الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والستون
114 -
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: كنتُ أنامُ بين يدَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلتِه ، فإذا سجد غَمَزَني ، فقبضتُ رجلَيَّ ، فإذا قام بسطتُهما. والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيحُ. (1)
قوله: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته) أي: في مكان سجوده، ويتبيّن ذلك من الرّواية الأخرى في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عنها ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي ، وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة. زادا في رواية لهما " فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت "(2)
(1) أخرجه البخاري (375 ، 491 ، 1151) ومسلم (512) من طرق عن مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة به.
وأخرجه البخاري (376 ، 493) ومسلم (512) من طريقين عن عروة عن عائشة نحوه. وله طريق آخر سيذكره الشارح.
(2)
قال الحافظ في " الفتح "(2/ 628): واستُدلّ به على وجوب الوتر. لكونه صلى الله عليه وسلم سلك به مسلك الواجب ، حيث لَم يدعها نائمة للوتر وأبقاها للتهجد.
وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب ، نعم. يدل على تأكد أمر الوتر ، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية.
وفيه استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة ، ولا يختص ذلك بالمفروضة ، ولا بخشية خروج الوقت ، بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة ، وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات.
قال القرطبي: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب في الواجب مندوب في المندوب ، لأنَّ النائم وإن لَم يكن مكلفاً ، لكن مانعه سريع الزوال فهو كالغافل ، وتنبيه الغافل واجب. انتهى
واستدل به على أنّ المرأة لا تقطع الصّلاة ، فأخرج الشيخان عن مسروق، عن عائشة، وذُكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة ، فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي ، وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة " الحديث ، ولسعيد بن منصور من وجهٍ آخر " قالت عائشة: يا أهل العراق قد عدلتمونا " الحديث.
وللبخاري عن ابن أخي ابن شهاب، أنه سأل عمَّه عن الصلاة، يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
وقوله " لا يقطع الصلاة شيئ " صريحٌ من قول الزّهريّ، ورواها مالك في " الموطّأ " عن الزّهريّ عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه من قوله، وأخرجها الدّارقطنيّ مرفوعة من وجهٍ آخر عن سالمٍ. لكنّ إسنادها ضعيف.
ووردت أيضاً مرفوعة من حديث أبي سعيد عند أبي داود، ومن حديث أنس وأبي أُمامة عند الدّارقطنيّ، ومن حديث جابر عند الطّبرانيّ في " الأوسط " ، وفي إسناد كلٍّ منهما ضعفٌ.
وروى سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيحٍ عن عليّ وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفاً.
وكأنّ عائشة أشارت بذلك إلى ما رواه أهل العراق عن أبي ذرٍّ
وغيره في ذلك مرفوعاً، وهو عند مسلم وغيره من طريق عبد الله بن الصّامت عن أبي ذرٍّ (1)، وقيّد الكلب في روايته بالأسود.
وعند ابن ماجه من طريق الحسن البصريّ عن عبد الله بن مغفّل، وعند الطّبرانيّ من طريق الحسن أيضاً، عن الحكم بن عمر نحوه من غير تقييد، وعند مسلم من حديث أبي هريرة كذلك.
وعند أبي داود من حديث ابن عبّاس مثله، لكن قيّد المرأة بالحائض، وأخرجه ابن ماجه كذلك ، وفيه تقييد الكلب أيضاً بالأسود.
وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث.
القول الأول: مال الطّحاويّ وغيره إلى أنّ حديث أبي ذرٍّ وما وافقه ، منسوخ بحديث عائشة وغيرها.
وتعقّب: بأنّ النّسخ لا يصار إليه إلَاّ إذا علم التّاريخ وتعذّر الجمع، والتّاريخ هنا لَم يتحقّق ، والجمع لَم يتعذّر.
القول الثاني: مال الشّافعيّ وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذرٍّ: بأنّ المراد به نقص الخشوع لا الخروج من الصّلاة.
