المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الستون 109 - عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٢

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب فضل الجماعة ووجوبها

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب الأذان والإقامة

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌باب الصّفوف

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌باب الإمامة

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌باب صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌الحديث الأربعون

- ‌الحديث الواحد والأربعون

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌الحديث التاسع والأربعون

- ‌الحديث الخمسون

- ‌باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

- ‌الحديث الواحد والخمسون

- ‌باب القراءة في الصّلاة

- ‌الحديث الثاني والخمسون

- ‌الحديث الثالث والخمسون

- ‌الحديث الرابع والخمسون

- ‌الحديث الخامس والخمسون

- ‌الحديث السادس والخمسون

- ‌الحديث السابع والخمسون

- ‌باب ترك الجهر بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

- ‌الحديث الثامن والخمسون

- ‌الحديث التاسع والخمسون

- ‌باب سجود السّهو

- ‌الحديث الستون

- ‌الحديث الواحد والستون

- ‌باب المرور بين يدي المُصلِّي

- ‌الحديث الثاني والستون

- ‌الحديث الثالث والستون

- ‌الحديث الرابع والستون

- ‌الحديث الخامس والستون

- ‌بابٌ جامعٌ

- ‌الحديث السادس والستون

- ‌الحديث السابع والستون

- ‌الحديث الثامن والستون

- ‌الحديث التاسع والستون

- ‌الحديث السبعون

- ‌الحديث الواحد والسبعون

- ‌الحديث الثاني والسبعون

- ‌الحديث الثالث والسبعون

- ‌الحديث الرابع والسبعون

الفصل: ‌ ‌الحديث الستون 109 - عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة

‌الحديث الستون

109 -

عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيّ ، قال ابن سيرين: وسَمّاها أبو هريرة. ولكن نسيت أنا ، قال: فصلَّى بنا ركعتين ، ثمّ سلَّم. فقام إلى خشبةٍ معروضةٍ في المسجد ، فاتّكأ عليها كأنّه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبّك بين أصابعه. وخرجت السَّرَعَان من أبواب المسجد ، فقالوا: قصرت الصّلاة - وفي القوم أبو بكرٍ وعمر - فهابا أن يُكلِّماه. وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ ، يقال له: ذو اليدين. فقال: يا رسولَ الله ، أنسيت ، أم قصرت الصّلاة؟ قال: لَم أنس ولَم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدّم فصلَّى ما ترك. ثمّ سلَّم ، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول. ثمّ رفع رأسه فكبّر ، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول. ثمّ رفع رأسه وكبّر. فربّما سألوه ، ثمّ سلم؟ قال: فنبّئت أنّ عمران بن حصينٍ قال: ثمّ سلَّم. (1)

قال المصنِّف: العشي مابين زوال الشمس إلى غروبها: قال الله تعالى (وسبِّح بحمد ربك بالعشي والإبكار).

(1) أخرجه البخاري (468 ، 682 ، 683 ، 1172 ، 5704 ، 6823) ومسلم (573) من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة به.

وأخرجه البخاري (583 ، 1169) ومسلم (573) من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مختصراً نحوه. ولمسلم (573) من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة نحوه.

ص: 431

قوله: (صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ظاهر في أنّ أبا هريرة حضر القصّة ، وحمله الطّحاويّ على المجاز ، فقال: إنّ المراد به صلَّى بالمسلمين ، وسبب ذلك قول الزّهريّ: إنّ صاحب القصّة استشهد ببدرٍ، فإنّ مقتضاه أن تكون القصّة وقعت قبل بدرٍ ، وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين (1).

لكن اتّفق أئمّة الحديث - كما نقله ابن عبد البرّ وغيره - على أنّ الزّهريّ وهم في ذلك، وسببه أنّه حمل القصّة لذي الشّمالين، وذو الشّمالين هو الذي قتل ببدرٍ ، وهو خزاعيّ. واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة.

وأمّا ذو اليدين. فتأخّر بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمدّةٍ ، لأنّه حدّث بهذا الحديث بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطّبرانيّ وغيره، وهو سلميّ ، واسمه الخرباق على ما سيأتي البحث فيه.

وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة " فقام رجلٌ من بني سليم "، فلمّا وقع عند الزّهريّ بلفظ " فقام ذو الشّمالين " وهو يعرف أنّه قتل ببدرٍ قال لأجل ذلك: إنّ القصّة وقعت قبل بدر.

