الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المرور بين يدي المُصلِّي
الحديث الثاني والستون
111 -
عن أبي جهيم بن الحارث بن الصّمّة الأنصاريّ رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلم المارّ بين يديْ الْمُصلِّي ماذا عليه من الإثم (1) لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه.
قال أبو النّضر: لا أدري ، قال أربعين يوماً أو شهراً أو سنةً. (2)
قوله: (عن أبي جهيم بن الحارث) قيل اسمه عبد الله ، وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه قال: يقال هو الحارث بن الصمّة. فعلى هذا لفظة ابن زائدة بين أبي جهيم والحارث ، لكن صحَّح أبو حاتم أنَّ الحارث اسم أبيه لا اسمه ، وفرَّق ابن أبي حاتم بينه وبين عبد الله بن جهيم يكنى أيضاً أبا جهيم.
وقال ابن منده: عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة. فجعل الحارث اسم جده ، ولم يوافق عليه ، وكأنَّه أراد أن يجمع الأقوال المختلفة فيه.
والصِّمة بكسر المهملة وتشديد الميم. هو ابن عمرو بن عتيك
(1) قوله " من الإثم " ليست في الصحيحين ، وهو وهْمٌ من صاحب العمدة. كما سينبِّه عليه الشارح.
(2)
أخرجه البخاري (488) عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم (507) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد: أنَّ زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المارِّ بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: فذكره
الخزرجي.
وفي الصحابة شخص آخر يقال له أبو الجهم - وهو صاحب الإنبجانية - (1) وهو غير هذا لأنه قرشي وهذا أنصاري ، ويقال بحذف الألف واللام في كلٍّ منهما وبإثباتهما.
قوله: (بين يدي المُصلِّي) أي: أمامه بالقرب منه، وعبّر باليدين لكون أكثر الشّغل يقع بهما.
واختلف في تحديد ذلك.
فقيل: إذا مرّ بينه وبين مقدار سجوده، وقيل: بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل: بينه وبين قدر رمية بحجر.
قوله: (ماذا عليه من الإثم) زاد الكشميهنيّ " من الإثم " ، وليست هذه الزّيادة في شيءٍ من الرّوايات عند غيره، والحديث في الموطّأ بدونها.
وقال ابن عبد البرّ: لَم يختلف على مالك في شيءٍ منه.
وكذا رواه باقي السّتّة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولَم أرها في شيءٍ من الرّوايات مطلقاً. لكن في مصنّف ابن أبي شيبة " يعني من الإثم ".
فيحتمل: أن تكون ذكرت في أصل البخاريّ حاشية فظنّها الكشميهنيّ أصلاً؛ لأنّه لَم يكن من أهل العلم ، ولا من الحفّاظ ، بل كان راوية.
(1) سيأتي حديثه إن شاء الله برقم (135).
وقد عزاها المحبّ الطّبريّ في الأحكام للبخاريّ وأطلق، فعِيْب ذلك عليه ، وعلى صاحب العمدة في إيهامه أنّها في الصّحيحين.
وأنكر ابن الصّلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها في الخبر ، فقال: لفظ الإثم. ليس في الحديث صريحاً.
ولَمَّا ذكره النّوويّ في شرح المهذّب دوَّنها قال: وفي روايةٍ روّيناها في الأربعين لعبد القادر الهرويّ " ماذا عليه من الإثم ".
قوله: (لكان أن يقف أربعين) يعني: أنّ المارّ لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المُصلِّي لاختار أن يقف المدّة المذكورة حتّى لا يلحقه ذلك الإثم.
وقال الكرمانيّ: جواب " لو " ليس هو المذكور، بل التّقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيراً له. وليس ما قاله متعيّناً، قال: وأبهم المعدود تفخيماً للأمر وتعظيماً.
قلت: ظاهر السّياق. أنّه عيّن المعدود ، ولكن شكّ الرّاوي فيه.
ثمّ أبدى الكرمانيّ لتخصيصٍ الأربعين بالذّكر حكمتين:
إحداهما: كون الأربعة أصل جميع الأعداد. فلمّا أُريد التّكثير ضربت في عشرة.
ثانيتهما: كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنّطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشدّ. ويحتمل غير ذلك. انتهى.
وفي ابن ماجه وابن حبّان من حديث أبي هريرة " لكان أن يقف مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها ". وهذا يشعر بأنّ إطلاق
الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر ، لا لخصوص عددٍ معيّنٍ.
وجنح الطّحاويّ إلى أنّ التّقييد بالمائة وقع بعد التّقييد بالأربعين زيادةً في تعظيم الأمر على المارّ؛ لأنّهما لَم يقعا معاً إذ المائة أكثر من الأربعين ، والمقام مقام زجرٍ وتخويفٍ فلا يناسب أن يتقدّم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخّر. ومميّز الأربعين إن كان هو السّنة ثبت المدّعى، وأمّا دونها فمن باب الأولى.
وقد وقع في مسند البزّار من طريق ابن عيينة عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن أبي الجهيم التي ذكرها ابن القطّان " لكان أن يقف أربعين خريفاً ". أخرجه عن أحمد بن عبدة الضّبّيّ عن ابن عيينة.