ويؤيّد ذلك أنّ الصّحابيّ راوي الحديث سأل عن الحكمة في التّقييد بالأسود فأجيب بأنّه شيطان. وقد علم أنّ الشّيطان لو مرّ بين يدي المُصلِّي لَم تفسد صلاته كما في الصّحيح " إذا ثوّب بالصّلاة أدبر الشّيطان فإذا قضى التّثويب أقبل حتّى يخطر بين المرء ونفسه "
(1) تقدم لفظه في حديث ابن عباس المتقدّم.
الحديث. وللبخاري من حديث أبي هريرة " إنّ الشّيطان عرض لي فشدّ عليّ ليقطع الصلاة عليَّ، فأمكننى الله منه " الحديث.
وللنّسائيّ من حديث عائشة " فأخذته فصرعته فخنقته "، ولا يقال قد ذكر في هذا الحديث أنّه جاء ليقطع صلاته؛ لأنّا نقول: قد بيّن في رواية مسلم سبب القطع، وهو " أنّه جاء بشهابٍ من نارٍ ليجعله في وجهه ".
وأمّا مجرّد المرور فقد حصل ولَم تفسد به الصّلاة.
القول الثالث: قال بعضهم: حديث أبي ذرٍّ مُقدَّم؛ لأنّ حديث عائشة على أصل الإباحة. انتهى.
وهو مبنيٌّ على أنّهما متعارضان، ومع إمكان الجمع المذكور لا تعارض.
القول الرابع: قال أحمد: يقطع الصّلاة الكلب الأسود، وفي النّفس من الحمار والمرأة شيء.
ووجّهه ابن دقيق العيد وغيره. بأنّه لَم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عبّاس (1) يعني الذي تقدّم في مروره وهو راكبٌ بمنىً، ووجد في المرأة حديث عائشة.
ووجه الدّلالة من حديث عائشة الذي احتجّ به ابن شهاب أنّ حديث " يقطع الصّلاة المرأة .. إلخ " يشمل ما إذا كانت مارّة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلمّا ثبت أنّه صلى الله عليه وسلم صلَّى وهي مضطجعةٌ أمامه
(1) حديث ابن عباس مضى قبل حديث عائشة حديث الباب.
دلَّ ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه.
وهذا يتوقّف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، فلو ثبت أنّ حديثها متأخّرٌ عن حديث أبي ذرٍّ لَم يدل إلَاّ على نسخ الاضطجاع فقط.
وقد نازع بعضهم في الاستدلال به مع ذلك من أوجهٍ أخرى:
أحدها: أنّ العلة في قطع الصّلاة بها ما يحصل من التّشويش، وقد قالت: إنّ البيوت يومئذٍ لَم يكن فيها مصابيح " ، فانتفى المعلول بانتفاء علته.
ثانيها: أنّ المرأة في حديث أبي ذرٍّ مطلقة ، وفي حديث عائشة مقيّدة بكونها زوجته، فقد يحمل المطلق على المقيّد، ويقال يتقيّد القطع بالأجنبيّة لخشية الافتتان بها بخلاف الزّوجة فإنّها حاصلة.
ثالثها: أنّ حديث عائشة واقعة حالٍ يتطرّق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذرٍّ فإنّه مسوق مساق التّشريع العامّ.
وقد أشار ابن بطّال إلى أنّ ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه كان يقدر من ملك إربه على ما لا يقدر عليه غيره.
وقال بعض الحنابلة: يعارض حديث أبي ذرٍّ وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحةٍ وصريحةٌ غير صحيحةٍ. فلا يترك العمل بحديث أبي ذرٍّ الصّريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المارّ وبين النّائم في القبلة أنّ المرور حرام بخلاف الاستقرار نائماً كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لبثها.
قوله: (فإذا سجد غمزني) استُدل به على أنّ لمس المرأة لا ينقض الوضوء.
وتعقّب: باحتمال الحائل، أو بالخصوصيّة.