وقد جوّز بعض الأئمّة أن تكون القصّة وقعت لكلٍّ من ذي الشّمالين وذي اليدين ، وأنّ أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما ،

(1) قال الشيخ ابن باز (2/ 126): صوابه بأكثر من أربع سنين ، لأنَّ غزوة بدرٍ وقعت في رمضان من الثانية من الهجرة ، وإسلام أبي هريرة وقع في عام خيبر في أول سنة سبع. فتأمّل. والله أعلم

ص: 432

وهو قصّة ذي الشّمالين ، وشاهد الآخر وهي قصّة ذي اليدين، وهذا محتمل من طريق الجمع.

وقيل: يُحمل على أنّ ذا الشّمالين كان يقال له أيضاً ذو اليدين وبالعكس ، فكان ذلك سبباً للاشتباه.

ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطّحاويّ ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد اتّفق معظم أهل الحديث من المصنّفين وغيرهم ، على أنّ ذا الشّمالين غير ذي اليدين ، ونصّ على ذلك الشّافعيّ رحمه الله في " اختلاف الحديث ".

قوله: (إحدى صلاتي العشيّ) كذا للأكثر ، وللمستملي والحمويّ " العشاء " بالمدّ ، وهو وهم، فقد صحّ " أنّها الظّهر أو العصر " كما سيأتي، وابتداء العشيّ من أوّل الزّوال.

قوله: (قال ابن سيرين: وسَمّاها أبو هريرة. ولكن نسيت أنا) وللبخاري عن آدم عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة " الظهر أو العصر " كذا في هذه الطّريق بالشّكّ، وللبخاري أيضاً عن أبي الوليد عن شعبة بلفظ " الظّهر " بغير الشّكّ.

ولمسلمٍ من طريق أبي سلمة المذكور " صلاة الظّهر " وله من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة " العصر " بغير شكّ، وللبخاري من طريق ابن سيرين أنّه قال: وأكثر ظنّي أنّها العصر،

ص: 433

ولمسلم " إحدى صلاتي العشيّ، إمّا الظّهر وإمّا العصر ".

والظّاهر أنّ الاختلاف فيه من الرّواة.

وأبعد مَن قال: يحمل على أنّ القصّة وقعت مرّتين.

بل روى النّسائيّ من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين ، أنّ الشّكّ فيه من أبي هريرة ولفظه: صلَّى صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيّ ، قال أبو هريرة: ولكنّي نسيتها.

فالظّاهر أنّ أبا هريرة رواه كثيراً على الشّكّ، وكان ربّما غلب على ظنّه أنّها الظّهر فجزم بها، وتارةً غلب على ظنّه أنّها العصر فجزم بها.

وطرأ الشّكّ في تعيينها أيضاً على ابن سيرين ، وكان السّبب في ذلك الاهتمام بما في القصّة من الأحكام الشّرعيّة.

ولَم تختلف الرّواة في حديث عمران في قصّة الخرباق ، أنّها العصر.

فإن قلنا: إنّهما قصّةٌ واحدةٌ فيترجّح رواية من عيّن العصر في حديث أبي هريرة.

قوله: (فقام إلى خشبةٍ معروضةٍ في المسجد) أي: موضوعة بالعرض ، وللبخاري " في مقدم المسجد " أي: في جهة القبلة.

قوله: (فاتّكأ عليها) وللبخاري " فوضع يده عليها " ، ولمسلمٍ من طريق ابن عيينة عن أيّوب " ثمّ أتى جذعاً في قبلة المسجد فاستند إليها مغضباً ".

ولا تنافي بين هذه الرّوايات ، لأنّها تحمل على أنّ الجذع قبل اتّخاذ المنبر كان ممتدّاً بالعرض، وكأنّه الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل

ص: 434

اتّخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشّرّاح.

قوله: (ووضع يده اليمنى على اليسرى) وللبخاري " على ظهر كفه اليسرى " ، وعند الكشميهنيّ " خدّه الأيمن " بدل " يده اليمنى " وهو أشبه لئلا يلزم التّكرار.

قوله: (وشبّك بين أصابعه.) فيه دليل على جواز تشبيك الأصابع في المسجد ، وإذا جاز في المسجد فهو في غيره أجوز.

قال ابن بطّال: ورد في النّهي عن التّشبيك في المسجد مراسيل ومسندة من طرقٍ غير ثابتةٍ. انتهى.

وكأنّه يشير بالمسند إلى حديث كعب بن عُجْرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا توضّأ أحدكم ، ثمّ خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكنّ يديه فإنّه في صلاة. أخرجه أبو داود وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان.

وفي إسناده اختلاف ضعّفه بعضهم بسببه.

