال: يكبر الإمام إذا قال المؤذن " قد قامت الصلاة ". والحديث حجة عليه ، نعم. إذا كان لا مصلحة أصلاً يكون مكروهاً.
وقال اللخمي من أصحاب مالك: إذا طال الكلام أعاد الإقامة.
وفيه كراهة التقدّم على المأمومين في الصف سواء كان التقدم بقدمه أو بمنكبه أو بجميع بدنه ، فإنه إذا كان صلى الله عليه وسلم منع بادي الصدر الذي لا يظهر فيه كبير مخالفة في التسوية وهدّد من فعله ، فما ظنك بغيره من البدن والقدم والمنكب؟!. انتهى كلامه.