قوله: (فقبضت رجلاي) وللبخاري " رجليَّ " كذا بالتّثنية للأكثر، وكذا في قولها " بسطتهما " وللمستملي والحمويّ " رجليْ " بالإفراد، وكذا " بسطتها "
قولها: (والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح) كأنّها أرادت به الاعتذار عن نومها على تلك الصّفة.
قال ابن بطّالٍ: وفيه إشعارٌ بأنّهم صاروا بعد ذلك يستصبحون. انتهى.
وفي قولها " والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح " إشارة إلى عدم الاشتغال بها. ولا يعكّر على ذلك كونه يغمزها عند السّجود ليسجد مكان رجليها كما وقع صريحاً في روايةٍ لأبي داود؛ لأنّ الشّغل بها مأمون في حقّه صلى الله عليه وسلم، فمن أمن ذلك لَم يكره في حقّه.
وبوّب البخاري على الحديث " باب الصلاة على الفراش " أي: سواء كان ينام عليه مع امرأته أم لا ، وقد صرّحت عائشة في الرواية الأخرى كما تقدم بأنّ ذلك كان على فراش أهله.
وكأنّ البخاري يشير إلى الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من طريق الأشعث عن محمّد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُصلِّي في لحفنا.
وكأنّه أيضاً لَم يثبت عنده، أو رآه شاذّاً مردوداً، وقد بيّن أبو داود علته.
وأخرج البخاري معلقاً. ووصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور كلاهما عن ابن المبارك عن حميدٍ قال: كان أنس يُصلِّي على فراشه.
وأخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن إبراهيم النّخعيّ عن الأسود وأصحابه ، أنّهم كانوا يكرهون أن يصلّوا على الطّنافس والفراء والمسوح. وأخرج عن جمعٍ من الصّحابة والتّابعين جواز ذلك.
وقال مالك: لا أرى بأساً بالقيام عليها إذا كان يضع جبهته ويديه على الأرض.
وفيه أنّ الصّلاة إلى النّائم لا تكره؛ وقد وردت أحاديث ضعيفة في النّهي عن ذلك، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عبّاس.
وقال أبو داود: طرقه كلّها واهية، يعني حديث ابن عبّاس. انتهى
وفي الباب عن ابن عمر. أخرجه ابن عديّ، وعن أبي هريرة. أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط ". وهما واهيان أيضاً.
وهي محمولة - إن ثبتت - على ما إذا حصل شغل الفكر به ، وكره مجاهد وطاوس ومالك الصّلاة إلى النّائم خشية أن يبدو منه ما يلهي المُصلِّي عن صلاته.
وظاهر تصرّف البخاري أنّ عدم الكراهية حيث يحصل الأمن من ذلك.
تكميلٌ: في رواية للشيخين. واللفظ للبخاري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وسط السرير، وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة. الحديث.
والسرير بمهملاتٍ. وزن عظيم معروف.
ذكر الرّاغب: أنّه مأخوذ من السّرور ، لأنّه في الغالب لأولي النّعمة. قال: وسرير الميّت لشبهه به في الصّورة وللتّفاؤل بالسّرور، وقد يعبّر بالسّرير عن الملك، وجمعه أسرّة وسرر بضمّتين، ومنهم: من يفتح الرّاء استثقالاً للضّمّتين.
قال ابن بطّال: فيه جواز اتّخاذ السّرير والنّوم عليه ونوم المرأة بحضرة زوجها. وقال ابن التّين: وقوله فيه " وسط السّرير " قرأناه بسكون السّين، والذي في اللّغة المشهورة بفتحها.
وقال الرّاغب: وسط الشّيء يقال بالفتح للكميّة المتّصلة كالجسم الواحد نحو وسطه صلب، ويقال: بالسّكون للكميّة المنفصلة بين جسمين نحو وسط القوم.
قلت: وهذا ممّا يرجّح الرّواية بالتّحريك، ولا يمنع السّكون.