وروى ابن أبي شيبة من وجهٍ آخر بلفظ: إذا صلَّى أحدكم فلا يشبّكنّ بين أصابعه ، فإنّ التّشبيك من الشّيطان. وإنّ أحدكم لا يزال في صلاةٍ ما دام في المسجد حتّى يخرج منه. وفي إسناده ضعيف ومجهول.

وقال ابن المنير: التّحقيق أنّه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذ المنهيّ عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنّما هو لمقصود التّمثيل، وتصوير المعنى في النّفس بصورة الحسّ.

ص: 435

قلت: هو في حديث أبي موسى وابن عمر (1) كما قال، بخلاف حديث أبي هريرة.

وجمع الإسماعيليّ بأنّ النّهي مقيّد بما إذا كان في الصّلاة أو قاصداً لها ، إذ منتظر الصّلاة في حكم المُصلِّي، وأحاديث الباب الدّالة على الجواز خالية عن ذلك.

أمّا الأوّلان فظاهران، وأمّا حديث أبي هريرة. فلأنّ تشبيكه إنّما وقع بعد انقضاء الصّلاة في ظنّه، فهو في حكم المنصرف من الصّلاة.

والرّواية التي فيها النّهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة كما قدّمنا، فهي غير معارضةٍ لحديث أبي هريرة كما قال ابن بطّال.

واختلف في حكمة النّهي عن التّشبيك.

فقيل: لكونه من الشّيطان كما تقدّم في رواية ابن أبي شيبة.

وقيل: لأنّ التّشبيك يجلب النّوم ، وهو من مظانّ الحدث.

وقيل: لأنّ صورة التّشبيك تشبه صورة الاختلاف كما نبّه عليه في حديث ابن عمر ، فكره ذلك لمن هو في حكم الصّلاة حتّى لا يقع في المنهيّ عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم للمصلين " ولا تختلفوا فتختلف

(1) يقصد الحديثين اللذين أوردهما البخاري في " صحيحه " مع حديث أبي هريرة في " باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره ".

أما حديث أبي موسى فأخرجه برقم (481) ومسلم أيضاً (2585) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك أصابعه.

أما الآخر. فأخرجه (478) عن ابن عمر أو ابن عمرو: شبَّك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه.

ص: 436

قلوبكم " (1).

قوله: (وخرجت السَّرَعان) بفتح المهملات، ومنهم: من سكّن الرّاء ، وحكى عياض ، أنّ الأصيليّ ضبطه بضمٍّ ثمّ إسكان ، كأنّه جمع سريع ككثيب وكثبان. والمراد بهم أوائل النّاس خروجاً من المسجد ، وهم أصحاب الحاجات غالباً.

قوله: (قُصِرتِ الصّلاة) في رواية لهما " أقصرت الصّلاة " بهمزة الاستفهام، فتحمل هذه على تلك.

وفيه دليلٌ على ورعهم إذ لَم يجزموا بوقوع شيءٍ بغير علمٍ ، وهابوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسألوه، وإنّما استفهموه ، لأنّ الزّمان زمان النّسخ.

وقصرت بضمّ القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول. أي: أنّ الله قصرها، وبفتحٍ ثمّ ضمٍّ على البناء للفاعل. أي: صارت قصيرة.

قال النّوويّ: هذا أكثر وأرجح.

قوله: (فهابا أن يُكلِّماه) للبخاري " فهاباه " بزيادة الضّمير، والمعنى أنّهما غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه. وأمّا ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلّم العلم.

قوله: (وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ ، يقال له: ذو اليدين) وهو محمولٌ على الحقيقة، ويحتمل: أن يكون كنايةً عن طولها بالعمل أو

(1) أخرجه مسلم في الصحيح (432) عن أبي مسعود، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "

ص: 437

بالبذل ، قاله القرطبيّ.

وجزم ابن قتيبة: بأنّه كان يعمل بيديه جميعاً.

وحكي عن بعض شرّاح " التّنبيه " أنّه قال: كان قصير اليدين ، فكأنّه ظنّ أنّه حميد الطّويل ، فهو الذي فيه الخلاف.

وقد تقدّم أنّ الصّواب التّفرقة بين ذي اليدين وذي الشّمالين.

وذهب الأكثر: إلى أنّ اسم ذي اليدين الْخِرْباق - بكسر المعجمة وسكون الرّاء بعدها موحّدة وآخره قاف - اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم. ولفظه " فقام إليه رجلٌ يقال له الخرباق ، وكان في يده طول "(1).

وهذا صنيع من يوحّد حديث أبي هريرة بحديث عمران ، وهو الرّاجح في نظري. وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التّعدّد.

والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السّياقين، ففي حديث أبي هريرة ، أنّ السّلام وقع من اثنتين ، وأنّه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبةٍ في المسجد، وفي حديث عمران ، أنّه سلم من ثلاث ركعاتٍ ، وأنّه دخل منزله لَمّا فرغ من الصّلاة.

فأمّا الأوّل: فقد حكى العلائيّ ، أنّ بعض شيوخه حمله على أنّ

(1) وتمامه عند مسلم (574) من طريق خالد الحذَّاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى العصر، فسلَّم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، - وكان في يديه طول – فقال: يا رسول الله. فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم.

ص: 438

المراد به ، أنّه سلم في ابتداء الرّكعة الثّالثة. واستبعده.

ولكنّ طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدّد القصّة ، فإنّه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرّةٍ استفهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، واستفهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّحابة عن صحّة قوله.

وأمّا الثّاني: فلعل الرّاوي لَمّا رآه تقدّم من مكانه إلى جهة الخشبة. ظنّ أنّه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله.

فإن كان كذلك ، وإلَّا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه. كما أخرجه الشّافعيّ وأبو دواد وابن ماجه وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه. كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في " زيادات المسند " وأبو بكر بن أبي خيثمة وغيرهم.

وقول محمّد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة. يدل على أنه كان يرى التّوحيد بينهما، وذلك أنّه قال في آخر حديث أبي هريرة: نبّئت أنّ عمران بن حصين ، قال: ثمّ سلم.

قوله: (فقال: لَم أنس ولَم تقصر) كذا في أكثر الطّرق، وهو صريحٌ في نفي النّسيان ونفي القصر.

وفيه تفسيرٌ للمراد بقوله في رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلم " كلّ ذلك لَم يكن ".

وتأييد لِمَا قاله أصحاب المعاني: إنّ لفظ كلّ. إذا تقدّم وعقبها النّفي كان نفياً لكل فردٍ لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخّرت ، كأن يقول:

ص: 439

لَم يكن كلّ ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله " قد كان بعض ذلك " وأجابه في هذه الرّواية بقوله " بلى قد نسيت " ، لأنّه لَمّا نفى الأمرين ، وكان مقرّراً عند الصّحابيّ أنّ السّهو غير جائزٍ عليه في الأمور البلاغيّة جزم بوقوع النّسيان لا بالقصر.

وهو حجّةٌ لِمَن قال: إنَّ السّهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التّشريع، وإن كان عياضٌ نقل الإجماع على عدم جواز دخول السّهو في الأقوال التّبليغيّة وخصّ الخلاف بالأفعال، لكنّهم تعقّبوه.

نعم. اتّفق من جوّز ذلك على أنّه لا يقرّ عليه ، بل يقع له بيان ذلك إمّا متّصلاً بالفعل أو بعده كما وقع في هذا الحديث من قوله " لَم أنس ولَم تقصر " ، ثمّ تبيّن أنّه نسي، ومعنى قوله " لَم أنس " أي: في اعتقادي لا في نفس الأمر، ويستفاد منه أنّ الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين.

وفائدة جواز السّهو في مثل ذلك بيان الحكم الشّرعيّ إذا وقع مثله لغيره.

وأمّا من منع السّهو مطلقاً ، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبةٍ.

فقيل: قوله " لَم أنس " نفيٌ للنّسيان، ولا يلزم منه نفي السّهو. وهذا قول من فرّق بينهما. ويكفي فيه قوله في هذه الرّواية " بلى قد نسيت " وأقرّه على ذلك.

وقيل: قوله " لَم أنس " على ظاهره وحقيقته ، وكان يتعمّد ما يقع منه من ذلك ليقع التّشريع منه بالفعل لكونه أبلغ من القول.

ص: 440

وتعقّب: بحديث ابن مسعود في الصحيحين ففيه " إنّما أنا بشرٌ أنسى كما تنسون " ، فأثبت العلة قبل الحكم ، وقيّد الحكم بقوله " إنّما أنا بشر " ولَم يكتف بإثبات وصف النّسيان حتّى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا ، فقال " كما تنسون ".وبهذا الحديث يردّ أيضاً القول الآتي.

وقيل: معنى قوله " لَم أنس " إنكار اللفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال " إنّى لا أنسى ، ولكن أنسّى "، وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره حيث قال: بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا. (1)

وقد تعقّبوا هذا أيضاً: بأنّ حديث " إنّي لا أنسى .. " ، لا أصل له ، فإنّه من بلاغات مالك التي لَم توجد موصولة بعد البحث الشّديد.