وقد جعل ابن القطّان الجزم في طريق ابن عيينة. والشّكّ في طريق غيره دالاًّ على التّعدّد، لكن رواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وغيرهم من الحفّاظ عن ابن عيينة عن أبي النّضر على الشّكّ أيضاً ، وزاد فيه " أو ساعة "، فيبعد أن يكون الجزم والشّكّ وقعا معاً من راوٍ واحدٍ في حالةٍ واحدةٍ إلَاّ أن يقال: لعلَّه تذكّر في الحال فجزم، وفيه ما فيه.
قوله: (خيراً له) كذا في روايتنا بالنّصب على أنّه خبر كان، ولبعضهم " خير " بالرّفع. وهي رواية التّرمذيّ، وأعربها ابن العربيّ على أنّها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنّكرة لكونها موصوفةً.
ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشّأن والجملة خبرها.
قوله: (قال أبو النّضر) هو كلام مالكٍ ، وليس من تعليق البخاريّ، لأنّه ثابتٌ في الموطّأ من جميع الطّرق. وكذا ثبت في رواية الثّوريّ وابن عيينة.
قال النّوويّ: فيه دليل على تحريم المرور، فإنّ معنى الحديث النّهي الأكيد والوعيد الشّديد على ذلك. انتهى.
ومقتضى ذلك أن يعدّ في الكبائر ، وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فاته أو استثباته فيما سمع معه. وفيه الاعتماد على خبر الواحد؛ لأنّ زيداً اقتصر على النّزول مع القدرة على العلوّ اكتفاءً برسوله المذكور.
وفيه استعمال " لو " في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النّهي، لأنّ محلّ النّهي أن يشعر بما يعاند المقدور.
تنبيهات:
أحدها: استنبط ابن بطّال من قوله " لو يعلم " أنّ الإثم يختصّ بمن يعلم بالنّهي وارتكبه. انتهى.
وأخذُه من ذلك فيه بعدٌ، لكن هو معروفٌ من أدلةٍ أخرى.
ثانيها: ظاهر الحديث أنّ الوعيد المذكور يختصّ بمن مرّ. لا بمن وقف عامداً مثلاً بين يدي المُصلِّي. أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة فيه التّشويش على المُصلِّي فهو في معنى المارّ.
ثالثها: ظاهره عموم النّهي في كلّ مصلٍّ، وخصّه بعض المالكيّة بالإمام والمنفرد؛ لأنّ المأموم لا يضرّه من مرّ بين يديه؛ لأنّ سترة إمامه سترة له أو إمامه سترة له. انتهى.
والتّعليل المذكور لا يطابق المدّعى؛ لأنّ السّترة تفيد رفع الحرج عن المُصلِّي لا عن المارّ، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك.
رابعها: ذكر ابن دقيق العيد: أنّ بعض الفقهاء أي: المالكيّة قسّم أحوال المارّ والمُصلِّي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام: يأثم المارّ دون المُصلِّي، وعكسه يأثمان جميعاً، وعكسه.
فالصّورة الأولى: أن يُصلِّي إلى سترةٍ في غير مشرعٍ ، وللمارّ مندوحة فيأثم المارّ دون المُصلِّي.
الثّانية: أن يُصلِّي في مشرعٍ مسلوك بغير سترةٍ أو متباعداً عن السّترة ، ولا يجد المارّ مندوحة. فيأثم المُصلِّي دون المارّ.
الثّالثة: مثل الثّانية ، لكن يجد المارّ مندوحة فيأثمان جميعاً.
الرّابعة: مثل الأولى لكن لَم يجد المارُّ مندوحة فلا يأثمان جميعاً. انتهى.
وظاهر الحديث يدلّ على منع المرور مطلقاً ولو لَم يجد مسلكاً ، بل يقف حتّى يفرغ المُصلِّي من صلاته. ويؤيّده قصّة أبي سعيد (1) فإن فيها " فنظر الشاب فلم يجد مساغاً ".
وقول إمام الحرمين: إنّ الدّفع لا يشرع للمصلي في هذه الصّور تبعه الغزاليّ، ونازعه الرّافعيّ.
وتعقّبه ابن الرّفعة: بما حاصله أنّ الشّابّ إنّما استوجب من أبي سعيد الدّفع لكونه قصّر في التّأخّر عن الحضور إلى الصّلاة حتّى وقع
(1) حديث أبي سعيد متفق عليه. وفد ذكره المصنف مختصراً. وسيأتي بعد هذا. فانظره.
الزّحام. انتهى.
وما قاله محتمل ، لكن لا يدفع الاستدلال؛ لأنّ أبا سعيد لَم يعتذر بذلك؛ ولأنّه متوقّفٌ على أنّ ذلك وقع قبل صلاة الجمعة أو فيها. مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها فلا يتّجه ما قاله من التّقصير بعدم التّبكير، بلى كثرة الزّحام حينئذٍ أوجه، والله أعلم.
التنبيه الخامس: وقع في رواية أبي العبّاس السّرّاج من طريق الضّحّاك بن عثمان عن أبي النّضر " لو يعلم المارّ بين يدي المُصلِّي والْمُصلَّى ".
فحمله بعضهم: على ما إذا قصّر المُصلِّي في دفع المارّ أو بأن صلَّى في الشّارع، ويحتمل: أن يكون قوله " والمصلَّى " بفتح اللام. أي: بين يدي المُصلِّي من داخل سترته، وهذا أظهر، والله أعلم.