وأمّا الآخر: فلا يلزم من ذمّ إضافة نسيان الآية ذمّ إضافة نسيان كل شيءٍ فإنّ الفرق بينهما واضح جدّاً.

وقيل: إنّ قوله " لَم أنس " ، راجع إلى السّلام ، أي: سلمت قصداً بانياً على ما في اعتقادي أنّي صليت أربعاً.

وهذا جيّد، وكأنّ ذا اليدين فهم العموم ، فقال " بلى قد نسيت " وكأنّ هذا القول أوقع شكّاً احتاج معه إلى استثبات الحاضرين. وبهذا التّقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلاً ولَم يقبل خبره بمفرده، فسبب التّوقّف فيه كونه أخبر عن أمرٍ يتعلق بفعل المسئول مغاير لِمَا في اعتقاده.

(1) أخرجه البخاري (4744) ومسلم (790) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه -

ص: 441

وبهذا يجاب مَن قال: إنّ من أخبر بأمرٍ حسّيٍّ بحضرة جمع لا يخفى عليهم ، ولا يجوز عليهم التّواطؤ ولا حامل لهم على السّكوت عنه ثمّ لَم يكذّبوه أنّه لا يقطع بصدقه، فإنّ سبب عدم القطع كون خبره معارضاً باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به.

وفيه أنّ الثّقة إذا انفرد بزيادة خبرٍ. وكان المجلس متّحداً ، أو منعت العادة غفلتهم عن ذلك أن لا يقبل خبره.

وفيه العمل بالاستصحاب ، لأنّ ذا اليدين استصحب حكم الإتمام فسأل، مع كون أفعال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للتّشريع، والأصل عدم السّهو والوقت قابل للنّسخ، وبقيّة الصّحابة تردّدوا بين الاستصحاب وتجويز النّسخ فسكتوا، والسّرعان هم الذين بنوا على النّسخ ، فجزموا بأنّ الصّلاة قصرت فيؤخذ منه جواز الاجتهاد في الأحكام.

وفيه جواز البناء على الصّلاة لمن أتى بالمنافي سهواً.

قال سحنون: إنّما يبني من سلم من ركعتين كما في قصّة ذي اليدين ، لأنّ ذلك وقع على غير القياس فيقتصر به على مورد النّصّ ، وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشيّ فيمنعه مثلاً في الصّبح.

والذين قالوا يجوز البناء مطلقاً ، قيّدوه بما إذا لَم يطل الفصل.

واختلفوا في قدر الطّول.

فحدّه الشّافعيّ في " الأمّ " بالعرف، وفي البويطيّ: بقدر ركعة، وعن أبي هريرة: قدر الصّلاة التي يقع السّهو فيها.

وفيه أنّ الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام، وأنّ السّلام ونيّة

ص: 442

الخروج من الصّلاة سهواً لا يقطع الصّلاة، وأنّ سجود السّهو بعد السّلام، وأنّ الكلام سهواً لا يقطع الصّلاة خلافاً للحنفيّة.

وأمّا قول بعضهم: إنّ قصّة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصّلاة. فضعيف ، لأنّه اعتمد على قول الزّهريّ: إنّها كانت قبل بدر، وقد قدّمنا أنّه إمّا وهم في ذلك ، أو تعدّدت القصّة لذي الشّمالين المقتول ببدر ولذي اليدين الذي تأخّرت وفاته بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصّة كما تقدّم وشهدها عمران بن حصين وإسلامه متأخّر أيضاً.

وروى معاوية بن حديج - بمهملة وجيم مصغّراً - قصّة أخرى في السّهو. ووقع فيها الكلام ثمّ البناء ، أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما ، وكان إسلامه قبل موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشهرين.

وقال ابن بطّال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم " ونهينا عن الكلام " أي: إلَاّ إذا وقع سهواً أو عمداً لمصلحة الصّلاة، فلا يعارض قصّة ذي اليدين. انتهى.

واستدل به على أنّ المقدّر في حديث " رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان " أي: إثمهما وحكمهما خلافاً لمن قصره على الإثم.

واستُدلَّ به على أنّ تعمّد الكلام لمصلحة الصّلاة لا يبطلها.

وتعقّب: بأنّه صلى الله عليه وسلم لَم يتكلم إلَاّ ناسياً، وأمّا قول ذي اليدين له " بلى قد نسيت " وقول الصّحابة له " صدق ذو اليدين " ، فإنّهم تكلموا معتقدين النّسخ في وقتٍ يمكن وقوعه فيه ، فتكلموا ظنّاً أنّهم ليسوا

ص: 443

في صلاة.

كذا قيل. وهو فاسد، لأنّهم كلّموه بعد قوله صلى الله عليه وسلم " لَم تقصر ".

وأجيب: بأنّهم لَم ينطقوا ، وإنّما أومئوا كما عند أبي داود في رواية ساق مسلمٌ إسنادها، وهذا اعتمده الخطّابيّ ، وقال:

حمل القول على الإشارة مجاز سائغ بخلاف عكسه فينبني ردّ الرّوايات التي فيها التّصريح بالقول إلى هذه، وهو قويّ، وهو أقوى من قول غيره: يُحمل على أنّ بعضهم قال بالنّطق وبعضهم بالإشارة.

لكن يبقى قول ذي اليدين " بلى قد نسيت ".

ويجاب عنه وعن البقيّة على تقدير ترجيح: أنّهم نطقوا بأنّ كلامهم كان جواباً للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وجوابه لا يقطع الصّلاة كما في حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسولَ الله، إني كنت أصلي، فقال: أَلَم يقل الله {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِمَا يحييكم} .

وتعقّب: بأنّه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصّلاة.

وأجيب: بأنّه ثبت مخاطبته في التّشهّد وهو حيٌّ بقولهم " السّلام عليك أيّها النّبيّ " ولَم تفسد الصّلاة، والظّاهر أنّ ذلك من خصائصه.

ويحتمل: أن يقال ما دام النّبيّ صلى الله عليه وسلم يراجع المُصلِّي فجائز له جوابه حتّى تنقضي المراجعة ، فلا يختصّ الجواز بالجواب لقول ذي اليدين " بلى قد نسيت " ولَم تبطل صلاته. والله أعلم.

وفيه أنّ سجود السّهو لا يتكرّر بتكرّر السّهو - ولو اختلف الجنس

ص: 444

- خلافاً للأوزاعيّ، وروى ابن أبي شيبة عن النّخعيّ والشّعبيّ ، أنّ لكل سهو سجدتين. وورد على وِفْقِه حديث ثوبان عند أحمد. وإسناده منقطع.

وحمل على أنّ معناه: أنّ من سها بأيّ سهوٍ كان ، شرع له السّجود. أي: لا يختصّ بما سجد فيه الشّارع، وروى البيهقيّ من حديث عائشة: سجدتا السّهو تجزئان من كل زيادة ونقصان.

وفيه أنّ اليقين لا يترك إلَاّ باليقين، لأنّ ذا اليدين كان على يقينٍ أنّ فرضهم الأربع، فلمّا اقتصر فيها على اثنتين سأل عن ذلك ، ولَم ينكر عليه سؤاله.

وفيه أنّ الظّنّ قد يصير يقيناً بخبر أهل الصّدق، وهذا مبنيّ على أنّه صلى الله عليه وسلم رجع لخبر الجماعة.

واستدل به على أنّ الإمام يرجع لقول المأمومين في أفعال الصّلاة ، ولو لَم يتذكّر ، وبه قال مالك وأحمد وغيرهما.

ومنهم: من قيّده بما إذا كان الإمام مجوّزاً لوقوع السّهو منه، بخلاف ما إذا كان متحقّقاً لخلاف ذلك أخذاً من ترك رجوعه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين ورجوعه للصّحابة.

ومن حجّتهم قوله في حديث ابن مسعود الماضي " فإذا نسيت فذكّروني ".

وقال الشّافعيّ: معنى قوله " فذكّروني " أي: لأتذكّر، ولا يلزم منه أن يرجع لمجرّد إخبارهم، واحتمال كونه تذكّر عند إخبارهم لا

ص: 445

يدفع.

وفرّق بعض المالكيّة والشّافعيّة أيضاً بين ما إذا كان المخبرون ممّن يحصل العلم بخبرهم ، فيقبل ويقدّم على ظنّ الإمام أنّه قد كمّل الصّلاة بخلاف غيرهم.

قال الزين بن المنير: محلّ الخلاف في هذه المسألة ، هو ما إذا كان الإمام شاكّاً، أمّا إذا كان على يقينٍ من فعل نفسه. فلا خلاف أنّه لا يرجع إلى أحد. انتهى

وقال ابن التّين: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم شكّ بإخبار ذي اليدين ، فسألهم إرادة تيقّن أحد الأمرين، فلمّا صدّقوا ذا اليدين علم صحّة قوله.

وقال ابن بطّال بعد أن حكى الخلاف في هذه المسألة: حمل الشّافعيّ رجوعه صلى الله عليه وسلم على أنّه تذكّر فذكر، وفيه نظرٌ؛ لأنّه لو كان كذلك لبيّنه لهم ليرتفع اللبس، ولو بيّنه لنقل، ومن ادّعى ذلك فليذكره.

قلت: قد ذكره أبو داود من طريق الأوزاعيّ عن الزّهريّ عن سعيد وعبيد الله عن أبي هريرة بهذه القصّة قال: ولَم يسجد سجدتي السّهو حتّى يقّنه الله ذلك.

واستنبط منه بعض العلماء القائلين بالرّجوع اشتراط العدد في مثل هذا وألحقوه بالشّهادة، وفرّعوا عليه أنّ الحاكم إذا نسي حكمه ، وشهد به شاهدان أنّه يعتمد عليهما.

ص: 446

واستدل به الحنفيّة على أنّ الهلال لا يقبل بشهادة الآحاد إذا كانت السّماء مصحية ، بل لا بدّ فيه من عدد الاستفاضة.

وتعقّب: بأنّ سبب الاستثبات كونه أخبر عن فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف رؤية الهلال ، فإنّ الأبصار ليست متساوية في رؤيته بل متفاوتة قطعاً.

وعلى أنّ من سلم معتقداً أنّه أتمّ ثمّ طرأ عليه شكٌّ. هل أتمّ أو نقص أنّه يكتفي باعتقاده الأوّل. ولا يجب عليه الأخذ باليقين.

ووجهه: أنّ ذا اليدين لَمّا أخبر أثار خبره شكّاً، ومع ذلك لَم يرجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى استثبت.

وعلى جواز التّعريف باللقب ، وحاصله أنّ اللقب إن كان ممّا يعجب الملقّب ولا إطراء فيه ممّا يدخل في نهي الشّرع فهو جائز أو مستحبّ، وإن كان ممّا لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلَاّ إن تعيّن طريقاً إلى التّعريف به حيث يشتهر به ولا يتميّز عن غيره إلَاّ بذكره، ومن ثَمَّ أكثر الرّواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم.

والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لَمّا سلم في ركعتين من صلاة الظّهر فقال: أكما يقول ذو اليدين ". وإلى التّفصيل في ذلك ذهب الجمهور واختاره البخاري (1).

(1) أورد البخاري الحديث في كتاب الأدب. وبوب عليه (باب ما يجوز من ذكر الناس، نحو قولهم: الطويل والقصير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يقول ذو اليدين ، وما لا يُراد به شين الرجل).

ص: 447

وشذّ قوم. فشدّدوا حتّى نقل عن الحسن البصريّ ، أنّه كان يقول: أخاف أن يكون قولنا حميداً الطّويل غيبة، وكأنّ البخاريّ لَمّح بذلك حيث ذكر قصّة ذي اليدين وفيها ، وفي القوم رجل في يديه طول.

قال ابن المنير: أشار البخاريّ إلى أنّ ذكر مثل هذا ، إن كان للبيان والتّمييز فهو جائز ، وإن كان للتّنقيص لَم يجز.

قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنّها قصيرة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: اغتبتيها ، وذلك أنّها لَم تفعل هذا بياناً إنّما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب. انتهى.

والحديث المذكور أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب الغيبة " وابن مردوية في " التفسير " و .... في

من طريق حسان بن مخارق عن عائشة. وهو .. (1)

واستدل به التّرجيح بكثرة الرّواة.

وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنّ المقصود كان تقوية الأمر المسئول عنه لا ترجيح خبرٍ على خبرٍ.

(1) بياضات في الأصل. وأخرجه أيضاً إسحاق بن راهوية في " مسنده "(1613) والأصبهاني في " الترغيب والترهيب "(2226) من طريق إبي إسحاق الشيباني عن حسان به.

قال الحافظ العراقي في " تخريج الأحياء ": حسان وَثَّقَه ابن حبَان وباقيهم ثِقَات. انتهى. وللحديث طرق أخرى عند أحمد (41/ 500) والبيهقي في " الشعب "(9/ 115) وابن وهب في " جامعه " رقم (558) وغيرهم.

ص: 448

قوله: (فصلَّى ما ترك. ثمّ سلم ، ثمّ كبّر وسجد).

اختلف في سجود السّهو بعد السّلام ، هل يشترط له تكبيرة إحرام ، أو يكتفى بتكبير السّجود؟.

القول الأول: الجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث.

القول الثاني: حكى القرطبيّ: أنّ قول مالك لَم يختلف في وجوب السّلام بعد سجدتي السّهو، قال: وما يتحلل منه بسلامٍ لا بدّ له من تكبيرة إحرام.

ويؤيّده ما رواه أبو داود من طريق حمّاد بن زيد عن هشام بن حسّان عن ابن سيرين في هذا الحديث قال " فكبّر ثمّ كبّر وسجد للسّهو ".

قال أبو داود: لَم يقل أحدٌ " فكبّر ثمّ كبّر " إلَاّ حمّاد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزّيادة.

وقال القرطبيّ أيضاً: قوله يعني في رواية مالك عند البخاري " فصلَّى ركعتين ثمّ سلم ، ثمّ كبّر ثمّ سجد " يدلّ على أنّ التّكبيرة للإحرام ، لأنّه أتى بثمّ التي تقتضي التّراخي، فلو كان التّكبير للسّجود لكان معه.

وتعقّب: بأنّ ذلك من تصرّف الرّواة، ففي حديث الباب من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين بلفظ " فصلَّى ما ترك ، ثمّ سلم ثمّ كبّر وسجد " فأتى بواو المصاحبة التي تقتضي المعيّة. والله أعلم.

قوله: (فربّما سألوه: ثمّ سلم) أي: ربّما سألوا ابن سيرين هل في

ص: 449

الحديث ثمّ سلم؟ فيقول: نبّئت إلخ " ، وهذا يدلّ على أنّه لَم يسمع ذلك من عمران.

وقد بيّن أشعث في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران ، فقال: قال ابن سيرين: حدّثني خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن عمّه أبي المُهلَّب عن عمران بن حصين. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ، ووقع لنا عالياً في جزء الذّهليّ، فظهر أنّ ابن سيرين أبهم ثلاثة. وروايته عن خالدٍ من رواية الأكابر عن الأصاغر.

تكميلٌ: اختلف أهل العلم في التشهد في سجدتي السهو.

أمّا قبل السّلام.

القول الأول: الجمهور على أنّه لا يعيد التّشهّد.

القول الثاني: حكى ابن عبد البرّ عن الليث أنّه يعيده، وعن البويطيّ عن الشّافعيّ مثله وخطّؤوه في هذا النّقل ، فإنّه لا يعرف.

القول الثالث: عن عطاءٍ يتخيّر، واختلف فيه عند المالكيّة.

وأمّا من سجد بعد السّلام.

فحكى التّرمذيّ عن أحمد وإسحاق أنّه يتشهّد، وهو قول بعض المالكيّة والشّافعيّة، ونقله أبو حامد الإسفرايينيّ عن القديم، لكن وقع في " مختصر المزنيّ " سمعت الشّافعيّ يقول: إذا سجد بعد السّلام تشهّد، أو قبل السّلام أجزأه التّشهّد الأوّل.

وتأوّل بعضهم هذا النّصّ على أنّه تفريعٌ على القول القديم ، وفيه ما لا يخفى.

ص: 450

وأخرج البخاري عن سلمة بن علقمة، قال: قلت لمحمد في سجدتي السهو تشهد؟ قال: ليس في حديث أبي هريرة " وفي رواية أبي نعيمٍ " فقال: لَم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئاً ، وأحبّ إليّ أن يتشهّد ".

وقد يفهم من قوله " ليس في حديث أبي هريرة " أنّه ورد في حديث غيره وهو كذلك. فقد رواه أبو داود والتّرمذيّ وابن حبّان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمّد بن سيرين عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن أبي المُهلَّب عن عمران بن حصين ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم فسها، فسجد سجدتين ثمّ تشهّد ثمّ سلم.

قال التّرمذيّ: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشّيخين. وقال ابن حبّان: ما روى ابن سيرين عن خالدٍ غير هذا الحديث. انتهى.

وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر. وضعّفه البيهقيّ وابن عبد البرّ وغيرهما. ووهّموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفّاظ عن ابن سيرين، فإنّ المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التّشهّد.

وروى السّرّاج من طريق سلمة بن علقمة أيضاً في هذه القصّة " قلت لابن سيرين: فالتّشهّد؟ قال: لَم أسمع في التّشهّد شيئاً ".

وفي رواية الباب من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين قال: نبّئت أنّ عمران بن حصين قال: ثمّ سلم. وكذا المحفوظ عن خالدٍ بهذا

ص: 451

الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التّشهّد. كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذّة.

ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التّشهّد في سجود السّهو يثبت.

لكن قد ورد في التّشهّد في سجود السّهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنّسائيّ، وعن المغيرة عند البيهقيّ. وفي إسنادهما ضعف.

فقد يقال: إنّ الأحاديث الثّلاثة في التّشهّد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن.

قال العلائيّ: وليس ذلك ببعيدٍ، وقد صحّ ذلك عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبي شيبة.

ص: 452